اللغة… طوق نجاة في عصر الكورونا

أ.د. علي حسين فياض

prof4translation@gmail.com

اللغة هي التعبير الناطق عما يجول بخاطر ناطقها، وهي وسيلة الانسان للتصريح بما يريده، علنيا أم ضمنيا، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، بلطف أم بفظاظة، الخ وحسبما يقتضيه السياق.  لذلك فهي واحدة من أجمل وسائل الاتصال البشري، خصوصا عندما يكون مستخدمها عارفا بما يقول أو يريد أن يقول.

بإختصار، ان شخصيتك وهويتك يعكسهما أسلوبك (لغتك)، لذا نستمع دوما للدارج من القول “الأسلوب هو الرجل”، فتحدد لنا بموجبها هوية العاقل/الأحمق، العارف/الجاهل، الفقيه/السفيه، الخ.

إذن اللغة هي أداة (نستخدمها)، وهوية (تعرفّنا)، وعلامة (تشكل شخصيتنا).

إن المتابع لوسائل الاعلام الأمريكية (قنوات سي أن أن، فوكس نيوز، أو صحف الواشنطن تايمز، والواشنطن بوست، وغيرها من المحطات الأذاعية) يشاهد ويقرأ ويسمع مسلسلات يومية مثيرة لا نهاية لها، حيث ان كل منها تحكمه أيدولوجية سياسية (غالبا جمهورية محافظة او ديمقراطية ليبرالية)، رغم انها جميعا تدعي الاستقلالية والموضوعية والمحافظة على القيم والدستور والديمقراطية، إلخ.

لقد هز الوافد القادم “كورونا” المجتمع الأمريكي، قيادة ومؤسسات وأفراد، ولازال يأكل بنهم من وليمة “الأمريكان” وبلا هوادة، حيث بلغ عدد المصابين كما في موقع يور نيوز لغاية أمس(17/7/2020) أكثر من 3,770,138والمتوفين أكثر من 142,065(1). وهو أمر فشلت أزائه قيادة ترامب في إستيعاب هذه الجائحة وأدى الى إهتزاز الإقتصاد القوي (؟؟!!) الذي كان قد بناه من خلال إتباعه سياسة الترهيب والانسحاب من الكثير من إلتزامات بلاده الوطنية والعالمية والانسانية.  وتكشف للداني والقاصي ان قيادته هي قيادة حبلى بالأكاذيب والتناقضات التي تستبطنها رؤية نرجسية وشوفينية ومصلحية.

تحت ظل هذه القيادة ومؤسساتها، لايمكن لمن يعلن الوقوف ضد ترامب أومحاربته إلا ان يهاجم من قبله وبطانته وقاعدته من “الوايت سوبرماست”، لذا خنع له “الجمهوريون”، وتحولت مؤسسات الديمقراطية الأمريكية الى كيانات ترامبية تتخذ قراراتها من قبله مباشرة أو من قبل أبواقه من النواب والوزراء والاعلاميين والمتنفذين وغيرهم، وتحولت الحقائق المدعومة في “ملفات مولر وأوكرانيا” بقدرة قادر الى أدلة يستخدمها الآن متبجحا ضد أصحابها، عوضا عن ان تطيح به من سدة الرئاسة، فرميت في مزبلة “الهوكس” لا غير.  على العموم لسنا هنا بصدد الخوض فيها الآن.

وفي هذا النظام الترامبي حظيت الولايات (هنالك 50 ولاية أمريكية) التي يقودها حكام جمهوريون (من الداعمين لسياسته) بالدعم الفيدرالي (من الحكومة المركزية)، في حين تم تقطير الكثير من المساعدات (وخصوصا المالية) الى تلك التي يحكمها ديمقراطيون، بل دعى زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل الى “وجوب إعلان الولايات إفلاسها” لمواجهة العجز المالي!!

كانت ولاية نيويورك الوليمة الكبرى لكوفيد-19 حيث بلغ عدد إصاباتها لغاية اليوم (410,776)، والوفيات فيها (32,147)(2) بسبب انها المركز التجاري العالمي ونقطة وصول القادمين لأمريكا من كافة أنحاء العالم (وبالذات من أوربا)،وخصوصا قبل الغلق التاموهم محملون بتباشير الوباء القاتل. 

ولعل من سوء حظ سكانها (خلال هذه الأزمة على الأقل) ان يكون حاكمها، أندرو كومو، ديمقراطيا.  ورغم الحنكة القيادية التي تميز بها في التعامل مع الجائحة مقارنة بترامب (مما جعلته في نظر الكثير من الأمريكين الرئيس الأفضل مستقبلا)، فأنه اختار ان يكون دبلوماسيا خلال تاريخ تعامله مع الرئيس والحكومة المركزية بالقدر الذي يمكنه من الحصول على دعمها.  وقد نجح الى حد ما في هذا الأمر.  مرة أخرى،لسنا هنا بصدد الخوض فيها الآن.

لقد استطاع كوموتوظيف اللغة بصورة رائعة لتحقيق أهدافه (تكتيكيا) دون التنازل عن هويته السياسية (أستراتيجيا)، ولقد أناخت اللغة ظهرها الغني لهذا السياسي الذكي، حيث واصل عبر إستخداماته اللغوية معارضة الكثير من السياسات الترامبية، وخصوصا في موضوعة حساسة هي “إرتداء الكمامات” التي كان جميع ذوي الشأن من المتخصصين (الأطباء والعلماء والسياسيين، ومنهم كومو) يرونها ضرورة للحد من إنتشار المرض، في الوقت الذي كان فيه ولازال ترامب من الرافضين لها علنا ومن المشجعين لقاعدته (المتطرفة) على رفضها بإعتبار ان إرتدائها غير لائق بشخصية رئيس الولايات المتحدة الأمريكية (نرجسية مفرطة) أو أن فرضها يتعارض مع الحرية الشخصية للأفراد التي يبجلها الدستور الأمريكي !!!

لقد وجد كومو نفسه بين “حانة ومانة”، فهو بحاجة الى دعم من الرئيس، ولتحقيق ذلك عليه ألا يجاهر بتسفيه مرئياته (أي الرئيس) في هذا الشأن، رغم معرفته بأهمية الكمامات من خلال عمله في قلب الحدث.  وقد سعفته اللغة في تحقيق غرضه دون إغضاب للمجنون أو تنازل عن الصحيح حيث أشار في سياق أحد مؤتمراته الصحفية اليومية بما يأتي: 

of people to not wear masks. It is disrespectful

ولم يقل الشائع:

of people not to wear masks. It is disrespectful

فالأولى تتضمن:

It is disrespectful of someone to tell/suggest/order people not to wear masks

أي أن “عدم إرتداء الفرد/الناس الكمامة/الكمامات هو أمر معيب أو قلة إحترام أو صفاقة”،

في حين ان الثانية هي السياق اللغوي المعتاد، وتعني ان على جميع العقلاء إرتداء الكمامات،

It is disrespectful of someone/people not to wear masks

بعبارة أخرى، كان يقول بصورة غير مباشرة ان الرئيس ترامب صفيق وقح عديم الأحترام في فعله شخصيا وتشجيعه على عدم إرتداء الكمامات، لأن في ذلك إستهانة بمن يتوجب عليهم إرتدائها، وخصوصا العاملين في الخط الأول من الأطباء والممرضين ورجال الأسعاف وغيرهم، إضافة الى انها تشكل إستهانة بالحياة البشرية بسبب أن عدم إرتدائها سيساعد على نقل العدوى ووفاة الكثيرين، زائدا الأعباء التي تتطلبها معالجة مثل هؤلاء المصابين نتيجة عدم إرتداء الكمامات، وما يفضي الى طوال مدة انتشار المرض.

لقد قام كومو بشطر المصدر (to wear ) بوضع أداة نفي (not) بين الفعل وأداة المصدر، وذلك لتوضيح وجهة نظره بهدوء دون تهجم.  فالعامة لايرون ان الجملة الأولى التي أوردها أصلا تختلف عن الثانية في أن عدم ارتداء الكمامات أمر مشين.  ولن يفطن لما ورد في تفسيرنا أعلاه إلا ذوو البصيرة، وهم قلة من بين من يخاطبهم كومو.  وهو ما أراده كومو، وتمكن من تحقيقه، بفضل حنكته أو دراية مستشاريه.

لقد عرضت الجملتين أعلاه في أحد منتديات الترجمة التي أشارك فيها، ولم تردني من أعضائها مشاركات لمحاولة ترجمتها (أعتقد محاولة واحدة مغلوطة).  ان الترجمة ليست إبدال تركيب بآخر، بل يتوجب على المترجم المحترف أن يكون ملما بالسياق الذي ترد فيه النصوص المطلوب ترجمتها، ويتقمص قدر الامكان شخصية قائلها أو كاتبها.  نعم انه عمل شاق، تغذيه الدراسة في مجال اللغة والترجمة (التخصصية)، وتصقله المعرفة العامة، وتجملّه الخبرة في الترجمة.  اني أقارنها بما يعبر عنهخبراء التدريب بالكفاية التي تتطلب معرفة ومهارة وخبرة (ان جاز لنا ذلك). وهنا يكمن بيت القصيد، الترجمة علم وفن وتجربة، خلوها من أحدها، سيؤدي الى قصور في مخرجاتها (الترجمات). وما أكثرها!!!

اننا من خلال هذه المقالة القصيرة نود أن نؤكد على:

  1. ان اللغة (أية لغة) ثروة غير نافدة متجددة بفصاحة مستخدميها
  2. ان الترجمة إلتزام مشروط على الطرف المنفذ فيه (المترجم) أن يكون أمينا في تنفيذ إلتزاماته.
  3. ان الأسلوب هو الرجل، وهي وسيلتنا لأن نحظى بإحترام الآخرين.
  4. إن إرتداء الكمامات في عصر كورونا هو مسؤولية لحفظ النفس والأهل والمجتمع.

هوامش:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى