شاهد.. مسرح المطبخ ورمزية فعل الأكل بالملتقى الأول للنص المسرحي

باريس | خاص

في إطار فعاليات المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح ألقى د. رضا الأبيض (جامعة قابس. تونس) ورقة بحثية عن مسرح المطبخ ورمزية فعل الأكل بالملتقى الأول للنص المسرحي قال فيها:

‎نعرض في الفقرة الأولى من مقالتنا ملاحظاتٍ أوّلية حول علاقة المسرح بالمطبخ. وفي الفقرة الثانية نتوقف عند مسرحية “وليمة عيد” لنضيء بعضَ ملامح الاشتغال الرمزي على الطعام في المسرح العربي المعاصر..
‎1- المسرح والمطبخ
‎بين المسرح والمطبخ علاقة تشابه طريفة. إنهما الإثنان فن تحوّل ومزج. فعلى الخشبة يكون العرض المسرحي ثمرة عمل مشترك تسهم فيه أطراف كثيرة (كاتب النص، الممثل، المخرج، موضب الديكور..) يتداخل فيه الصوت والحركة والإضاءة ، ويقدم إلى جمهور متفرج.. وفي المطعم أو على المائدة تقدم صنوف من المأكولات هي ثمرة خلط متقن بين العناصر والطعوم والألوان في طقوس تشبه طقوس العروض المسرحية.
‎ومن مظاهر الالتقاء والتشابه بين المطبخ والمسرح أنّ الخلط في كليهما محتاج إلى قدر من الإبداع والخيال.
‎عندما يجلس رواد المسرح قبالة الخشبة فهم لا يرون غير ما يعرض عليهم ممّا تمّ إعداده في الكوليس الذي تحجبه عنهم الستائر. كذلك الشأن إذا جلس الآكلون إلى مائدة الطعم، فهم لا يطلعون يطلعون على ما يجري في المطابخ والأفران ..
‎إننا إزاء فضاءين بقدر ما ينفتح أحدهما على الآخر ويتصل به ينفصل عنه.
‎ومن مظاهر الانفتاح الكلي إزاحة الحاجز في كثير من المعاطم الحديثة الأمر الذي جعل الحريف
‎يتابع عملية تحضير الأطباق بل قد يسهم فيها وهو ما يحوّل قاعة الأكل إلى ما يشبه قاعة العرض المسرحي.
‎والناظر في تاريخ العلاقة بين المسرح والمطبخ يلاحظ أنهما تعايشا منذ العص القديمة. ففي بعض النصوص المسرحية القديمة نلاحظ اهتماما بتيمة الأكل والجوع والنهم ،ونجد إشارات إلى الطعام والشراب وإلى الأواني والموائد..
‎رغم ذلك ظلت هذه التيمة ضعيفة الحضور، مقارنة بمركزية الطعام في حياة الناس. لقد تمّ اهمالها مثلما لاحظ ذلك بودلير عندما كتب في “صالون 1846″: هل سبق أن رأيتم شخصيات مأساوية تأكل وتشرب؟ 1
‎إنّ عنصر الطعام في المسرح، وإنْ ظلّ أو بدا ثانويا، ذو أهميّة كبرى لما له من دلالات أنثربولوجية ونفسية وفلسفية وجمالية 2.
‎بناء على ما تقدم يمكن القول إن العلاقة بين المسرح بما هو فن أدائي والمطبخ تثير كثيرا من الأسئلة الجمالية والفكرية والثقافية الهامة. وهو ما يشجعنا على أن نتساءل عن علاقة المسرح العربي بالمطبخ، وأن نبحث في كيفيات توظيف تيمة الطعام، وفي رمزيتها ودلالاتها، ومدى مساهمتها في تأصيل الفن المسرحي في بيئته الثقافية وواقع متلقيه اليومي.
‎2- مسرحية ” وليمة عيد”
‎نصّ “وليمة عيد” ليوسف شعبان مسلم. بطل المسرحية “عيد” الإنسان الطبيعي‮ الذي ‬لا‮ ‬يبغي‮ ‬من الحياة ‬سوي‮ ‬منطقها ومعقوليتها. ولكن للحياة في المسرحية منطق آخر معكوس يتحول فيه العاقل إلى مجنون والمجنون إلى عاقل..
‎إشارات كثيرة في النص على حالة الانقلاب هذه وعلى لا معقولية التفكير والسلوك والعادات والتي عاشها عيد مغتربا متردّدا بين الاعتراض والخضوع. ولأن “المنطق” الجديد للحياة المحيطة بالبطل كان أقوى استسلم له البطل مسلوب الإرادة.
‎في هذه المسرحية يرسم المؤلف المنظر على النحو التالي: “‬يتخذ المسرح شكل مطاعم الأكلات السريعة وذلك في‮ ‬التشكيل السينوجرافي‮ ‬الثابت،‮ ‬فهناك طاولات ومقاعد ومن الممكن وجود جهاز كاشيير في‮ ‬أحد الجوانب أو جانب من المطبخ،‮ ‬فينبغي‮ ‬أن‮ ‬يشعر المتفرج فور دخوله إلي‮ ‬المسرح أنه قد دخل مطعم،‮ ‬أما تغيير الأماكن فيتم باستخدام موتيفات صغيرة وقطع أثاث بسيطة تتغير في‮ ‬لحظات الإظلام بين المشاهد مع الحفظ علي‮ ‬روح المطعم في‮ ‬المنظر‮.. ‬أما بالنسبة للملابس فيفضل أن تنتفي‮ ‬عنها صفة الواقعية فمن الممكن استخدام خامات مثل الخيش أو قصاصات الأقمشة البالية بما‮ ‬يعطي‮ ‬إحساسًا بأن شخصيات العرض تحيا في‮ ‬عالم من القمامة‮..
‎و‬مع دخول الجمهور إلي‮ ‬قاعة العرض نري‮ ‬مجموعة من الراقصين‮ ‬يرتدون ملابس الطهاة وبينهم عيد مسلوب الإرادة تماما ويتم أداء استعراض حركي‮ ‬بسيط‮ ‬يقوم علي‮ ‬اعتبار أن عيد ذبيحة‮ ‬يتم تجهيزها كوجبة طعام‮..
‎وبعد نهاية الاستعراض‮ ‬يخرج الراقصون ويتركون عيد علي‮ ‬طاولة الطعام في‮ ‬وضع أشبة بالدجاجة المشوية‮ .. ‬يظهر الجرسون‮ . ”
‎هكذا نكون إزاء تداخل بين فضاءين : المطبخ والمسرح، وذلك باستثمار عناصر المطبخ المختلفة : الطاولات، أزياء الطهاة، الملاعق والسكاكين ..
‎ولكن الوجبة لن تكون طعاما على الحقيقة، بل كانت ” عيد” نفسه.. الذي مدّد في آخر العرض المسرحي على طاولة الطعام في وضع أشبه بالدجاجة المشوية.. يلتهمها الممثلون في إشارة رمزية إلى انتصار اللامعقول على العقل والحس الطبيعي السليم في واقع عربي تتالت فيه الخيبات والهزائم ، وواقع عالمي انقلبت فيه القيم رأسا على عقب.
‎ولقد اختار مؤلف المسرحية للتعبير عن هذا الانقلاب وضعيات ومواقف تبدو مثيرة للضحك مثل الجلوس على الكرسي بالقدمين والتبول في الشارع عوضا عن المرحاض واستعمال فرشاة الأسنان لتنظيف الأقدام ومشاهدة أفلام العنف والجنس لتهدئة الأعصاب…
‎إلى غير ذلك ممّا يبغي من ورائه المؤلف إحداث صمة في المشاهد وحملة على إعادة التفكير في ما يجري حوله.
‎إن المشهد الأخير في المسرحية بالغ الدلالة والرمزية، لأنه يخرج الجمهور المشاهد من صمته وحياده ويحمله لا على التعاطف مع الضحية فحسب بل الشعور بذنب الاشتراك في الجريمة أيضا، جريمة الاستسلام إلى طاحونة “المنطق” الجديد المقلوب الذي صار فيه الرأس (العقل والثقافة والعلم) مجلبة للفقر والمتاعب (السجن، الفصل من الوظيفة، الاتهام بالجنون) وصارت فيه القدم (كرة القدم) وسيلة للثراء والشهرة والحظوة الاجتماعية..
‎بناء على ما تقدّم نخلص إلى تأكيد العلاقة بين المسرح والمطبخ، وإلى أنه مثلما للطعام رمزيته في علاقة بالذاكرة والعواطف والهوية .. فإنّ حضور الطعام في المسرح لم يكن لغاية إضفاء الملامح الواقعية على الحدث والشخصيات، بل أيضا وهو الأهم بسبب ما وجد فيه بعض المبدعين من معان ودلالات رمزية يوفّرها فعل ” أكل”.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى