الحركة الأدبية والشعرية في الأندلس من الإمارة الأموية إلى عهد ملوك الطوائف

بقلم: حنون ألبينو

مثلت الأندلس نقطة إلتقاء حضاري وثقافي بين مختلف الاديان وتنوع الثقافات التي كانت سببا في إزدهارها وإرتقائها الى مصاف الحضارات التي خلدها التاريخ لما وصلت اليه من إزدهار في مجالات شتى فلإن عرفت الاندلس بجمال عمارتها الاسلامية وفنونها الزخرفية التي تشهد على أيادي الابداع التي شيدتها الي اليوم كقصور بني امية في قرطبة ومفخرة عمارتها المسجد الجامع والقلاع والحصون المنتشرة في كامل ربوع الاندلس على عظيم تلك الحضارة، أضف الى ذلك حمراء بني نصر في غرناطة التي تزخر بأنواع الفنون من جمال في العمارة الى ابداع في الهندسة الى النقوش التي زخرت بها جدرانها و سقوفها التي تضمنت اشهر الابيات الشعرية لابن زمرك شاعر الحمراء وتلميذ ابن الخطيب بالاضافة الى الايات القرآنية و الشعارات واشهرها شعار بني نصر ” ولا غالب الا الله ” الذي ازدحمت به الحمراء و القصور النصرية في غرناطة.

    وكل هذا الارتقاء والازدهار كانت مع بداية عصر الامارة الاموية بالاندلس تحديدا مع المؤسس للدولة “عبد الرحمان الداخل” والذي كان ذواقا للفن والادب شاعرا بالفطرة حلو اللسان عذب الكلام كيف لا وهو من تربى وترعرع في المشرق موطن الادب والفن والجمال تلك الارض التي لم ينساها ابدا حتى وهو بين احضان الاندلس فبثها حنينا و شوقا ترجمه في اشعاره نذكر منها :

أيها الراكب الميمم أرضي
أقري من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرض
وفؤادي ومالكيه بأرض
قُدر البين بيننا فافترقنا
وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينا
فعسى باجتماعنا سوف يقضي

    ومنذ بداية الداخل شهدت الاندلس تطورا سريعا مع امراء بني امية بعد ان استتب الامر لهم خاصة في عهد عبد الرحمان الثاني حفيد الداخل الذي كان مثل جده محبا للادب والفنون فإستقبل في بلاطه “أبو الحسن علي بن نافع” (789-857) والذي اشتهر بإسم “زرياب” لفصاحته وعذوبة صوته وسواد بشرته وهو يعد صاحب الفضل في ابتكار فن التوشيح والموشحات الذي ذاع صيتها ليبلغ الافاق و يتردد جمال صداها إلى اليوم كما زاد في أوتار العود فجعلها خمسة وأدخل في الموسيقى مقامات كثيرة لم تكن معروفة قبله في الاندلس.
كما لم يقتصر الوجود الزريابي في ارض الاندلس على فنون الموسيقى و ألوانها فقط بل نقل ايضا معه بعضا من اوجه الحضارة المشرقية فعلم أهل الاندلس طريقة اللباس الراقي بأن جعل لباس خاصا لفصل الصيف وأخر للشتاء و الوان شتائية و اخرى صيفية وابتكر قصات للشعر وعلم اهل الاندلس اداب المائدة و فنونها وكل ذلك ساهم في إرتقاء الاندلس واهلها درجات أخرى في سلم الحضارة جعلتها موضع حسدا فيما بعد من اروبا بأكملها الامر الذي اخذوه منها في عصر نهضتهم بعد سقوطها .

    ومع توالي أمراء بني أمية بالاندلس كانت المنافسة تشتد على جعل الامير اللاحق عصره أكثر نهضة ممن سبقه فكانوا يعنون أشد العناية بالعمارة والادب والعلوم وقد تجلى ذلك في العصر الذهبي للاندلس، أيام عهد ” عبد الرحمان الناصر ” اول خليفة اموي بشبه الجزيرة و التي بلغت فيه أوج عظمتها و إزدهارها فتزاحم الادباء والشعراء والعلماء على مدينة الزهراء التي غصت بهم وكان من بينهم والاكثر قربا من الخليفة الاموي الامام الخطيب و الفقيه ” المنذر بن سعيد البلوطي” الذي كانت لخطبته التي ارتجلها أمام سفارة قيصر بيزنطة إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر عام 336 هـ، أثرها في ظهوره على الساحة الأندلسية كفقيه وخطيب مفوّه، و له في ميدان الشعر باع اذ نجد له أبيات يمدح فيها الناصر قائلا:

ترى الناس أفواجاً يؤمُّونَ بابَه

وكلهمُ ما بين راجٍ وآملِ

ستملكُها ما بين شرقٍ ومغرب

إلى دربِ قسطنطينَ أو أرضِ بابل 

    ونلاحظ ايضا ان حال الراعي من الرعية فكان الناصر ايضا شاعرا ويذكر له التاريخ هاته الابيات:

هِمَمُ الملوكِ إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيانِ

أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم

مُلْكٍ محاهً حوادث الأزمان.

    ولا يفوتنا ذكر شاعرا أندلسي إشتهر بجمال وقوة نظمه للشعر حتى لقب بمتنبي الغرب لانه كان من اشعر شعراء المغرب الاسلامي على الاطلاق و هو معاصر لمتنبي المشرق شهد ايام الناصر و شاعرنا هو “ابن هانئ الأندلسي” أو أبو القاسم محمد بن هانئ بن سعدون الأزدي الأندلسي (326 – 363هـ ، 937 – 973م) من أعلام شعراء المغرب العربي والأندلس و كان مواليا لملوك الدولة الفاطمية مادحا لهم ومن أشعاره التي يصف فيها لنا الشاعر أسطول المعز لدين الله الفاطمي؛ أقوى أسطول بحري طاف البحر فى زمانه الأبيات الأدبية الجميلة :

أما والجواري المنشآت التي سرت
لقد ظاهرتها عدة وعديد
‏قباب كما تزجي القباب على المها
‏ ولكن من ضمت عليه أسود
‏ولله _ مما لايرون _ كتائبا
‏ مسمومة تحدو بها وجنود
‏أطاع لها أن الملائك خلفها
‏ كما وقفت خلف الصفوف ردود
‏وأن الرياح الذاريات كتائب
‏ وأن النجوم الطالعات سعود
‏وما راع ملك الروم إلا اطلاعها
‏ تنشر أعلام لها وبنود
‏عليها غمام مكفهر صبيره
‏ له بارقات جمة ورعود

    و بذلك انجبت الاندلس شعراء من البلاغة و قوة النظم و عذب الكلام و جمال التشابيه ما نافست بهم شعراء المشرق فكانتالاندلس بذلك قبلة العلماء والادباء والشعراء وغيرهم لاعتناء ملوكها بهم وإزجال العطاء لهم واكرامهم ولشغهم بالكتب وجمعها حتى تجمعت في مكتبة قرطبة وحدها ايام الحكم المستنصر بالله 400 الف مجلد وتواصل ذلك العطاء الابداعي زمن الحاجب المنصور الذي غص بلاطه بمدينته الزاهرة بالشعراء أمثال “ابن أبى الحُباب” الذي دخل عليه يوما في بعض قصوره بمنية العامرية والورد قد تفتحت أوراقه وزاد جمال القصر وبهجته والشمس ساطعة تعكس أنوارها المياه الجارية بالقصر فكان المنظر بحق بديع , فقال في ذلك:

لا يـوم كاليـوم في أيامك الأُول

بـالعامــرية ذات المـاء والظُـللِ

هـواؤها في جميع الدهر معتدلٌ

طيـبا وإن حـل فصلٌ غيـرُ معـتدلِ

ما إن يُبإلى الذي يحتل ساحتها

بالسعد أن لا تحلّ الشمسُ بالحملِ

   وايضا نجد صاعد اللغوىّ الذي لم تخلو مجالس المنصور تقريبا من حضوره يمدح الحاجب المنصور قائلا:

يا أيهـا الملكُ المنصـورُ من يمنٍ

والمُبتنى نسبـاً غـير الذي انتسبا

بغزوة في قلـوب الشـرك رائعة

بين المنـايا تُناغى السُّمر والقُضُبَا

اما ترى العين تجري فوق مرمرها

هوى فتجري على اخفاقها الطربا

اجربتها فطمى الزاهي بجريتها

كما طموت فسدت العجم و العربا

تخال فيها جنود الماء رافلة

مستلئمات تريك الدرع و اليلبا

تحيفها من فنون الايك زاهرة

قد اورقت فضة اذ اورقت ذهبا

   والمنصور نفسه كان شاعرا فحلا مفاخرا ينظم الشعر ويناظر كل من يؤم مجلسه، فمن شعره يفتخر :

ألم ترنى بعتُ الإقـامـةَ بالسُّر

ولين الحشايـا بالخـيول الضـوامرِ؟

تبدَّلْتُ بعد الزعفــرانِ وطِـيبِه

صدا الدّرع من مستحكمات المسـامرِ

أروني فتى يحمي حماي وموقفي

إذا اشتجر الأقران بين العساكر

أنا الحاجب المنصور من ال عامر

بسيفي أقد الهام تحت المغافر .

  ومن شعره أيضاً , يفتخر :

رميت بنفسى هول كل عظيمةٍ

وخاطرتُ والحر الكريمُ يخاطرُ

ومـا صاحبى إلا جنـان مشيعٌ

وأسمر خطى وأبيـض بـاترُ

    وحتى في عصر ملوك الطوائف و الفتن والتناحر على السلطة وحب السيطرة نجد إنتاجا غزيرا من الشعر وبروز لعدد من الشعراء الذين ذاع صيتهم الى خارج حدود الاندلس وأشهرهم “أحمد ابن زيدون” (394هـ/1003م 463 هـ/ 1071م) الذي برع في الشعر كما برع في فنون النثر، حتى صار من أبرز شعراء الأندلس المبدعين وأجملهم شعرًا وأدقهم وصفًا وأصفاهم خيالا، كما تميزت كتاباته النثرية بالجودة والبلاغة، وتعد رسائله من عيون الأدب العربي.. هام حبا في ابنة الخليفة الاموي “ولادة بنت المستكفي” فكان هذا الحب سببا في تفجر قريحة شاعرنا الشعرية لتجود علينا بالعذب منها في وصف حلاوة الحب في القرب و ألم الهجر و البعد و نجد له عدة قصائد يتغزل فيها بولادة منها:

ودَّعَ الصبرَ محبٌّ ودَّعَكْ

ذائعٌ من سرِّهِ ما استودعكْ

يا أخا البدرِ سناءً وسنىً

رحمَ اللهُ زمانًا أرجَعَكْ

إن يطُلْ بعدَكَ ليلي فلقدْ

كنتُ أشكو قصرَ الليلِ معكْ

    ناهيك عن قصيدته النونية التي تفوقت على نظيراتها و حازت شهرة تردد صداها الى اليوم :

أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْـلاً مِـنْ تَدانِيْنـا

وَنَابَ عَـنْ طِيْـبِ لُقْيَانَـا تَجَافِيْنَـا

ألا وقد حانَ صُبـح البَيْـنِ صَبَّحنـا

حِيـنٌ فقـام بنـا للحِيـن ناعِينـا

مَـن مُبلـغ المُبْلِسينـا بانتزاحِهـم

حُزنًا مـع الدهـر لا يَبلـى ويُبلينـا

أن الزمان الـذي مـا زال يُضحكنـا

أنسًـا بقربهـم قـد عـاد يُبكيـنـا

غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى

فدعوا بـأن نَغُـصَّ فقـال الدهـر آمينـانا.

     والى جانب شعر الغزل الذي كثر في ذلك العهد نجد شعراء الزهد أمثال : ” أبو محمد عبد الله بن فرج اليحصبي ” المعروف ” بابن العسال ” (ت. 1095/487 م) و هو شاعر من طليطلة اشتهر بالزهد والكرامات واجابة الدعوات. وقد تشبه بأبي إسحق الألبيري وعلى طريقته جرى، وكانا معا فرسي رهان في ذلك الزمان صلاحا وعبادة . وليس كثيرا ما وصلنا من شعره الزهدي ولكن ربما كان من أقوى نماذجه قوله :

انظر الدنيا فان أبصرتها شيئا يدوم

فاغد منها في أمان إن يساعدك النعيم

وإذا أبصرتها منك على كره تهيم

فاسل عنها واطرحها وارتحل حيث تقيم

    كما ذاع في تلك الفترة صيت إمام الظاهرية “ابن حزم الاندلسي” وهو الفقيه والفيلسوف والاديب و الشاعر الفصيح والبليغ في وصفه ومعانيه إذ نجد له قصيدا كتبها عندما أحرقت كتبه لإتهامه بما تحويه من علوم ومبادئ فلسفية تفسد عقيدة أهل الاندلس:

إن تحرقوا القرطاسَ لا تحرقوا الذي

تضمَّنَه القرطاسُ بل هو في صدري

يسيرُ معي حيث استقلَّت ركائبي

وينزل إن أنزلْ ويُدفَنُ في قبري

دعونيَ من إحراق رقٍّ وكاغدٍ

وقولوا بعلمٍ كي يرى الناس من يدري!

كذاك النصارى يحرقون إذا علتْ

أكُفَّهُمُ القرآنَ في مُدُنِ الثغرِ.

    وكان ممّا أنشده رحمه الله في هذا المعنى ايضا متحسرا على ضياع علمه في أرض رأى انها ليست اهلا للعلم والعلماء و مفاخرا ايضا بمقدار ما إكتسبه من تلك العلوم حتى قال، مخاطبا قاضي الجماعة بقرطبة عبد الرحمن بن بشر كما اورده المقري في نفح الطيب :

أنا الشّمس فِي جوّ العلوم منيـرة

ولكنّ عيبـي أنّ مطلـعِيَ الغرب

ولو أنّنِي من جانب الشّرق طالع

لَجَدَّ على ما ضاع من ذِكْرِيَ النّهب

ولِي نَحوُ أكناف العراق صبابـة

ولا غرو أن يستوحش الكَلِف الصبّ

فإن يُنْزِل الرحمن رحْلي بينـهم

فحينئذ يبـدو التأسّـف والكـرب

فكم قائلٍ أغفلته، وهو حاضـر

وأطلب ما عنه تجـيء بـه الكُتْـب

هنالك يُدرَى أنّ للبُـعد قصّـةً

وأنّ كسـاد العلم آفـتـه القـرب

ولكنْ لِي في يوسـف خير أسوة

وليس على من بالنبـيّ ائتسـى ذنب

يقول- وقال الحقّ – الصّدق إنّني

(حفيظ عليم) ما على صـادقٍ عتـب

   ومن بين ملوك الطوائف اشتهر ملك إشبيلية ” المعتمد ابن عباد ” بفيض شعره و حلاوة ألفاظه و جمال إستعاراته و تشابهه فكان ان قال في زوجته اعتماد الرميكية :

حـب اعتمـاد فـي الجـوانح سـاكن

لا القلـب ضـاق بـه ولا هو راحل
يــا ظبيــة ســلبت فـؤاد محـمد

أو لــم يــروعك الهزبـر الباسـل
مــن شـك أنـي هـائم بـك مغـرم

فعــلى هــواك لــه عـلي دلائـل
لــون كســته صفــرة ومـدامع

هطلــت سـحائبها وجسـم نـاحل

   لكن الزمان جار على ملكنا الشاعر بعد سقوط مملكته إشبيلية في أيدي المرابطين و نفيه وحبسه في أغمات بالمغرب فتغير قلبه المحب للحياة كطائر حر إلى قلب ملكوم مفجوع على ارضه و ملكه و اولاده وحاله فتغير لسان حاله لتنطق اشعاره وتعبر عن أحزانه و بؤسه فنجد له قصيدا اثناء أسره في حصن أغمات يأسف على ما مضى من حياته اذ يقول فيها :

غــريب بــأرض المغـربين أسـير

ســيبكي عليــه منــبر وســرير
‏ ‏وتندبــه البيــض الصـوارم والقنـا

وينهـــل دمــع بينهــن غزيــر
‏ ‏سـيبكيه فـي زاهيـه والزاهـر الندى

وطلابــه والعــرف ثــم نكـير
‏إذا قيـل فـي أغمات قـد مات جوده

فمــا يرتجـى للجـود بعـد نشـور

‏   كما رثى في قصائده ابنيه المأمون و الراضي اللذان قتلا :

يا غيمُ: عيني أقوى منك تهتانا

أبكي لحزني, وما حُمّلْتَ أحزانا
ونارُ برْقك خبو إثْرَ وقْدتها

ونارُ قلبي تبقي الدهْرَ بُركانا
نارٌ وماءٌ صميمُ القلب أصلهُما

متى حوى القلبُ نيراناً وطوفانا
ضدّانِ ألّف صرفُ الدهر بينهما

لقد تلوّن فيّ الدهرُ ألوانا
بكيْتُ فتْحاً فإذ ما رُمْتُ سلوْته

ثوى يزيدُ فزادَ القلبَ نيرانا

يا فِلْذتيْ كبدي يأبى تقطّعُها

من وجدها بكما ما عشتُ سُلوانا

  حتى انه رثى نفسه قائلا:

قبر الغريب سقاك الرائح الغادي

حقًا ظفـرت بأشلاء ابــن عبــاد

    وقد نقشت هاته الابيات على قبره في مدينة مراكش بعد ان نقل جثمانه هو و زوجته إعتماد وابنه ليقام له ضريح يليق بأعظم ملوك الطوائف .

    وكان للمعتمد صديق شاعر يدعى ابن حميدس كان من المقربين منه تجمعهما علاقة صداقة واخلاص لم تنقطع حتى بعد إنفصالهما ونفي المعتمد وقد حفظ لنا التاريخ عدة ابيات كانت مثالا على عمق الصداقة التي لم تبلى حتى في البعد يقول فيها ابن حميدس إكراما لصاحبه و وفاء له:

أباد حياتي الموت إن كنت ساليا
وأنت مقيم في قيودك عانيا
وأن لم أبار المزن قطراً بأدمعي
‏ ‏ عليك فلا سقيت منها الغواديا

    كما تظهر لنا قصائد أخرى لشاعرنا ان له رؤية وبعد نظر وحكمة إذ أدرك ابن حمديس أن الزمن لا يظل على نفس حاله وأن التغير سمة الكون وخير دليل ما حدث لصاحبه ابن العباد فمن الملك إلى الاسر و في ذلك كتب يقول:

ألا كم تُسمعَ الزمن العتابا
تخاطبه ولا يدري الخطابا
أتطمع أن يرد عليك إلفا
ويُبقي ما حييت لك الشبابا
لم تر صرفه يبلي جديداً
ويترك كاهل الدنيا يبابا.

    الاندلس وما أدراك ما الاندلس جنة الله على ارضه انهار وأشجار وبساتين فسيحة وإخضرار، جمال طبيعي ساحر ألهم الشعراء فبرع في وصف الطبيعة وجمالها الشاعر “أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الفتح بن خفاجة” (450 هـ/1058) م وعاش في أيام ملوك الطوائف إبان دولة المرابطين، وهنا تفرد ابن خفاجة بالوصف والتصرف فيه، ولا سيما وصف الأنهار والأزهار، والبساتين والرياض والرياحين، فكان أوحد الناس فيها حتى لقبه أهل الأندلس بالجنان، أي البساتين، ولقبه الشقندي بصنوبري الأندلس وكان بذلك شاعر الطبيعة بلا منازع و في ذلك نجد له العديد من الاشعار لعل أشهرها:

يا أهل الأندلس لله دركم
ماء و ظل و أنهار و أشجار
‏ما جنة الخلد إلا في دياركم
‏ و لو تخيرت هذي كنت أختار
‏إن للجنة في الأندلس
‏ مجتلى حسن و ريا نفس
‏فسنا صبحتها من شنب
‏ و دجى ظلمتها من لعس
‏فإذا ما هبت ريح صبا
‏ صحت وا شوقي إلى الاندلس

لكن مع سقوط المدن الاندلسية الواحدة تلو الاخرى في عهد الطوائف خاصة مع سقوط اولى الدرر الاندلسية ألا و هي مدينة طليطلة سنة 1085 م، ظهرت المرثيات او شعر الرثاء في الاندلس الذي يصف حال المسلمون المتدهور فيها و ضياع ملكهم ومدنهم و ما يهدد وجودهم فيها من مخاطر محذراً وناصحاً بالهجرة إلى بلدان أخرى وفي هذا قال ابن العسال:

شدّوا رواحلَكم يا أهلَ أندلس

فما المقامُ بها إلاَّ من الغَلَطِ
الثَّوب ينسلُّ من أطرافه

وأرى ثوبَ الجزيرة منسولاً من الوسطِ .

مَنْ جَاوَرَ الشَّرَّ لاَ يَأْمَنْ بَوَائِقَهُ

كَيْفَ الْحَيَـاةُ مَـعَ الْحَيَّاتِ فِي سَفَطٍ

    وفي نفس الغرض نجد ايضا قصيدة رثائية لابن شهيد الأندلسي في رثاء قرطبة يقول فيها:

ما في الطلول من الأحبة مخبر

فمن الذي عن حالها نستخبر
لا تسألن سوى الفراق فإنه

ينبيك عنهم أنجدوا ام أغوروا
جار الزمان عليهم فتفرقوا

في كل ناحية وباد الأكثر
جرت الخطوب على محل ديارهم

وعليهم فتغيرت وتغيروا
فدع الزمان يصوغ في عرصاتهم

نورا تكاد له القلوب تنور
فلمثل قرطبة يقل بكاء من

يبكي بعين دمعها متفجر
دار أقال الله عثرة أهلها

يبكي بعين دمعها متفجر
في كل ناحية فريق منهم

متفطر لفراقها متحير

    ولم يقتصر الشعر في الاندلس على فحول الشعراء من الرجال فقط بل تجاوزه ليطرق باب النساء الاندلسيات ويثير قريحتهن فزاحمن بذلك الرجال في هذا الميدان وفاقوهن جرأة فكان هناك العديد من شاعرات الغزل جاهرن بحبهن وتغزلن بالرجال في قصائدهن و من هؤولاء نذكر:
الشاعرة “حفصة بنت الحاج الركونية “، التي كانت على علاقة عشق مع الشاعر أبي جعفر ابن سعيد، و قد تناقلت لها المصادر الأدبية كثيرا من شعرها الغزلي الرقيق فيه، فمن ذلك قولها:

ثنائي على تلك الثنايا لأنني

أقول على علم وأنطق عن خبر

وانصفها لا اكذب الله إنني

رشفت بها ريقاً ألذ من الخمر

كما كتبت له ذات مرة تخبره:

أزورك أم تزور فإن قلبي

إلى ما ملتم أبدا يميل

فثغري مورد عذب زلال

وفرع ذؤابتي ظل ظليل

وقد أملت أن تظمأ وتضحى

إذا وافى إليك بي المقيل

فعجل بالجواب فما جميل

أناتك عن بثينة يا جميل.

    ومن بينهن ايضا الشاعرة نزهون القلاعية الغرناطية والتي كانت تعرف بجرأتها الشعرية ومقارعتها للشعراء الرجال في مجالس الادب ومجالستهم و يتحفنا التاريخ بذكر موقف لها، في أحد مجالس أبي بكر بن سعيد الوزير اذ تصدى الشاعر أبو بكر المخزومي الأعمى، وكان شاعراً مقذعاً في هجائه، لنزهون وقال هاجيا:

على وجه نزهون من الحسن مسحة

وإن كان قد امسى من الضوء عاريا

قواصد نزهون توارك غيرها

ومن قصد البحر استقل السواقيا

فردت عليه نزهون :

 

    ولا يفوتنا بالذكر هنا أشهرهن ثقافة وفصاحة و جمالا وادبا درة عصرها “ولادة بنت المستكفي” حبيبة شاعرنا احمد ابن زيدون كما ذكرنا سابقا وفيه هامت هي الاخرى حبا وجاهرت بذلك في أشعارها حتى تناقلت خبرهما كل الاندلس وفيه قالت:

ترقب إذا جن الظــلام زيارتي

فإني رأيت الــــــليل أكتم للسر

وبي منك ما لو كان للبدر ما بدا

وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسر

انا والله أصلح للمــــــعالي

وأمــــشي مشيتي وأتيه تيها

أمكن عاشقي من صحن خدي

وأمنح قبلتي من يشتهيها

و قولها ايضا تعاتبه:

لَو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا

لم تهوَ جاريتي ولم تتخيّرِ

وَتركتَ غصناً مثمراً بجماله

وجنحتَ للغصنِ الذي لم يثمرِ

ولقد علمت بأنّني بدر السما

لَكن دهيت لشقوتي بالمشتري.

      شهدت الاندلس منذ عصر الامارة الىنهاية عهد ملوك الطوائف نهضة علمية وأدبية ساهمت في إثراء المدونة العربية في الادب والشعر وكغيره من الفنون و العلوم و لإن ذكرنا في هذا المقال ما ذكرنا فإنه للتذكير بنفخات أندلسية شعرية ولا ننسى ان الاندلس على إمتداد تلك الفترة من الحكم الاموي أنجبت عدة أدباء و مؤرخين فبزغ بذلك نجم الاندلس في النثر وعلوم اللغة والتاريخ وكتب السير والتراجم والفلك والرياضيات والفلسفة وعلوم الطب والصيدلة و كان لها نخبتها المثقفة التي تفخر بها حضارتنا الاسلامية، اذ لمع في فن الكتابة الأدبية اسم “ابن عبد ربه” وكتابه الشهير «العقد الفريد» الذي كان بمثابة موسوعة ثقافية تبين أحوال الحضارة الإسلامية في عصره وتناول فيه السياسة وفنون الحرب والنوادر وفضائل العرب والخطب والحديث واللغة والتاريخ والشعر وطبائع البشر وألوان الملابس والطعام. وبرز أيضًا ” ابن شهيد ” صاحب «رسالة التوابع والزوابع» ذات الإطار الخيالي الخصب و التي تدرس في المعاهد الى اليوم، وفي علوم اللغة والنحو، بعد أن دخل جودي بن عثمان الموروري بكتب الكسائي، اهتم الأندلسيون بعلم النحو كما كان لانتقال “أبي علي القالي” من العراق للأندلس دوره في ذيوع علوم اللغة وأشعار الشرق في الأندلس وقد ألف الأندلسيون كتبًا في علوم اللغة، بل وخاضوا في مواضيع لم يسبقهم إليها أحد ككتاب «تصاريف الأفعال» “لابن القوطية” وهو أول كتاب يتناول الأفعال الثلاثية والرباعية ، و لا يفوتنا بالذكر “ابن حيان القرطبي” الذي لقب بشيخ مؤرخي الاندلس و حامل لواء التاريخ في الأندلس، أفصح الناس بالتكلم فيه، وأحسنهم تنسيقا له اسهب فيه بالذكر و التفصيل و لم يترك شاردة أو واردة الا ذكرها من أخبارك الملوك واحوال اهل الاندلس و كانت كتبه بمثابة مرجعا ومصدرا مهما لإستقصاء التاريخ الاندلسي من منبعه لمن جاء بعده من المؤرخين و المهتمين بالشأن الاندلسي و من كتبه (المقتبس في تاريخ الأندلس) ويقع في عشر مجلدات، وله (المبين) في تاريخ الأندلس أيضا، أكبر من المقتبس، وكتاب في (تراجم الصحابة) وجد منه الجزء الثالث…

     و مهما تحدثنا لم و لن نفي أدباء الأندلس وعلمائها حقهم ولا حق الاندلس نفسها أرض الجود و الادب و الحضارة والرقي و لنا إن شاء الله جولة أندلسية أخرى في الادب الاندلسي.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. جميل حنون
    ابدعتى وتألقتى
    ونضيف اليهم شعراء كثيرون
    منهم
    ابن عبد ربه
    ابو البقاء الرندى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى