عوالم التغيير وآفاق الحلم في ديوان ” أغاني السيرانا ” للمغربي ياسين حزكر

زكرياء الزاير | شاعر وباحث من المغرب
 

تبدو الأعمال الشِعريَّة للشاعر المغربيِّ ياسين حزكر ذات طابع إبداعيٍّ خاصٍّ وخالصٍ. فالكلمات تكون في السياق الشِعريِّ مفتوحة على تأويلات ورؤى عديدة، مستمَدَّة من روح الشاعر المتمرِّدة التي تسعى إلى الانعتاق والحريَّة. 
إنَّ الشعر، انطلاقا من هذا التصوُّر، يكون تمردا على الأسماء والأشكال والمعنى، فيصير قادرا على استنطاق كلِّ هذه الأسماء والأشكال، خارج إطار تاريخيتها. إذ تتبدل وظيفة الشعر لدى الشاعر هنا فتصير، إضافة إلى تعبيريَّتها، محاولة خلق لواقع جديد من خلال المدهش والجميل. بمعنى آخر لقد تغيرت رؤية الشاعر للعالم الذي يعيشه كما تغيرت موضوعاته وتغيرت رؤيته لأدواته. 


يتماشى هذا القول مع طبيعة معاناة الشاعر وكونها جزءا لا يتجزأ من نفسيته وبنيته الشعرية الخاصة، فهي ما يجعل من الشعر شعرا منفتحا على آفاق كونية وإنسانية لا حصر لها، وأي وسيلة لتغييب هذا الأصل التراجيدي الذي يلقي بالشاعر في الموسمية والغناء، لا أساس لها في العملية الإبداعية. ونجد في هذا السياق مجموعة من الشعراء الجدد في المغرب يكتبون وفق هذه الرؤية والتطلع. نذكر منهم محمد عريج، أحمو الأحمدي، عمر الراجي، صباح الدبي، عمر ضريف، خلود بن ناصر وآخرون.
·        الشاعر حالما ومتمرِّدا 
إنّ وضع اللامعناة مساوي لوضع اللاحياة، فأن تعاني يعني أن تكون على حد تعبير سيوران: " أعاني إذن انا موجود." إذن أنا أحلم.
إنّ خاصية الحلم لدى ياسين حزكر تتخذ مركزيّة هامة في بناء نصه الشعريّ. يتماشى ذلك مع النص الحداثيّ عكسها في النص القديم، فقوام الحداثة الشعريّة وجوهرها يكمن في الاستخدام الخاص للغة (لغة الحلم). فالحلم باعث للحقيقة والحقيقة باعثة للمعنى، والمعنى باعث للكتابة… وحياة الشاعر تتجه دائما نحو الظفر بالمعنى في صراع مع الوقت.  والشاعر شأنه شأن المفكِّر قادر على استبصار المستقبل وصناعته، ولو بالمعنى الرمزيِّ للكلمة. فهو "منقب عن الكينونة باحث عنها، بل مقيم لها مشيِّد (…) فعن طريق القول الشعريِّ يستطيع اكتشاف دلالات الكينونة وأبعاد حقيقتها " (1).  إنه البدُوُّ بالشعر كما يصفه هايدجر. فبهذا البدُوِّ يسير الشاعر ياسين حزكر، نحو رؤية حالمة متمرِّدة ليتجرد من كلِّ شيء غير ذاته. ولا أدّل على ذلك قوله في هذا المقطع الذي يجعل فيه الرؤية أفقا له مفتوحا على الاستشراف والتطلّع: 
"رؤى تجتاحني
ومداي
بيتُ
مشيتُ 
وغايتي أني مشيتُ
لأن خطاهم دلتْ عليهم
فكل خطيّتي 
أني اقتفيتُ"(2).
إنَّه الحلم أبعد من أي شيء نراه، وأقرب من أيِّ شيء نراه.  إنَّه من يهجس لنا ويوشوش في خَلَجات أنفسنا ويحرِّك فؤادنا، إنَّه طريق المعرفة وطريقة الشِّعر. إنَّه الموسيقى التي نبحث عنها في دواخلنا كي نؤثِّث العالم ونُؤَخْيِلَهُ وفق مِزاج خاص. فالشاعر حين يحلم يعلن عن نفسه داخل بؤرة/ الجسد/ الوجود ليصنع ماهيته/ حلمه/ تمرّده، ويعلن عن كيانه الشعريّ العميق. وكإشارة حُرَّة يلوِّح ياسين للحياة، فيتوحَّد ويتجسَّد في زمن الشعر، زمن الصفاء، زمن الانكشاف، زمن الحُلم. يتوحدُ أمام ذاته والآخر، وأمام الآخر/ المرأة التي كانت ولاتزال شريكة الرجل في البناء ومحفزة إياه، فهي حاضرة في شعر ياسين وتحمل رمزية خاصة ودلالة عميقة، رغم مجموعة من المفارقات كما يوجد في هذين المقطعين. يقول: 
"لا تنثري وردا على قبري
ولاماء..
سيكفي وحدتي 
أن تزرعي شفتيكِ في هذا الزحام البارد الإحساس 
عليّ.. قد أرى أبديتي 
حين التحامك بي لآخر مرةْ"(3)
يقول:
"من أول المهد حتى آخر اللَّحد
ما زال قلبُك شّفافا
بلا حدّ
شوكٌ حياتكَ
مذ كانت مراودة الأشياء
رغمَك
لاتفضي إلى ورد"(4)
إنّ ذلك يبدو اختيارات/ مواقف أمام الآخر (لا تنثري وردا على قبري)، وأمام الذات والآخر (سيكفي وحدتي). هذه الاختيارات هي التي تأسِّس لفعل الكتابة الحالمة، وليس بمعنى الرومانسي، لدى ياسين حزكر؛ إذْ أنَّ " الغاية الكبرى الأولى من الكتابة هي أن يستثير الكاتب بعمله فعل الحريَّة لدى القراء، أي أن يجعلهم أكثر من أي لحظة أخرى لأنْ يختاروا بمحض إرادتهم ما كان قد صعُب عليهم اختياره أثناء ممارسة حياتهم العادية "(5). حيث لعبة المكاشفة أمام القارئ، إذْ يسعى الشاعر إلى زرع روح التمرُّد والدعوة إلى الحريَّة باعتبارها قدرا للإنسان. لعلَّها لحظة اهتزاز وتر الحلم، التي يعلنها الشاعر ياسين حزكر، حين يبدأ الشعر كشيء خالص، كشيء يفوق النعوت والصفات. فكل شيء يُعلن عن نفسه وعن انبلاجه وتمرُّده. يقول:
" لي أن أقول: ((الصمت))
ما لك أن ترى؟!
أغمضت في المعنى البسيط
وسرتُ
كان الصمت أقوى أن تمرَّ
فأنكرا
مذ قلتَ لي: ((كنْ))
كنتُ
لا أدري بأي قدرة
قلبي تنزل أسمرا"(6)
إنَّ هذا المقطع، كما مقاطع كثيرة، يجسد لنا بقوة قدرة الشاعر على الإمساك بالمعنى وتحويله إلى هاجس، والدعوة إلى حركيةٍ وفعلٍ إنسانيٍّ خلاَّق، حيث دهشة الوجود والإِنْوِجادِ داخل فضاء فسيح كبير غير محدود وغير منظَّم وغير مسيَّج بالمنطق، حيث الرغبة في التحطيم والتعالي والصراخ، حيث الرغبة في الوجود. 
إنّه الذهاب بعيدا حيث الكل ُّكتابة وحلم يجرح المنطق قليلا، ويبتعد عن لعنة العقل ليتجدَّد مع كل نبض. حيث الشاعر بتعبير صلاح الوديع: يواصل بحثه داخل القلب ليرى شيئا يستحق الانتباه، حيث اللَّذة في البحث والضياع. ف" الوجود الحالم السعيد بأحلامه[…] هو الذي يمتلك حقيقية الوجود ومستقبل الوجود البشري"(7).
·        الشاعر راءٍ
إنّه درجة الصفر في الكتابة كما يصفها رولان بارت، الدرجة التي يبدأ منها الشاعر كي يسمي العالم ويعيد ترتيبه، وفق رؤاه. حيث" النصوص تتشكّل وفق خطاطة تحدث إبّان الكتابة. فهي تتخلق في ذات الآن، أو في اللحظة. (…) حيث تكشف عن تجارب عدد من الشعراء الذين تخطّوا عتبة القصيدة، وذهبوا إلى الأقصى. إلى ما يبدو مستحيلا"(8).
يقول: 
" كما وترٍ تدفق فيَّ
صمتكْ..
كما لون ضبابيٍّ
رسمتكْ
كمثل أصابعي شهدتْ بأني 
-جنونيَّا-
بلا لغة بصمتكْ
قريباً..
أو لعلَّك كنتَ ظلي
وكنتَ مقوَّسا
وأنا استقمتكْ" (9)
يقول أيضا:
" صوت من المرآة يدعوني:
((إليْ))
وأنا ظلام في ظلام
وهو ضيْ
كان انعكاسا لم أكنه..
أضاءني؛
محضَ اقترابٍ
من يديَّ إلى يديْ..
(…)
أنقذتني مني..
ولولا صرخةٌ سبقتْ فمي
لسقطتُ للأعلى 
عليْ"(10) 
من هذا المنطلق تكون القصيدة لدى ياسين حزكر شكلا فريدا من القول، لا تتمثل في محدودية الدلالة ولكن في تعدُّدها، على حدَّ تعبير "إيخينباوم" الذي كتب يقول: "إن هدف الشعر يتمثل في إبراز الكلمات بسداها ولحمتها وجميع مظاهرها"، ومعنى ذلك أنَّ الشكل الداخلي للكلمة أو الروابط الدلالية الحميمة لا تنفصم عن أهمية التأثير الجمالي. فالشعر هنا هو ما تضمُّه القصيدة وما تحتويه من أثر لغويٍّ- إن صح التعبير – وصيغٍ تعبيريَّة تخاطب الحسَّ قبل العقل. وليس بعيدا عن الشعر والقصيدة يوجد الشَّاعر الذي يتطلَّع دائما إلى أفق جديد، ويسعى إلى خلق عوالمَ مختلفة عن النموذج الذي يعيشه أو يصادفه، وذلك لطبيعته الحسّاسة تجاه ذاته والعالم من حوله التي توَّفر له هذه الإمكانيَّة في التجديد والخلق والإبداع. وبتعبير آخر إنَّه يسعى إلى تغيير الوعي بالواقع لا تغيير الواقع. وذلك باستخدام آلية اللغة والبيان باعتبارهما وسيلتان للإفصاح عن كينونته المتجذرة في متاهات هذا العالم المترامي الأطراف، الذي نعيشه اليوم بكل اضطراباته وتناقضاته. آلية اللغة لأنَّها قالب يفرغ فيه الشاعر تصوراته وفهمه لمجريات الواقع وتمثُلاته وصوره، وآلية التعبير لأنَّها نتيجة استعمال اللُّغة. فتكون النتيجة مجموعة من الآراء والقناعات التي يحتكم إليها الشاعر في النهاية كي يصل إلى قناعات معينة وبالتالي شكل راقٍ من الكتابة المتمرِّدة والحالِمة.
هوامش:
1-     من كتاب نقد الحداثة في فكر هايدغر، ص 658.
2-     ياسين حزكر، أغاني السيرانا/ ديوان شعر، ط: الأولى 2018، منشورات أكاديمية الشعر/ الإمارات العربية المتحدة، ص12.
3-     الديوان، ص 18.
4-     الديوان، ص21.
5-     جون بول سارتر: ما الأدب؟ نقلا عن حميد لحميداني، الفكر النقدي الأدبي المعاصر مناهج ونظريات ومواقف / ط: الأولى 2009/ المغرب، ص 122.
6-     الديوان، ص 36.                                                                                      
7-     غاستون باشلار لهب شمعة ت: د. مي عبد الكريم محمود ط: الأولى 2005، ص 20.
8-     صلاح بوسريف، الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر، ط: الأولى 2007/ المغرب، ص 165.
9-     الديوان، ص 40.
10-  الديوان، ص 66/69.
[١٠:٢٧ م، ٢٠٢١/١/٤] عبد الرزاق الربيعي: صورة العراقي المهمَّش في السينما العراقية 
   عليّ جبّار عطيّة
كانت صورة العراقي في السينما العراقية منذ انطلاقها بأول فلمٍ قبل أكثر من سبعين سنة في الغالب صورة الهامشي،والضحية، وفي أحسن الأحوال يكون دوره ثانوياً ! 
يقول المخرج السينمائي محمّد الدراجي  في تصريحٍ إلى وكالة أنباء (شينخوا) بتاريخ ٢٠١٩/١/١٩ م  : ( إنَّ العراقيين كانوا ، وما زالوا ضحايا نكباتٍ عديدة ، ومن خلال أفلامي أطمح لأصوّر الفرد العراقي كضحيةٍ ينهض ، ليصبح بطلاً) . 
لكنَّ الدراجي  المخرج المجتهد ، الخارج من رحم المحنة العراقية ، كان العراقي في كل أفلامه يظهر كضحيةٍ  لا حول له ، ولا قوة ، كما في أفلام : (أحلام / ٢٠٠٥ م) ، و(ابن بابل /٢٠١٠  م) ، و (تحت رمال بابل/ ٢٠١٣ م) ، و(الرحلة / ٢٠١٧ م) !! 
لقد بدأت السينما عندنا بجهودٍ فرديةٍ ومشاريع صغيرة، حتى إذا خسر صاحب المشروع ثروة عمره ، جاء غيره ليبدأ من الصفر كذلك. 
تكررت هذه البدايات حتى عدنا إلى الصفر في المحصلة النهائية ! 
بدأت السينما عندنا بفلم (عليا وعصام)  المنتج سنة ١٩٤٨ م للمخرج الفرنسي أندريه شاتان ، وقيل : إنَّ الفلم جاء متأثراً بفلم (عنتر وعبلة)  المنتج ١٩٤٥ م لنيازي مصطفى ، وليتأمل القارىء مجموعةً من المفارقات :ففلم (عليا وعصام)  أُنتج تأثراً بالفلم المصري (عنتر وعبلة)  أما قصة الفلم فهي مأخوذةٌ من مسرحية (روميو وجوليت)  بعد تعريقها ، وجعلها  بلهجةٍ بدويةٍ ! أما كادر الإخراج والتصوير فهو فرنسي ! 
لقد بدأت صناعة الأفلام العراقية متأثرةً بأجواء السينما المصرية، والسينما الهندية لكنَّ المعالجات كانت ساذجةً للغاية. كانت السلطة المسؤولة عن السينما تفرض أفكارها الخيالية على العاملين في الشأن السينمائي ، ومن ذلك أنَّه لا يوجد بطلٌ في السينما العراقية ، فالبطولة جماعية ، ونتج عن ذلك  استخدام كلمة (تمثيل) بدلاً من كلمة ( بطولة) ! 
لم يقتصر تهميش العراقي في السينما على حقلٍ معينٍ بل امتد ليشمل حقولاً أخرى ، فعلى الصعيد المضموني كان يجب أن تظهر الإيجابيات فقط برغم أن الدراما صراع بين الخير، والشر، وأن الطقس بعد (الثورة) أفضل من الطقس قبلها ! 
العراقي وفي ظل سلطة البعث مغيَّب وهامشي ويرى كل شيءٍ، ولا يستطيع الانتفاع بشيءٍ إلا بموافقة السلطة الغاشمة. 
حضرتُ بعد حرب الخليج الثانية سنة ١٩٩١م ندوةً في أسبوع الفلم العراقي على مسرح الرشيد ببغداد حول فيلم (حب في بغداد) المنتج سنة ١٩٨٧ م للمخرج عبد الهادي الراوي الذي كان  صريحاً فقد قال : إنَّ الرقابة رفضت أن يصوَّر الفيلم في كوخٍ جميلٍ ؛ لأنَّ العراقي لا يسكن بعد (الثورة)  في كوخٍ ! فلما قال لهم الراوي  : إنَّ الحدث يجري قبل الثورة ردوا عليه : إنَّنا يجب أن نُظهر العراقي بصورةٍ جيدةٍ حتى قبل الثورة !! 
أضاف الراوي : مع العلم  أنَّ العراقي يسكن في أماكن أسوأ من الكوخ ! 
إنَّ قصص الحب في كل المجتمعات تنتهي قلةٌ منها بالزواج لكنَّ العراقي المحب يجب أن تنتهي قصة حبه بالزواج ! 
والمجرم  في كثيرٍ من الأحيان  يفلت من العقاب لكنَّه في السينما العراقية يجب أن ينال جزاءه ! 
لقد أثار فلم (الظامئون)  المنتج سنة ١٩٧٢ م للمخرج محمد شكري جميل حفيظة الرقيب ؛ لأنَّه تناول الظمأ بمعناه الحقيقي ، والمجازي لكنَّ الرقيب يعترض بتساؤله الساذج : كيف يظمأ العراقي ، وعنده نهران ؟ 
في فلم ( المسألة الكبرى) المنتج سنة ١٩٨٣ م  لمحمَّد شكري جميل ، تزييفٌ مقصودٌ للأبطال الحقيقيين لثورة العشرين ، وإظهار الثوار كقتلةٍ ، وقطاعٍ طرق ، وكان نصف الفلم ـ تقريباً ـ باللغة الانجليزية ، وكادر الفلم جلّه بريطانيون. 
في فلم (القادسية) المنتج سنة ١٩٨١ م للمخرج صلاح أبو سيف تزييفٌ للتاريخ بتدخلٍ من
 نائب الرئيس عزة الدوري ! 
لقد صُرفت أموالٌ طائلةٌ على أفلامٍ  سُميت عراقية ، لكنَّ شخصياتها ليست عراقيةً  مثل : فلم ( مطاوع وبهية)  المنتج سنة ١٩٨٢ م لصاحب حداد بلهجته المصرية فضلاً عن ممثليه الرئيسيين كرم مطاوع ، وسهير المرشدي ، وقصته التي تجري في قريةٍ مصريةٍ ! 
كذلك فلم (القناص)  المنتج سنة ١٩٧٩م لفيصل الياسري بالممثلين اللبنانيين الرئيسيين روجيه عساف ، وآمال عفيش ، والموضوع اللبناني ، والبيئة اللبنانية، ولعلَّ حسنته الكبرى هي ظهور الشاعر نزار قباني، وهو يقرأ قصيدته : ( يا ست الدنيا  يا  بيروت !) ، والطريف في الأمر أنَّ اسم الشاعر ظهر ضمن ممثلي الفلم حتى قيل وقتها أنَّ  نزار قبّاني ظهر بدور نزار قباني !  
أما فلم (القادسية) المنتج سنة ١٩٨١ م لصلاح أبو سيف فكانت حصة الأسد  فيه للنجوم المصريين ،  وقد ارتضى ممثلون عراقيون كبار أن يكونوا كومبارساً فيه ، حتى في الأجور؛ لأنَّ رفضهم يعني البقاء بلا عملٍ حتى لو كان عملاً رمزياً !  
أما أفلام الحرب العراقية  /الإيرانية فلم تخرج عن السطحية ، والتهميش ، وإظهار بطولاتٍ زائفةٍ . 
وزاد الطين بلةً في سنوات الحصار في التسعينيات ظهور أفلام ما تسمى بـ(أفلام السكرين) ملفقة الشكل ،والمضمون، فضلاً عن ظهور ممثلاثٍ طارئات على الفن ! 
 لقد اضطر الفنان عبد الهادي الراوي مخرج فلم (السيد المدير)  المُنتَج سنة ١٩٩٠ م ، إلى زج مشهدٍ مقحمٍ في نهاية فلمه الواقعي المنتقد للفساد الإداري في دوائر الدولة  في محاولةٍ منه للاحتيال على الرقابة ، بمشهدٍ أخير يظهر فيه المدير، وهو يحلم بواقعٍ فاسدٍ يعيشه فعلا ! 
ويمكن القول إنَّ الأفلام الوثائقية العراقية هي الأقرب إلى التعبير عن الشخصية العراقية الحقيقية  سواءً في ظل حكم البعث ، أو في السنوات التي أعقبت سقوط الدكتاتور، خاصةً جهود جماعة (المركز العراقي للفلم المستقل) وبالأخص المخرج محمّد الدراجي ، والمخرج عدي رشيد، والمخرج مهنَّد حيال الذي ما زال فلمه الروائي (شارع حيفا) يحصد الجوائز أينما عُرض، في مهرجانات قرطاج والقاهرة ودبي وبوسان بكوريا الجنوبية، وقد قال عنه المخرج الكندي الكبير أتوم جويان 🙁 إنَّه فلمٌ مختلفٌ وصادمٌ وخلفه مخرجٍ واعٍ وذكيّ، أحببتُ الفلم جداً وأعتقد أنَّ مخرج الفلم الشاب مهند حيال سيكون له مستقبلٌ واعدٌ جداً) . 
ولد مهند حيال في محافظة ذي قارسنة ١٩٨٥م وسبق أن أخرج عدداً من الأفلام القصيرة منها : (قلب المدينة) ، و(خطأ) ، و(فرات) ، و(سيناريو) ،و(عيد ميلاد سعيد). 
هناك فلمٌ وثائقيٌّ مهمٌ شاهدته على قناة الجزيرة الوثائقية  في ٢٠١٨/٢/١ م، وهوفلم (الأوديسا العراقية) المنتج سنة ٢٠١٤ م للمخرج العراقي الأصل، والسويسري الجنسية (سمير جمال الدين)، وطوله ثلاث ساعات، وقد عرض في القناة بساعة وثلاثين دقيقة .
 يتناول الفلم شخصية العراقي الضحية ، والمشرد، والبطل. وقد حرص المخرج على أن يكون ممثلوه في الفلم هم أنفسهم في واقع الحياة. 
لقد أُنتج الفلم بشكلٍ شخصيّ ، وعرض في عددٍ من العواصم الأوربية ، وحقق نجاحاً لافتاً ، مع أنَّه ليس فلماً روائياً ، ورشح الى جائزة الأوسكار، وهذا يعكس مستوى الاتقان على صعيدي المضمون، والأسلوب.
أمّا المضمون فقد عرض مؤلفه ومخرجه محنة الشتات العراقي التي تعود الى أكثر من نصف قرن ؛ إذ لم يُحل ثراء عائلة المخرج دون تشظيها ، وتشتتها في المنافي ؛ لكثرة تقلبات البلد السياسية ، فالعيش فيه كالعيش في مرجل ، فيضطر أفراد هذه العائلة ، وفيهم الطبيب ، والمهندس، والشاعر ، والفنان الى الهجرة تخلصاً من سلطة القمع الى روسيا ، وأمريكا ، ونيوزلندا، وسويسرا ، ومنهم الشاعر مصطفى جمال الدين عم المخرج ، فيكون اللقاء بأفراد هذه الأسرة في منافيهم فرصةً للتعريف بمحنة اللاجئين ، والمهاجرين ، والهاربين من الدكتاتورية . 
أما الأسلوب فقد أختار المخرج طريقةً سلسةً ، وجذابةً  في العرض ، فهو يفتح البوم صور العائلة ، ويستعرض حياة كل شخص، ثمَّ يسافر الى البلد الذي يقيم فيه ذلك الشخص، ويمنحه فرصةً للحديث عن تجربته ، ومعاناته. 
أما الشخصية الراحلة عن الحياة، فيكتفي بروي حكايتها ، ونهايتها ، ويستلزم ذلك دعم الحديث بمادةٍ ارشيفيةٍ حقيقيةٍ مثل مشاهد من حياة العائلة المالكة ، ورؤساء جمهورية العراق   ويكون ذلك بالتوازي مع السيرة الشخصية للمتحدثين.
لقد كان مشهد تجمع أفراد العائلة في سويسرا ؛ لرؤية الفلم في نسخته النهائية مشهداً بالغ التأثير ؛ فهم قد جاءوا من منافيهم الاضطرارية بدعوة من المخرج ؛ ليلتقوا في أرض محايدة ربما ليؤكدوا أنَّ ما فرقته الأنظمة، والبلدان يمكن أن تجمعه عدسة فنانٌ مثابرٌ مثل سمير جمال الدين ! 
ترى كم نحنُ بحاجةٍ إلى المزيد من المراجعةٍ لما آلت إليه الشخصية العراقية في المحصلة النهائية ، وما  جرى فيها من تحولاتٍ حقيقيةٍ ، لنغادر الصورة النمطية التي أخذت عنها فتكون صانعةً للحدث في الواقع ، وعلى الشاشة الفضية !
شروح صور 
١. محمّد الدراجي 
٢.عبد الهادي الراوي، وحاتم سلمان
٣.مهند حيال، وعليّ جبّار عطيّة 
٤. ملصق فلم المسألة الكبرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى