متاهة التفاوض وتعليق الآمال على أميركا

سعيد مضيه – مفكّر وخبير سياسي | فلسطين

 

إذا وثقت القيادة الفلسطينية في رام الله بتصريحات جو بايدن فعليها أن تثق بما صرح به مرشح بايدن لمنصب وزير الخارجية، إذ قال أن إدارته سوف لن تمارس الضغوط على إسرائيل. حسب أفضل الاحتمالات سوف تمضي إدارة بايدن مع سرب الاتحاد الأوروبي، ينتقدون على استحياء انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي ولحقوق الإنسان الفلسطيني ، وفي نفس الوقت يعززون علاقات التعاون معها وتقديم الدعم لها. المفارقة العجيبة أن دول الاتحاد الأوروبي تصوت ضد سياسات حكومات إسرائيل في الأمم المتحدة ، وتعاقب كل من ينتقد سياسات حكومة إسرائيل المجافية للقانون الدولي وللقرارات الدولية، إذ تلصق به جريمة اللاسامية مع ما يترتب عليها من عقوبات أقلها العزل السياسي!!

يحق في هذا السياق أن نسأل من يضغط لفرض إرادته؟

شهادة شخصية من وزن الرئيس الأميركي، اوباما في مذكراته التي صدرت قبل فترة وجيزة. اشتكى باراك اوباما أنه تلقى التحذير، عندما حاول لجم التوسع الاستيطاني. عدَ ل رئيس أكبر دولة، ودولة القطب الأوحد، عن ذلك التوجه كي لا يتعرض لغضب اللوبي الإسرائيلي. كل من رفع صوته بانتقاد إسرائيل يتهم باللاسامية ويتعرض مستقبله السياسي لخطر جدي. اوباما، وهو رئيس أكبر دولة، لدى اقتراحه تجميد الاستيطان عام 2009، “بدأت تضج أجراس هواتف بالبيت الأبيض، وشرع فريق الأمن التابع للرئيس يتلقى خطابات من محررين ومن رؤساء المنظمات اليهودية ومن أنصار بارزين وأعضاء الكونغرس، والكل يبدي الاستغراب لماذا إسرائيل بالذات… تواصل هذا النمط من الضغط معظم عام 2009” . بعد ذلك يبدي أوباما ملاحظته: “الضجة التي شرعها نتنياهو استهدفت إحداث تأثير أشيه بأصوات الديكة وضعتنا في حالة دفاع وتذكرني بأن الخلافات السياسية المعتادة مع رئيس وزراء إسرائيل – حتى وهو يرأس حكومة ائتلاف هش- تكلفني ثمنا باهظا لم أتكلفه لدى تعاملي مع المملكة المتحدة او المانيا او فرنسا او اليابان او كندا او أي من أقرب الحلفاء”.

تختزل مشكلة الجانب الفلسطيني أن الوعود معه ليست مقدسة، نظرا لاختلال التوازن من حيث القوة مع الطرف الإسرائيلي. والقوة لا تنحصر في شكيمة السلاح؛ إنما القوة الفاعلة والمغيرة لتوازن القوى تكمن في الجماهير المعبأة بالوعي الحداثي، المتأهبة للمواجهة بقوة حقوقها الوطنية. بدون التعبئة والحشد الشعبيين، بدون مقاومة شعبية فلسطينية تتصاعد باضطراد لا يلتفت العالم لمحنة شعب فلسطين، ولا يخطر ببال الإسرائيليين رفع العذابات اليومية عن الفلسطينيين ولا حتى اعتبار شعب فلسطين صاحب حقوق وطنية او إنسانية. سوف تمعن إسرائيل في القتل العشوائي ومصادرة الأراضي وبناء آلاف الشقق السكنية على الأراضي الفلسطينية وهدم البيوت والمنشئات، وتسليط المستوطنين يكسرون الأشجار ويخربون المزارع وينتهكون حرمة الأقصى وحرمة المساكن ويرعبون المزارعين بكلابهم الشرسة. قوة الشعب المنظم والمزود بوعي إشكاليات قضيته هي الرادع للهمجية؛ إما ضغوط مباشرة على إسرائيل او ضد الولايات المتحدة تتضافر فيها الحركات الوطنية الديمقراطية للمجتمعات العربية، تلزمها بدفع ثمن انحيازها لباطل إسرائيل وتضطرها، من ثم، لإعاد ة النظر في سياساتها بالشرق الأوسط.

للآسف الشديد لا ترى القيادة الفلسطينية في هذا الخيار الكفاحي طريق الخلاص؛ لا يفارقها الشعور الوطني بالأسى، تغضب وترفض وتعبر عن استيائها وتتحدى ترمب، وتحجم في نفس الوقت عن سلوك المقاومة الثورية. لا تراهن على موقف روسيا أو الصين، ولا تحفل بالرأي العام المتضامن مع العدالة للشعب الفلسطيني؛ فالأوهام مزمنة في موقف إحسان تبديه الدبلوماسية الأمريكية.

مما لا شك فيه ان القيادة الفلسطينية وصل مسامعها أكثر من تصريح بعدم ممارسة الضغوط على إسرائيل. كيف ستتصرف إن اشتط طيش ترمب وسمح لإسرائيل ضم أجزاء من الضفة؟ المطلعون في واشنطون لا يعتقدون ان بايدن سوف يلغي إجراءات سلفه، سواء ما يتعلق بالقدس او بصفقة العصر ؛ قد لا يعلن تأييدها ويترك إسرائيل تواصل تنفيذ بنودها، خاصة التمدد الاستيطاني. إدارة بايدن سوف لن تضغط على حكومة إسرائيل لوقف البناء الاستيطاني المكثف. ربما لا تصرح بالموافقة التامة على نهج الاستيطان، وتسلك درب الحياد الشكلي في العلن ، بينما تقدم المساعدات المالية والعسكرية والسياسية لإسرائيل. والحياد او اللامبالاة بين معتد وضحية هو عمليا دعم للمعتدي بكل تأكيد.

قوى الليبرالية والليبرالية الجديدة في دول الغرب الامبريالية لا تزعج إسرائيل ؛ وما من دولة في العالم المعاصر مستعدة لممارسة ضغوط على إسرائيل تضطرها الى احترام العدالة الدولية، ما لم يحصل صدام بين المقاومة الشعبية ودولة الاحتلال. بالطبع هناك دول تدعم سياسات إسرائيل وممارساتها المناهضة لتحرر مجتمعات المنطقة وديمقراطيتها وتطورها المستقل. إدارة ترمب لم تزل تدعم ممارسات سيطرة إسرائيل المطلقة داخل المنطقة، وتتدخل مباشرة لحمل الأنظمة الأبوية التابعة على التطبيع مع إسرائيل وما يترتب على التطبيع من رهن الاقتصاد والسياسة والثقافة والأمن بالمشيئة الإسرائيلية . لم يحن وقت الاطمئنان الى انها لن تغري حكومة نتنياهو بإعلان ضم مناطق الضفة. تعجلت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وعبرت عن استعدادها إعادة التعاون مع الإدارة الأميركية الجديدة، ولما تتسلم الإدارة مهامها؛ اولويات إدارة بايدن تنحصر في إعادة تمتين التحالف الامبريالي لتحدي التيارات المناهضة للامبريالية، ومنها الحركات الوطنية في المنطقة، طبعا، بالتعاون مع إسرائيل. ويقول المطلعون أن الشرق الأوسط سيكون آخر القضايا التي تتفرغ لها الإدارة الجديدة، ولن يحدث تغيير جذري في السياسات التقليدية المتبعة.

كررت اللجنة التنفيذية الفهم المغلوط لصفقة القرن، إذ حصرت الصفقة في نقل القنصلية وقطع المساعدات المالية وإلغاء مكتب المنظمة في واشنطون وغيرها من البنود التي أقدمت عليها إدارة ترمب. ربما تلقت القيادة الفلسطينية من مجموعة بايدن، إذا أحسنا الظن، وعدا بتجميد الصفقة وليس إلغائها . يتوجب القول أن العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب على الفلسطينيين هي عواقب الصفقة وضغوط لفرض قبولها. صفقة القرن ماثلة ويجري تفعيلها على مدار الساعة في البناء الاستيطاني على الأراضي الفلسطينية المحتلة ، أي ضم المناطق الى الدولة المحتلة وتهويدها طبقا لقانون يهودية دولة إسرائيل، الذي أقرة الكنيست.صفقة القرن مجسدة أيضا في القدس الموحدة عاصمة دولة إسرائيل، الجاري تهويد القسم الشرقي المحتل طبقا للقانون الدولي، والتي لم يصدر عن إدارة بايدن ولو تلميح بالعدول عنها او إعادة النظر فيها. صفقة القرن تتمثل في قانون يهودية دولة إسرائيل، أسقط حق المواطنة وتقرير المصير للشعب الفلسطيني، أهل البلاد الأصليين؛ تحت سيف التهجير المصلت . حكومة نتنياهو تأمر بهدم بيوت الفلسطينيين ، وتنفذ مشاريع مكثفة للبناء السكني فوق الأرض الفلسطينية المحتلة ، معلنة بذلك ضمها بصورة عملية.

إسرائيل تضيق الحصار حول الشعب الفلسطيني؛ تواصل إرهابها لكل من يعارض ممارساتها ، تساندها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. توجه تهم اللاسامية وكراهية اليهود واليهودي الكاره نفسه او اليهودي الرديء ضد كل من يتعاطف مع الشعب الفلسطيني في محنته القاسية وينتقد ممارسات إسرائيل المناقضة للقانون الدولي وحقوق الإنسان الفلسطيني. غدت اللاسامية أداة سياسية لإسكات المدافعين عن الشرعية الدولية والمطالبين باحترام حقوق الشعب الفلسطيني. افلحت مساعي إسرائيل وانصارها في الولايات المتحدة واوروبا بالإطاحة بجريمي كوربين ، رئيس حزب العمال لمدة خمس سنوات، والعدو اللدود للعنصرية بشتى تلاوينها، أطيح به متهما باللاسامية، وبذلك تلقت الرأسمالية الاحتكارية في بريطانيا مكرمة من الصهيونية ، إذ خلصتها من سياسي يريد تقليص أرباح الاحتكارات وتقييد نزعتها العدوانية.

 

وقبل ذلك وجد مارك وادزوورث ، وهو من السود المناهضين للعنصرية، نفسه متهما باللاسامية وعلقت عضويته بحزب العمال البريطاني ، عقابا على تعرضه ليهودية عضو عن حزب العمال في البرلمان، هي روث سميث. كانت مسئولة مجموعة اللوبي اليهودي داخل حزب العمال و تستخدم الميديا لاتهام خصومها السياسيين اليساريين باللاسامية. مؤخرا عين ستارمر ، رئيس حزب العمال البريطاني ، الذي يتلقى راتبا من إحدى المنظمات الصهيونية.. عين سميث مديرة منظمة مراقبة حرية التعبير ، وذلك ضمن جهود قمع الحريات الأساس، و مواكبة للتداعي السريع للتفكير النقدي داخل منظمات المجتمع المدني ، ومن موقعها تستطيع قمع انتقاد إسرائيل، ومهاجة”اليهود السيئين”.

هذه المرة تستهدف مطاردة الساحرات اليساريين اليهود ، منتفدي حكومات إسرائيل ، ومعارضي الاحتلال وكل يهودي يدعم حملة مقاطعة منتجات المستعمرات اليهودية بالضفة ، او المنتجات الإسرائيلية. فهؤلاء “اليهود السيئين” يقرون ان الشعب الفلسطيني له على أقل تقدير الحق في تقرير المصير ، في الكرامة والأمن على أرض وطنهم التاريخي، شأن اليهود الذين هاجروا الى فلسطين هربا من اضطهاد الأوروبيين. ما نراه هنا توضيح لمبدأ في جوهر إيديولوجيا الصهيونية لدولة إسرائيل : إسرائيل بحاجة للاسامية ؛ وإسرائيل تخترع اللاسامية بالمعنى الحرفي للكلمة لو لم تكن موجودة.

في المانيا برز كل من كلاين وشوستر يقودان حملة مطاردة منتقدي إسرائيل، حملا كلا من السلطات المحلية والميديا والجامعات والمؤسسات الثقافية على الإقدام على إقصاء يهود ، حتى يهود إسرائيليين يعملون في ألمانيا ، عن الجمهور الألماني والأماكن الثقافية.

عواصف تثيرها سفارات إسرائيل ومنظمات يهودية ترهب وتفرض الصمت. منذ ان قرر مجلس النواب في ألمانيا – البوندستاغ- مساواة حركة مقاطعة إسرائيل والتضامن مع شعب فلسطين باللاسامية خيمت سطوة الإرهاب على ألمانيا. وكتبت صحيفة هآرتس الإسرائيلية في الثقافة العلمانية المهيمنة في أوربا وأميركا فإن قداسة دولة إسرائيل العسكرية تعلو فوق طهارة ديانة لها بلايين الأتباع. المعادلة في أوربا الغربية باتت كالتالي: المسلمون لا حق لهم اعتبار شتم رسولهم والسخرية من دينهم إساءة لهم باعتبار ذلك حرية تعبير؛ بينما مجرد انتقاد التصرفات المشينة لحكومة نتنياهو يشكل إهانة لليهود. تطرقت الصحيفة الى يهود ذوي ضمائر يقيمون في أوروبا وأميركا تجري شيطنتهم من أجل إقصائهم والحجر على أفكارهم. المقالة توثق لنمط من إرهاب ثقافي وسياسي تمارسه أوساط مرتبطة بحكومة نتنياهو تقذف بجريمة اللاسامية كل من ينتقد سياسات الضم واضطهاد الشعب الفلسطيني. أقدمت مجموعة أكاديميين يهود في برلين على تنفيذ برنامج نقاشات على مواقع إليكترونية في العام الماضي حول مدارس الفن، تحرك صحفي إسرائيلي في الحال ونشر عن النقاشات، وصفها ب “الفضيحة” ، ونجح في توقيفها. يجري ذلك بالتزامن مع الترويج الواسع لمد التطبيع مع إسرائيل وتنفيذ برنامج موسع لبناء عشرات آلاف الشقق السكنية الجديدة بمدينة القدس العربية وفي أنحاء الضفة.

هذه المطاردة الهيستيرية يضاف إليها إخضاع الدول الأبوية لسيطرة إسرائيل المطلقة ترمي لعزل الشعب الفلسطيني ، وهو يتعرض لخطر الاقتلاع من وطنه ويواجه غطرسة القوة المدججة بالسلاح .

يفترض في أصحاب الحق ممن يكابدون تطاولات غطرسة القوة التمسك بقوة الحق الى أن تتراجع عربدة القوة ؛ اما أن يُعتمَد على الوعود والتصريحات الاعتباطية لتجريب المجرب والعودة الى مفاوضات من موقف ضعف، فليس من شأن هذا التصرف أن يكسب قدرا من الاحترام والإنصاف، تجري في إطاره مفاوضات مثمرة .

أعلن وزير الخارجية الفلسطينية، أثناء مؤتمر صحفي بالقاهرة، ان حكومته سوف تعيد التعاون مع الإدارة الأميركية الجديدة دون ذكر شروط أوردتها اللجنة التنفيذية؛ ويبدو ان تصريح الوزير الفلسطيني صدر في سياق الاتفاق مع وزيري خارجية مصر والأردن إثر لقاء مشترك اكدوا فيه من جديد ان السلام خيار استراتيحي؛ بمعنى ليس لدى حكومات الوزراء والجانب العربي بوجه عام بديل كفاحي يعدّل ميزان القوى المختل مع الاحتلال الإسرائيلي، وذلك قبل التأكد إن كانت الإدارة الجديدة ستتراجع عن نهج إدارة ترمب وإلى أي مدى سيكون التراجع.

إذا استمر الحال على ما هو عليه فما من خلق او مبادئ إنسانية تردع الصهيونية عن مواصلة الهجمة الفاشية متعددة الجبهات، تستكمل بها تحويل فلسطين دولة يهودية تديرها الأيديولوجيا العنصرية للحركة الصهيونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى