جدلية العلاقة بين النقد والإبداع..في أفق  يشوبه التصادم والتوجس

محمد المحسن | تونس
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أن النقد ثروة للشِّعر والشعراء.. ووقود التطوّر والتقدّم، وهو ضرورة مهمة لإبراز جماليات الإبداع، ومعالجة الأخطاء، ودائماً يشغل الشاعر، وربما يتألم، ويصاب بالإحباط، ويشعر بالحسرة نتيجة إخفاقه في كتابة بعض النصوص.. لكن النقد الهادف يفتح مدارك الشاعر، ويستطيع من خلاله المضي قدماً في الاتجاه الصحيح، والمحافظة على موهبته.
ووجود الناقد الحقيقي للشِّعر من أهم العوامل التي تساهم في الشعور بقيمة النص الجمالية، وإزالة الضعف، وظهوره بالشكل المطلوب.. ونجد أن البعض من النقاد يكون قاسياً في نقده مما يتسبب في تحطيم بعض المواهب، والآخر منهم لا يملك مقومات الناقد الحقيقي، مجرد تطاولات تطلق في الاتجاه الخاطئ ولا تخدم الإبداع.
حينما نتحدث عن النقد الأدبي فنحن نتحدث عن تاريخ بدأ من العصر اليوناني واستمر إلى يومنا هذا..فالنقد الصحيح هو أساس النجاح لأي عمل، ويوسع من أفكار الشاعر، والشِّعر والنقد هما خصمان يساعدان بعضهما للصعود إلى قمة النجاح، ويجب أن نفرق بين النقد والانتقاد فالنقد هو مشرط ناعم يحمله أديب له خبرة وأمانة أدبية، من جانب يشّرح القصيدة ويُظِهر جمالياتها ويبرزها بطريقة جذّابة لتكون مفصلة وواضحة المعاني للمتلقي، ومن جانب آخر يظهر العيوب والهفوات والضعف المصاحب لأي مقطوعة أدبية يتم نقدها.
وإذن ؟
النقد الأدبي إذن، هو ظاهرة التحميص، والتقويم، للنصوص الإبداعيَّة في فرعيْ الأدب: النثر والشِعر.. وهذه الظاهرة تتناول النُصوص من حيثُ الجودة والرداءة، من حيثُ الجِدَة (الإبداع والاختراع في المعاني) والانتحال، ومن نواحٍ أخرى تتعلَّقُ بالملكة الأدبية، كتمكُّن صاحب النص من علوم الآلة (كالنحو والصرف، والبلاغة..) فهو يعتمدُ على الذوق الذي صقلتهُ الموهبة، وهذَّبتهُ التجارب، لا ما “يقعُ على ألسنة العوام من النَّاس،أحبِّذُ كذا،وأفضِّلُ كذا..بدون مرجعية علمية ولا تجربة الأداء ولا إحساس بجمالية النص.”
وقد يخطئُ البعض في المُهمَّة الموكلة للنقد الذي يجب أن يكون مشتملا –أولا- على رؤيةٍ شاملة، تُحلِّلُ وتناقشُ النصُّ من أوَّلِهِ إلى آخرِهِ، وتقتحمُ جميعَ خصائصه اللفظية، والمعنوية، والفكرية، كيلا يُحرم الكاتب/المبدع  من أهمَّ مميِّزاتِهِ التي قد يمتلكُ واحدة، ويفتقر إلى البقية. وهنا أضيف :يوجد خلط مربك بين ما هو اعتراض أو تحامل،وما هو نقد صاف للنص. فالاعتراض يختلفُ عن النقد من ناحية خلوِّهِ من التأسيس للرؤية النقدية. ولا يكون له أدنى قيمة حتى يصحب بتبريرات وجيهة.
أمَّا التحامل فهو أن يُظهر المُتحامل عيوبًا ليست في النَّص، ويحمل المعاني على غير ما قصد الكاتب، مستخدما قدراتِهِ المعرفية، وأساليبِهِ البلاغية في تشويه الصورة الحقيقية للنص.. ونجدُ مثال هذا في بعض فصول كتاب الرافعي «على السفود» الذي نقد فيه ديوان العقَّاد.
لقد سارت كثيرٌ من الانتقادات في منحى قتل الفكرة في مهدها، لأنَّ بعض النقَّاد -سامحهم الله- يحبُّون المواهب الجاهزة، ولا يعملون –البتة- على تشجيع وإصلاح المواهب الصغيرة،وتبنِّيها حتَّى تتبرعم وتكبر!
جدلية العلاقة بين النقد والإبداع : النّقد والإبداع،ذلك الجدل القائم على أساس الخصومة الفعلية أو المفترضة بينهما، تَنازُعُ الأحقية في مجال ما يدور بينهما من تفاعل، حيث تثار أهمّية النقد بالنّسبة للإبداع وأهمّية الإبداع بالنّسبة للنقد،ومن جدل الخصومة وقضية الأولوية في ما بينهما بالنّسبة لأحدهما على الآخر، ينشأ ذلك التصادم الوهمي من الناحية النّظرية، لأنّ الواقع شيء آخر، وسبب منشئه،أي التصادم،هو غياب الممارسة الفعلية لعملية النقد المتجرّد لقراءة النص الإبداعي، كما يقوم ذلك في جغرافيات أدبية عريقة، حيث تناول النص لا يخضع لا لصداقات ولا لتصفية حسابات، لأنّ الإبداع السردي أو الشعري حقيقة وواقعا هو النص الذي يقوم عليه إبداع الناقد، ولهذا كان النّقد إبداعا على إبداع، لأنّه “مجالسة ومؤانسة ومدارسة” للنص.لا يمكن أن يكون النقد ولا الإبداع كموضوعتين جماليتين مثارا لحساسيات تخرج بهما عن مسار إنتاجالرّؤيا وتفجير التأويل وتفتيح الجمال، وأينما غاب المنظور القرائي التفاعلي/النقدي وسادت ميكانيزمات دفع النص كإلزام للمدح والإطراء طمعا في تداول الإسم وانتشار النص، فإن العملية المزدوجة إبداع/نقد تخضع لأهواء الفاعلين فيها ولمنظوراتهم الصادرة عن وثوقيات مزيّفة في كمال الإنتاج المعرفي،وبالتالي وبالضرورة، تتأسّس تلك الثنائية كمراكز تفصلها العوازل والجدران السميكة.
ما من شك من أن الإبداع هو مادّة النقد،ودونه لا يمكن أن تنبثق وتتطور بالتبعية العملية النقدية، لكن المبدع أحيانا يريد أن يكون الناقد ظله، يتبعه أينما حلّ وفي كل مناسبة نصية، لا يقول إلا ما يريده أن يقوله، وهنا لا يمكن أن يكون الناقد مجرّد منتج لمادة تحت الطلب، وخصوصا وأن النقد أصبح فلسفيا بإمتياز، والمناهج أصبحت غاية في الإنفتاح على آفاق جمالية تختزن السؤال وتفجر بنيات النص للوقوف على الجذور العميقة لمادّة الادب في حركتها وحِراكها التاريخي واليومي، وبالتالي ليست كل النصوص قادرة على تحريك مثل هذه الإحساسات العميقة بالنص، وتنبيه القارئ إلى نبض توثبها وتوترها، وهكذا يبدو لي أن العلاقة بين المبدع والناقد يشوبها التصادم والتوجس وأحيانا القطيعة، وكل هذه السلوكات تسجل حضورها بقوة في المشهد الثقافي الوطني لأن وقد أكون مخطئا المبدع لا يريد إلا أن يسمع صوته داخل النقد،وأحيانا يكون النقد المجمالاتي وبالا على المسار النقدي الهادف إلى التأسيس المنهجي والمدرسي، ويفتح بابا لكل ما يحول بين الموضوعية النقدية والإنطباعية الممجّدة.
لقد وُصِفَ النُقاد مذ أن أصبح النقد فنا وامتهانا بأبشع النعوت، فقد وصفهم بايرون مثلا بالسمية -الفطر الذي يغزو لحاء الأشجار فيقبح جمالها ويظل يقتات منها حتى بعد موتها- ووصفهم صنع الله إبراهيم بوقابي الموانئ أولائك البطالون الذين لا حرفة لهم إلا عد المراكب وتوقيب ما اصطادت وزرع الفتنة بين الصيادين وفي الأخير تسول بعض السمك واللعنات. أما حنة مينا فعايرهم بكونهم طيور البحر التي تتكاسل عن الصيد معتمدة على ما تجود به سفن الصيد.
في العموم كل ما قِيل من سوء في النُقاد نبع من غيض الكُتاب، أما النُقاد فهم يعتبرون أنفسهم حماة للإبداع وحُراسا للنوايا، فهم يقومون ويصطفون ويلوذون عن عالم لا يجب أن يكون مرتعا لكل من استسهل الإبداع.
ما المطلوب ؟
أدعو إلى احترام الحدود بين المبدع والناقد، وتضافر الجهود لكي يروّج العمل إعلاميا ويصل إلى الناقد عن طريق العملية التداولية التي يخضع لها العمل الأدبي خلال قنوات حركته الطبيعية، أي الرمز في فعل المكتبة التي تعتمد الواجهة، أي الإغراء بالتصفح والإقتراب من العمل، حيث تتحقق إما شرارة الإنخطاف والميل للعمل أو العزوف عنه، ثم بعد ذلك تأتي عملية إبداع النص نقديا، وهي المرحلة الأشدّ جمالية والأشد التصاقا بالناقد،لأنها تذوّقية بالأساس، وهنا مفرق الطريق بين المبدع والناقذ، فالعملية النقدية ذوق قبل كل شيء، يقود إلى مدارسة النص بعد المجالسة والمؤانسة، وكل فعل دون هذه العلاقة إنمّا يريد للناقد أن يشتغل دون ذوق،وكما يقول المتصوّفة: “من ذاق عرف ومن عرف اغترف”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى