شاهدْ.. أسماء الطرابلسي في الدّراماتوريجيا من ورق المؤلف إلى الإخراج: الفاعلين والوسائط الأدائية

باريس | خاص

كفّ المسرح عن كونه فعلا تجسيديّا محض وأحجم عن لغته الرومنسيّة المنمّقة بل ودرأ لعنة ديونيزوس ونخبويّة المسرح البراختي كما ثار على فردانية الفلسفة الأرسطي أحادية الرّكح المحافظ بتلك الآليات التقليدية التي قد تخلو من الإبداع التّقني ومن الجرأة الدلاليّة، حتّى أضحى مسرحا نقديا حاملا لقضية قائما بالأساس على الحضور الدّراماتولوجي من سيناريو التأليف وصولا إلى إخراج الأثر على منصّة العرض بتقنيات سينوغرافية ووسائط أدائيّة من شأنها أن تضفي جمالية من حيث المعنى والمبنى…
لئن اعتبر المسرح فنّا متأجّجا ينبعث من رماده طيْرا فينيقيا يحلّق حاملا في جناحيه شعائر الحرّية والقيم الإنسانية فإنّه بالضرورة رهين صياغة تراجيديّة منبعثة من صلب بنائها السّردي بأسلوب حكائي موظّف يساعد على تصاعد حسّ الفاجعة والخطّ المأساوي في أركان السيناريو إمّا على طريقة خطّية أو بصورة استرجاعيّة وذلك بدعوى خلق الانفعال بين الشخوص فيصبو المؤلف حينئذ إلى توظيف التراجيديا توظيفا عبقريا محبوكا ومجسّدا على خشبات المسارح فيطوف بالمتفرّج في شكل علائقي بين الممثلين مرتدين القناعين الدّالين الضّاحك والباكي فتُنحت العبارات والإماءات التفصيلية تفاعلا مع بقيّة عناصر العرض اعتمادا على فن الحركة واللّغة الساكنة لكسر ما هو متوقع بغية إثارة الإغراء الفرجوي من ناحية وحصول الإفادة للمتلقي فيعطي القيمة المسرحية للحضور وذلك من خلال استفزاز ذكاء المتلقّي لكسر جدار الصّمت وللتّعمق والنبش ما وراء الكلام الموظّف من خلفيات ومناسبات قديمة ومستجدّة.
فيأخذ العرض الدرامي منحى ازدواجيّا قائما أساسا على الصّدق والتناقض في منطق الأقوال والافعال والّتي عادة لا تحتمل الزّيف البليد أو السطحية الركيكة في الطرح حتى تفرض الإباحة الدرامية منطقا آخرا بتوظيف زمن دلالي مثل استحضار زمن عجائبي أو أسطوري، وما يضمن تجلّيها هو إعداد الشخصية الناطقة ومنطوقها بصيغ مستحدثة تكسر مع الركود والملل من خلال العناية بلغة الجسد ونص الحوار إن كان جماعيا أو مونودراما فيلتزم البعض عندها بالنص ويخرج البعض الآخر عنه ارتجالا شرط أن لا يكتسح مساحة كبيرة من زمن المسرحية ويكون ذلك بهدف تسليط الأضواء على الأفكار والأحاسيس والخواطر الفلسفية والدلالات الأيديولوجية التي يتبنّاها شخوص العرض عاطفيا وإخباريا وعلميا وتاريخيا بأسلوب فنيّ وإيقاع شاعريّ تأثّثه حيل سينوغرافيّة للعرض من ماكياج وملابس وديكور و مكملات ضوئية ومؤثّرات صوتية تخلق تفاصيل زمكانية جمالية وسيميائيّة تتفرد فيه العلامة والدلالة وبناء الصورة في مسار تصويري للأحداث يشكّل عرضا فرجويا متكامل العناصر.
تقوم نظرية العرض على إدارة العناصر التّقنيّة في الفعل المتغلغل وفي الفكرة الحاكمة لظهور الرّمزية بوصفها ثورة على الواقعية التّعبيرية بصفة ملحمية شأن المسرح الفقير غرتوفسكي أو المسرح القائم على الكوميديا السّوداء والتي تشتغل على توالد الأفكار بين محسوس ومجرّد ومقدّس ومدنّس فتتوالد المشاركة التفاعليّة بين الظّروف والمتغيّرات من بناء النص الموجّه للإنتاج الفلمي التّصويري بأدوات الدراما التمثيلية على اعتبارها ضرورة تقتضيها سيرورة الأحداث في لحظة تعقيد تجعل الجماهير تبحث عن حلّ مرتجى لتأزم مسار الأحداث.
فيما تحوّل مفهوم الكتابة الجماعية المسرحية من اقتباس الممثلين حسب الخلفيات المرجعية وارتجالهم على الركح نحو كتابة المؤلّف للنّص وعرضه على المخرج ولو ألقينا نطرة على بدايات المسرح التّونسي منذ ستينات القرن الماضي لوجدنا مؤلفين عظام شأن عز الدين قرواشي ومصطفى الفارسي والحبيب بولعراس وعز الدين المدني والتيجاني زليلة وتطول قائمة أسماء الكتاب الاستقلاليين والذين نحتوا طرائق فنية في الكتابة المسرحيّة إلى أن برز جيلا شابا من المسرحيين بعثوا نفسا جديدا في الكتابة الركحية مع مؤلّفين تحوّلوا إلى مخرجين وعلى سبيل الذّكر يبرز فاضل الجعايبي بتجربة فضاء “التياترو” التأسيسيّة وفاضل الجزيري بمسرحيات مثل: “عرب والكريطة”، و”غسالة النوادر” وغيرها من الإبداعات المسرحية وفرحات يامون الذي لعب أدوارا رئيسية في مسرحيات رسخت في الذاكرة الجمعية مثل “بارما” و”مراد الثالث” و”ثورة صاحب الحمار” تحت إشراف علي بن عياد في فرقة مدينة تونس للمسرح، والمسرحي عز الدين قنون مؤسّس فرقة المسرح العضوي وقد تألّق بمسرحيّة “نواصي” بعرضها عام 2000 والتي جابت العالمية في عرض مغاير لما سلفه كذلك الحال بالنسبة إلى رجاء فرحات وجليلة بكّار ورجاء بن عمار ومحمد إدريس الّذين شكّلوا علامة في تاريخ المسرح التونسي وغيروا مسار الكتابة في السيناريو فأسّسوا للنّصّ المسرحي وقطعوا مع أدبية التأليف المسرحي.
فالمسرح في جلّ مراحله التأسيسيّة والتّجريبيّة خطى خطواته بثبات في الأخذ من ثقافة المسرحيين الأولين والغوص في الذّاكرة الجمعيّة والتجارب السّابقة مع ابتكار تيارات فنّية محرّكها الخيال والمغامرة في الأزمنة اللاحقة وذلك تمرّدا على القواعد والنّظم الثّابتة واجتهادا على العناصر التقنية لبناء الفعل وخلق ردّ الفعل حتّى يكون هذا الفن الرابع جامعا لجميع الفنون والثقافات ومكونا لجماهير متعدّدة الأذواق تصنع رحلة دراميّة جديدة ورحلة ما بعد الدّراما عبر عروض Falk Richter و Anja Hilling وتكوّن أرشيفا متنوّعا من المسرحيّات كتيّار المسرح الأسود وتيار المسرح البيئي والشمس ومسرح الدّمى ومسرح الهواء الطلق وصولا إلى المسرح المفتوح والشامل وذلك بعد ظهور فلسفة نيتشه الّتي بلغت العقل.
هذه ملخص ورقة عمل قدمت في الملتقى الاول للنص المسرحي في رحاب المنتدى العربي الاوروبي للسينما والمسرح الذي عقد من 1 الى 9 يوليو الجاري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى