إضاءة لـنص”أمشط أظافر السنين لأمسح الذاكرة” لـ حيدر الشماع

سي مختار حمري | شاعر وناقد – المغرب

أولا – النص:

ولدنا من الضوء
ونحمل منه ارواحنا
ندلف عبر الزجاج بلاضجيج
ونموت في الظل عراة
تغلفنا أوراق صحائفنا
لايفاجئنا الندم
تغيب صورنا تحت اضلاعنا
ويذوي الشعاع
نحمل الخوف والانتظار
ربما تنفعنا اورادنا عملناها سرا

ابحرنا
وكل تيار يتلوى بنا
سيرنا مراكبنا نبحث عن منفذ للتأريخ
المتواري خلف أجيال
خلف غايات الخيال
عن أصوات وأغاني تلاشت
عن الفطرة الاولى
عن شجرة أوراقنا المتساقطة
ورقة ورقة
مع هبوب الاوقات
مسافرة نحو الابدية

ايتها العنقاء المنبعثة من الرماد
من أين لنا بالريح
تمخر عباب الذاكرة
وسط ليل وهلوسة
ووسوسة زمن ردئ
يرتدي قناع الفرح
يسير بخفي حنين
وحيدا
كليل أضاع نجومه

ثانيا – القراءة: 

(1) العتبة الأولى العنوان :”أمشط ظفائر السنين لأمسح الذاكرة” العنوان يتكون من جملتين فعليتين بفعلين مضارعين يربط بينهما (اللام) وهو حرف نصب يفيد التعليل(السببية) يدخل على الفعل المضارع وينصبه ويبين سبب حدوث الفعل (الحدث) أمشط/لأمسح :هناك علاقة علة (سببية)بين الجملتين..
الفعلين المضارعين يعودان إلى ضمير المتكلم (الذات الشاعرة) ويفيدان استمرارية الزمن النحوي من الماضي مرورا بالحاضر إلى المستقبل ما يعني أن الذات الشاعرة منهمكة طيلة الزمن في المشط والمسح.
المسح قد لايعني فقط ازالة الأثار لكن قد يعني التعرف واحصاء كل العناصر(نقول مثلا المسح الطبوغرافي ) لمسرح معين ، وقد يشترك مع مفهوم المشط الذي يعني التخلل “مشط ظفائر السنين” بمعنى خلخلة وتمديد ما أصابها من تشابك وطي والتواء نصل الى ان هناك تقاربا دلاليا في بعض المقومات بينهما.
نتساءل هل النص سيكون مسحا شاملا لما تم تأريخه (أرشفته) أو تزمنه في الذاكرة؟! هل ستتحكم نظرة الشاعرفي سرد أحداث الذاكرة منذ بداية تشكلها في ديمومة خطية كما هو المفهوم عند “برغسون”؟! أو مفهوم الزمن عند العامة ام ديمومة من تراكم لحظات منفصلة كما هو المفهوم عند “باشلار”؟! التطرق لأحداث فارقة..منفصلة هل يتعلق الأمر بذاكرة فردية (ذات الشاعر:جوانية ) أم بالذاكرة الجمعية (برانية )؟
العنوان يستدعي الذاكرة كزمن ( سنين ) أحداث مستمرة لان المستقبل يوجد في الماضي (سواء خططنا له أو لم نخطط )/ العنوان يطرح السببية ( العلة ) وهي مفهوم فلسفي يدل على الروابط التي تجمع بين الظواهر فالظاهرة الأولى ( تسمى السبب أو العلة ) تحتم الظاهرة الثانية ( التي تسمى المعلول أو الأثر ) والعلة مبدأ أساسي للتصورات عن العالم ”فلكل ظاهرة علة ” وهي من المقولات الأساسية في البحث العلمي وقد تطرق لها العديد من الفلاسفة اليونانيين والمسلمين إلى ”ليبنيتز” الذي صاغها كمبدا وقد عارضها بعض الفلاسفة التجريبيين مثل ”دافيد هيوم” .
يحضرني هنا كتاب ”مبدأ العلة ” لهيدغر (حول ليبنيتز) بأسلوبه السحري الشيق وجاء في كتابه ذكر مثال لأحد المتصوفة الألمان يقول : الوردة تتفتح بدون لماذا .. وتساءل ماعلة تفتح الوردة ؟ لماذا تتفتح الوردة ؟ الوردة تتفتح بدون لماذا ..وكان موضوع تأمل شيق ..يشبه العنوان الذي نحن بصدده ..لماذا أمشط ظفائر السنين ؟ لأمسح الذاكرة ..ولماذا ضاد ظفائر معجمة ..؟؟ ولماذا نمسح الذاكرة .. (لكل حدث علة).
سندخل النص لإنجاز مسح لتضاريسه عكازنا الذي نتكىء عليه هو الأسئلة المطروحة
2–النص:
ولدنا من الضوء
ونحمل منه أرواحنا
ندلف عبر الزجاج بلا ضجيج
ونموت في الظل عراة
تغلفنا أوراق صحائفنا
لا يفاجئنا الندم
تغيب صورنا تحت أضلاعنا
ويذوي الشعاع
نحمل الخوف والإنتظار
ربما تنفعنا أورادنا عملناها سرا
النون في ولدنا بمعنى ”نحن” فهي تعود إلى الإنسانية .. استعمل الفعل (ولدنا ) وتم تجنب الفعل (خلقنا) التي لها دلالات قد تقودنا الى المقدس مباشرة … وهنا أظهر الشاعر ذكاءه وتمكنه اللغوي والعلمي فكلمة ولادة استعارها من معجم علوم الإحياء(البيولوجيا ) وهي تخص الثديات وتقتضي نمو ، في رحم ، ومخاض عسير ، الذي رمز إليه الشاعر بالضوء دلالة على (رحم/ نمو / مخاض ).. ما يمكن أن نفهمه أن الإنسانية كانت في الظلام فحدث لها تطور يشبه ما يعرفه الجنين عند الثديات أخرجها إلى النور.
من البداية بدأنا نلمس أن الذاكرة المعبر عنها في العنوان قد تكون جمعية لا فردية وهذا يجعلنا نفكر في نظرية التطور ( عند داروين) فتطور الكائنات الحية البدائية أحادية الخلية عبر ملايير السنين على الأرض نجم عنه ظهور الإنسان الذي يعتبر قمة التطور مكنه من ذلك مادته الوراثية ADN التي اكتسبها ليحوز عقلا راقيا لا يوجد له مثيل في عالم الإحياء على الأرض ، والذي نعتبره أساسا لخروجه من الظلام إلى الضوء وميلادا للحضارات وكل ما هو مكتسب في حياة الإنسان( الدين ،الأسطورة ، التقاليد ،العادات والفنون)، وقد يكون للضوء أو (النور) دلالات أخرى منها البعد الديني(الروحي)
{الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة ، كأنها كوكب ذري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء، وضرب الله الأمثال للناس والله بكل بشيءعليم’}’ (سورة النور)
من خلال بعض التفسيرات نصل الي أن : الكون نور ، القرآن نور، النبي نور، العقل نور
{‘نور على نور”} شرحها أبو حامد الغزالي بنور العقل ونور الشرع
نصل ألى أن هناك طريقتين للفهم ، الأولى: – تتعلق بتطور إحيائي نجم عنه تطور وراثي عبر عدة مليارات( أكثر من 3) منذ بداية الحياة على الأرض نجم عنه ظهور العقل الإنساني الذي كان وراء ظهور الحضارات البائدة و المعاصرة منها …
أو الثانية : الأمر يعود إلى المشيئة الإلهية في خلق وهداية الإنسان واخراجه من الظلمات ألى النور حسب منطوق الديانات السماوية المختلفة شكلا المتفقة مضمونا نحمل منه ارواحنا.. الروح لها دلالات فلسفية، دينية وعلمية لهذا نجد تقاطع بين مختلف الفلسفات والديانات والتي تنص على أن الروح شيء معنوي قائم في الذات الإنسانية وعلى أساسه يتم الإدراك والوعي والشعور الإنساني وأقدم بعض المقاربات لمفهوم الروح
— الاسلام :{”يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي”}(الاسراء 85 )
–المسيحية : الروح نظام غيبي غير مرئي هي مبعث كل ثمرة حسنة عند الأنسان عكس الجسد فهو مذموم
— اليهودية : ”نور الله هو روح الله”
— الصوفية: الروح لطيفة ربانية تتميز بالكمال والمحمودية وبها يحقق الإنسان المحبة والإتصال بالخالق
–الفلسفة: الروح هي الحقيقة المفكرة عموما تتضمن ثلاثة دلالات : الروح //المادة ، الروح// الطبيعة ، الروح// الجسد
علميا: عام 2016 اثبتت جامعة كامبريدج أن الغدة الصنوبرية Glande pineale التي تفرز هو مون النوم الميلاتونين Melatonine هي موقع التفاعلات عندما نقوم بالتأمل والصلاة واعتبرت مركز حياتنا الروحية .
–الفرق بين الضوءوالنور:
يقال أن الضوء والنور مترادفان لغويا في اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية
الأشعة التي تأتي مباشرة من مصدر الضوء تسمى ”ضوء”و التي تأتي من مصدر ضوء غير مباشر تسمى نورا ‘(نقول ضوء الشمس ونور القمر)
الضوء : كل الأشعة المرئية أو غيرالمرئية ( فوق البنفسجية UV وتحت الحمراء IR )
النور :طيف الأشعة المرئية من الإنسان إذا الإنسان ولد من الضوء(النور) ومنه يستمد روحه اي عقله وكل ما وصل إليه من حضارة بل قد وصل إلى مستوى يعبر فيه الزجاج ببطء أي اختراق ماهو شفاف دون أن يحدث أية ضجة كالشعاع . بالعقل استطاع العبور إلى المتناهي في الصغر وفي الكبر وتعددت الاقنعة التي يستعملها .. لكن الموت يلازمه في الظل لأن الأشعة تحجب عنه بأجسام صلبة أو افكار غامضة وتختفي الأقتعة ليظهر على حقيقته عاريا ..
تغلفنا أوراق صحائفنا
صحائفنا : م : صحيفة جمع صحيفات ، صحائف ، صحف .. تعني كل ما ارتكبناه من أخطاء (ذنوب) ، أعمال جيدة ( حسنات ) أو بمفهوم ديني صحائف أعمالنا ( مصطلح فقهي) كتُب أعمالنا التي قمنا بها في الدنيا وقد ذكرت الصحف في عدة سور :{ ”إن هذا لفي الصحف الأولى صحف ابراهيم وموسى ”} (الاعلى 18)
{”إذا الصحف نشرت ”} (التكوين 10)
{” فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ”} (الانشاق 7-8)
‘{‘ وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسايبه ‘}
(الحاقة25-25)
لا يفاجئنا الندم لأننا نعرف أعمالنا ونتائجها وما ينتظرنا من جزاء والندم يكون متوقعا فتغيب صورنا أو كما نتصور أنفسنا تحت أضلاعنا في قلوبنا حيث العاطفة تحولنا إلى أفراد ضعاف النفس والهمة فيذبل شعاعنا وقدراتنا ومقدراتنا فمع تقدم الزمن نشيخ ونهرم ونضعف فيتملكنا الخوف من النهاية من الموت .. نعيش في ظروفا عصيبة في انتظار وخوف..
ربما في هذه المرحلة لن ينفعنا إلا اورادنا أي ماقرءناه من قرءان وذكر وما قمنا به من صلاة خلال اجزاء من الليل خفية في سرية ( تعني ايضا ما قدمناه من أفعال خير ودعوات)
خلاصة المقطع الأول : البداية كانت الولادة والنهاية كانت المواجهة المريرة مع نهائية الانسان زمنيا ما يعني التقدم اتجاه االموت بالتقدم في السن تم اعتماد ضدية : الولادة //الموت وتم استعمال الفاظ ذات بعد نفسي ، فلسفي ، روحي وثقافي الروح /الصحائف/الاوراد : بعد فلسفي روحي ثقافي الندم /الذبول (يذوي)/الخوف / الانتظار/الموت : ذات بعد نفسي يعبر عن القلق الجواني باسم الإنسانية واللاوعي الجماعي تعبر عن القلق الفلسفي الوجودي
نسجل هنا اعتماد الإعتقاد الديني لتجاوز التناقضات أو القلق الوجودي والنفسي هناك رؤية تأملية فلسفية عميقة تتجلى في كلمة الضوء والروح اللتين لهما عمق لا نهائي أسوق هنا بعض التوجهات الفلسفية التي تمت ملامستها و تتعلق بالقلق الوجودي
– هيدغر يعتبر فيلسوفا وجوديا : مفهوم ”الوجود – اتجاه – الموت ” يقول إني انسان موشوم بالتناهي إذن أعيش موتي في كل لحظة أسير أليه أو يسير إلي .. يعتبر الموت كطريقة لفهم وجودنا في العالم ….
– قلق كيركيكارد : الأب الروحي المؤسس للفلسفة الوجودية (المؤمنة) الذي ربط مفهوم القلق بموضوع الخطيئة الأولى فكان قلقه لا هوتيا نلمس أن النص في روحه يميل إلى هذا التوجه .. –ونقول من جهتنا مع أبيقور : ”إن الموت لا يعنيني البثة فهو إن وجد لن أكون موجودا وإن وجدت أنا فهو لن يكون موجودا ”
ابحرنا
وكل تيار يتلوى بنا
سيرنا مركبنا نبحث عن منفذ للتأريخ
المتواري خلف الأجيال
خلف الخيال
عن أصوات وأغاني تلاشت
عن الفطرة الأولى
عن شجرة أوراقنا المتساقطة
ورقة ورقة
مع هبوب الأوقات
مسافرة نحو الأبدية
ابحرنا بدأت رحلتنا البحرية أي بحر هو ؟؟
سيرت المراكب لتبحث عن منفذ للتأريخ ، اعادة كتابة التاريخ وهذا يتطلب التنقيب وتحليل ماتركته الأجيال السابقة والكشف عن تفاصيل المجتمعات ، هو عملية جمع المواد وتصنيفها وترتيبها ومن تم اظهارها ونشرها ، هو تسجيل وتوثيق الأحداث عبر الزمن وتقييمها .فالتاريخ يعتمد على التأريخ فلا يمكن أن يتذكر الماضي ونقيس عليه الحاضر إلا إذا تأرخ التاريخ بشكل مضبوط ومحايد نسبيا…
مواد التاريخ متوارية خلف الأجيال وهي من غايات الخيال في دائرة المفكر فيه ومحاولة الوصول للكشف عن كنهه . فهناك ما هو عل شكل أصوات وأغاني تلاشت.. كلام قيل أو كتب أو ادوات او أغاني كانت ترددها الأجيال تعبر عن الإندماج والتكيف مع الوسط البيئي كسيمفونيات تعود لحضارات قديمة تحضرني ”سيمفونية نينوى”وكتابات وفنون و…..
” عن الفطرة الأولى ”
الفطرة في الفلسفة تعني أن العقل البشري لا يولد كصفيحة فارغة بل يولد حاملا معه أساس المعرفة الفطرية البديهية والتي تتطور مع الخبرة.. رواد الفلسفة التجريبية (مثل دافيد هيوم ) انكروا وجود العلم الفطري واعتبروا المعرفة الإنسانية نتيجة الخبرة الحياتية.. أصحاب المذهب العقلاني : هناك أفكار فطرية تولد مع الإنسان
جون لوك: ينكر الفطرة ويقول لاتجربة : لا فطرة
ارسطو . : يرى أن الفطرة بكل اختصار هي الطبيعة
الفيلسوف العربي ابن طفيل : يطلق عليه اسم فيلسوف الفطرة . من خلال قراءة كتابه”حي بن يقضان ” ندرك العمق الفلسفي لتناوله الفطرة بشكل أعم وأشمل عند الإنسان والحيوان وكان يهدف إلى تصحيح الخطأ الذي وقع فيه ارسطو
الدين الاسلامي :
الفطرة هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها وجعلهم مفطورين عليها وعلى محبة الخير واتيانه وكراهية الشر ودفعه وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الإخلاص لله والتقرب إليه
يقول رسول الله(صلعم) : ”مامن مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه ”
ويقول تعالى : {” فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ”}( الروح 30)
نلاحظ أن هناك فريقين واحد مؤيد والآخر منكر لوجود فطرة أولى كما عبر عنه شاعرنا .. ”شجرة أوراقنا المتساقطة ”
البحث عن أصولنا التاريخية شبيه بالبحث عن الشجرةالتي كانت تجمع كل أوراقنا أي منجزاتنا الحضارية بجدورها ، جدعها ،تفرعاتها الثنائية وأوراقها بكل تفاصيلها والتي تعرت لتنكشف وتفقد جدواها ووزنها وهذا مع هبوب رياح الوقت يعني مع مرور السنين والعصور لتسافر نحو الأبدية حيت لا يمكن اللحاق بها لتصبح على شكل تماثيل أو اثار أو تحف للزينة فارغة المعاني والدلالات.
خلاصة الجزء الثاني :التأريخ// الفطرةالأولى // شجرة أورراقنا
الفطرة الأولى : العودة إلى الحالة الأولى التي كان عليها الإنسان وهذا موضوع اختلف عليه الفلاسفة فيما بيهم ومع رجال الدين ونال نصيبه كاملا من الجدل وهو قد يعني في رؤية توافقية وجود الأهلانية عند الإنسان (أهلية واستعداد ) في تركيبته الوراثية وقدرته على استقبال المعلومات وتذكرها وتحليلها وحل معضلاتها وكذلك النطق بها
شجرة أوراقنا : قد ترمز إلى حضارتنا التي افلت وتساقطت أوراقها كل ما يعطيها حياة مستديمة فعملية التركيب الضوئي عند النباتات تتم على مستوى الأوراق حيث التركيز الأكبر لليخضور ومنها تستمد طاقتها على النمو والبقاء ..
هي رؤية على ما يبدو لا زالت تمجد الماضي (التراث )متناسية أن الماضي مستمر متزمن في حاضرنا وعابر لمستقبلنا ..نلمس انه فكر لم يحسم بعد مع التراث و يرى في العودة اليه انقادا .. وفي هذا تعبير عن عدم القدرة على استشكاله بالمعاصر .. (هذا هو الفكر السائد في مجتمعاتنا وعند اغلب مثقفينا) مما يظهر نوعا من التناقض . استحضر كتاب شجرة الحضارة ل(رالف لنتون ) استاذ الدراسات الانتروبولوجيا تبعا لما اعتقده من أن خلفية هذا الجزء الثاني تاريخية و انتروبولوجية تصبو الى إعادة كتابة التاريخ واظهار ماكانت تخفيه شجرة الحضارة
اشير إلى أن ”نا” ( نحن ) في :ابحرنا // سيرنا // بنا// وما راكمت من مقومات بواسطة اداة الجر أو العطف تعني ماهو محلي أو أقليمي لم نعد نتموقع كما كنا نفترض على مستوى ماهو ”كوني” مع بداية الجزء الأول صرنا في خطنا الفهمي للنص على هامش الحضارة التي تسود في الوقت الحالي في بلدان تعيش التخلف والدمار …
أيتها العنقاء المنبعثة من الرماد
من أين لنا بالريح
تمخر عباب الذاكرة
وسط ليل وهلوسة
ووسوسة زمن رديء
يرتدي قناع الفرح
يسير بخفي حنين
وحيد
كليل اضاع نجومه
نتساءل لماذا استحضر الشاعر أسطورة العنقاء ؟؟ ربما بحثا عن ولادة جديدة .. يستجلب الشاعر ، الأسطورة رغبة في توظيف حمولتها الفلسفية الروحية؟
العنقاء طائرأسطوري خيالي معروف بالإسم مجهول الجسم يجدد نفسه ذاتيا بشكل متكرر فهو يولد من رماد احتراقه يرمز تارة الى التقمص في الفلسفة ” استنساخ الأرواح ” وأخرى إلي البعث بعد الموت ولهذا الطائر الخيالي نظائر في الثقافات الأخرى في اللاتينية (الفينيق) الإغريقية (( الفينيكس ) اليابنية (وهو-اوو) الصينية( فينج هيوانج ) الفارسية ( الققنوس ، سميرغ أوالهوما ) في المسيحية ( الفينيق ):
ذكر الإنجيل الفينيق حيث من خلاله اسقطت الدلالات الروحية والفلسفية على السيد المسيح الذي قال إن الفينيق يعود إلى الحياة مرة جديدة مشابهة للسيد المسيح في حين أن عودة الفينيق ألى الحياة من رمادها هي النسخة الأكثر شيوعا ”للولادة الجديدة”
الأسطورة الرومانية : العنقاء طائر خالد تتكون حياته من دورات زمنية بين 500 الى 1000سنة في كل دورة يحترق ومن رماده يخرج فينيق صغير وتعاد نفس الدورة بعد 500 الى 1000 سنة أخرى وهكذا على التوالي.
فلسفيا: عملية الإحتراق تذكرنا ”بهراقليطس” الفيلسوف اليوناني الذي كان يقول باحتراق الكون بطريقة دورية ليتجدد …
وعنه نقل ”الفيلسوف نتشه” ”نظرية العود الأبدي” أي أن الكون يحترق في دورات زمانية ليعود لما كان عليه بالضبط وبكل التفاصيل كل شيء يعاد كما كان في دورة جديدة من بدايته ليتطور إلى ما كان عليه في الدورة السالفة..
ايديولوجيا : استخدام عنصر ”تجدد الولادة ” لتمرير مجموعة من الأفكار
— الرمز للولادة والخلود
–صعود زعيم حكيم وعصر جديد
–الموت ليس نهاية بل بداية
المطابقة والتشابه :
لنفترض أن نيزكا ضخما ارتطم بالأرض ستنجم عنه ”أزمة بيولوجية سادسة ” سيتحول كل شيء إلى رماد لكن بعد ملايين أو ملايير السنين ستتطور مجموعات وأنواع وتزدهر الحياة على الأرض وهكذا ستولد الحياة من جديد من الرماد وقد حدث مايشبه ذلك من 60 مليون سنة (( الأزمة البيولوجية الخامسة )) التي أدت الى انقراض الديناصورات ومعها عدد كبير من الأنواع وعادت الحياة إلى الإزدهار مجددا .. وفي هذه الحالة قد نشبّه العنقاء بالنباتات أو الحيوانات أو الإنسان بهذا المعنى فعلا…مع اخذ عامل الزمان في الحسبان.
تمثل العنقاء فكرة مفادها أن النهاية هي البدايةوبالتالي ستولد مجددا مرارا وتكرارا في الأساطير البشرية والتخيلات ..
ربما كان اللجوء لهذه الأسطورة من طرف الشاعر تفكيرا في ”تجديد ولادة” الأمة والنهوض بها من كبوتها بالإنبعاث من رماد التخلف والدمار والإنكسارات التي ألمت بها بحثا عن دورة جديدة للحياة
الدمار (التخلف -الحروب …)//الرماد//تجدد الولادة // االعود الابدي( العودةالى ماكانت عليه الامة)//الخلق (التقدم) خلق واقع جديد لردم الهوة التي تفصلنا عن الأمم المتقدمة
هذا يعني أن الشاعر يشعر أن أمته في انحدار وفي تراجع مستديم وفي حالة الإنبعات من الرماد ، فالشاعر يتساءل من أين لنا بالريح وكأن الأمر يتعلق بسفينة شراعية ستقلع لتمخر عباب الذاكرة لتبحر في مياهها لتتقصى ما تخفيه وتستخرج كنوزها مهما كانت التيارات ملتوية في محاولة لتغيير الإتجاه وصرف الأنظار عن المهم الى التافه من الأمور وسط ليل وهلوسة فالليل يعني الظلام حيث تضعف و تفقد القدرة على الإبصار ماديا ، رمزيا فقدان الفكر للتبصر والبصيرة ، يضاف الى ذلك الهلوسة التي قد تصيب كل الحواس أي الأعضاء التي تمد الدماغ بالمعلومات الحسية التي من خلالها يتموقع في الزمان والمكان و الوسط البيئي ويحسن التنقل والتفكير والإندماج والمواءمة .. الهلوسة يمكن أن تصيب كل الحواس: سماع أصوات لا وجود لها ، رؤية أشياء وهمية ، شم روائح غريبة ،الشعور بمذاقات لا عهد بها .
وسوسة زمن رديء كلمة وسوسة لها حمولة دينية تجعلنا نستحضر وسوسة النفس :مايحدث به الإنسان نفسه بما لا جدوي منه ولا طائل من ورائه .. وسوسة الشيطان: مايحدث به الإنسان من شر أو بما لانفع فيه أو خير ..
وسوسة الشيطان : – شيطان الجان: {”فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ”’} (طه 120) – شيطان الإنس والجان : {”قل أعود برب الناس ملك الناس إله الناس، من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس”} (سورة الناس)
اذا الزمن الرديء الذي يعبر عنه النص تغلب عليه الأهواء النفسية المتجلية في الوسوسة وهو يظهر نوعا من الفرح المقنع الذي يوحي بالخروج من الأزمة الخانقة ، لكنه يسير بخفي حنين وهو مثل عربي يضرب عند اليأس وعدم ادراك الحاجة والسير بخيبة أمل وهو يسير وحيدا بلا مرافق بما يعني العزلة عن الزمن لأن الكل تبرأ منه كليل أضاع نجومه ، ليل شديد الظلمة لأنه قد اضاع مصابيحه المضيئة (نجومه )
نستنتج ان الوضع الذي قدم في هذه الفقرة ذاهب الى انحدار والى تراجع والقفلة في المبنى كانت سلبية ” ليل أضاع نجومه ” مما يعني أضاع ضوءه سواء المادي أو المعنوي المتمثل في العقول والطاقات البشرية التي إما هاجرت أو دمرت فضاع بضياعها كل أمل ..
وللحفاض على ببصيص من أمل أقول مع ”اسيل سوزان ” : ”الإنحدارات لا تؤدي بالضرورة إلى الأسفل فكم محنة تكشفت عن أجنحة وكم من أزمة شكلت انطلاقة جديدة وصنعت التاريخ ”
خلاصة الجزء الثالث: اسطورة العنقاء (بؤرة النص )//الريح(الروح)//الذاكرة (المسح)// ليل هلوسة ضياع //زمن رديء وسوسة خداع
3–خلاصة عامة:
ماجاء في النص من أفكار يمكن تقديمه هندسيا على شكل دائرة وسط مثلث الدائرة: الولادة // الدمار // تجدد الولادة ..ما يمثل دورة زمينة في تجدد مستمر
المثلث : القمة 1: الوقائعية – (الوجود – اتجاه- الموت): الوقائعية : الإنسان لايخير في المجيء الى الحياة و لا في المكان ولا في الزمان ولا اللغة ولا الدين ولا… مما يخلق نوعا من القلق إضافة الى نهائيته في الزمن وتهديد الموت له باستمرار … القمة 2: اعادة كتابة التاريخ ( التأريخ مجددا ).. احياء الحضارة الآفلة او استعادتها القمة 3: تجدد الولادة (الأمل)
نص ثري من حيث الفكر الروحي- الفلسفي.. يوظف المجاز بشكل كبير مما يضفي عليه جمالية تغري بقراءته ..يعتمد التناص النسيجي والخارجي بشكل متقن مندمج مما يجعل القارىء ينفتح على ثقافات متعددة وفكر متنوع .. النص قابل لتعدد القراءات ، قراءته مثقفة ، في خلفيته نجد فكرا مؤطرا مؤسسا يملك ثقافة واسعة وظفت بشكل جميل وبرؤية واضحة
استمتعت بقراءة النص وقضيت معه وقتا طيبا لما فتحه أمامي من عوالم متعددة : ثقافية -فلسفية-روحية دينية -نفسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى