مناهج اللسانيات ومذاهبها.. قراءة موجزة

د. باسم عبد الكريم العراقي
    بعد أن كانت اللسانيات مرتبطة في دراسة الظاهرة اللغوية بالمنهج التجريبي والوصفي إنتقلت إلى إطار مرجعي آخر صات في ظله متكئة على المنهج العقلاني في تحليل اللغة الإنسانية.

   واللسانيات المتوسلة بالمنهج العقلاني تقوم على ثلاث أسس هذا بيانها:
1 ـ أن العقل هو المصدر الوحيد لإنتاج المعرفة عامة، والمعرفة اللسانية بشكل خاص.
2 ـ أن اللغة تعد من منظور العقلانية تنظيما عقليا، لأنه إذا كان الفكر اختيارا حرا للإنسان، فإن اللغة تساهم في تكوينه وتجعله ممكن الوجود، وتمنحه فرصة التعبير عن نفسه، وبها يكشف عن نفسه ويجليها بوصفه فكرا.
3 ـ أن اللغة ترتبط بالفعل الفيزيائي ولكنها تتجاوزه، وما كانت بتك الصورة إلا لوجود سبب رئيسي وراء حصولها، وهو العمل العقلي الذي يوجه هذا الفعل الفيزيائي ويعلو عليه.

   فالعقلانية تحاول التمييز بين ما هو عقلي وما هو فيزيائي ، وهذه هي نقطة الخلاف بين العقلانيين التوليديين والسلوكيين في البنيوية البلومفيلدية.

   ذلك لكون الإنسان عندهم لا يتعلم اللغة بالتدريب والتعود على سلوك معين كما يتعلم الحيوان ولا عن طريق الحافز أو المثير، فاللغة تكتسب اكتسابا من غير أن يبذل الإنسان في اكتسابها أي جهد، ودون أن يخضع في اكتسابها إلى أي منعكس شرطي.

  فهناك في العقل الانساني استعدادات فطرية لاكتساب اللغة وجدت مع وجوده مند الإنسانية الأولى.

   ومادام الإنسان يوجد في مجتمع، فلا يستطيع فيه إلا أن يكون متكلما. أضف إلى ذلك أن العقلانيين ينظرون إلى الإنسان على أنه قادر على أن يواصل تعليمه للغة وحده، عكس الحيوان لأنه عاجز عن التفكير، وهو ما وضحه الأستاذ منذر ،وهو لساني عربي معروف، بقوله: “إن العقلانيين يرون أن الإنسان يستطيع أن يواصل تعليمه بمفرده ولكن الحيوان في المقابل يظل عاجزا عن مثل هذا، وغير قادر على أدائه أو الانتقال بنفسه إلى مثل هذا المستوى، الذي يتطلب شيء غير الخبرة العملية ألا وهو التفكير فهو يخطو به من التجسيد إلى التجريد، ومن آلية التكرار في تعود عادة، إلى عقلنة العادة وإدخالها في المزاولة النظرية وممارسة الفرضيات (ممايؤدي) إلى التعلم بجهد أقل.

    ولعل من أهم النتائج التي توصلت إليها العقلانية في الحقل اللساني هي أنها صاغت “كليات لغوية تشترك فيها جميع اللغات على اختلافها من حثيث التركيب والصوت والدلالة، لقد “كان من النتائج التي توصلت إليها اللسانيات باستخدام العقلانية منهجا .أن وقفت على ما أسمته ” الكليات ” أو عالمية السيمات اللغوية “.
     لقد اعتمدت العقلانية على صياغة الفرضيات بعدما جرت العادة على أن نطلق على كل أمر عقلاني لفظ التجريد أي أنه غير مجسد.

    إنه عملية انتقال من الشيء إلى متصوره وكل أمر مجرد ممثل داخل العقل يبقى عبارة عن نظرية، وهذا ما جعل النظرية تبقى مرتبطة دائما بالتمثلات العقلية ولعل هذا ما جعل فولكيه ينظر إلى النظرية بوصفا “تمثيل عقلاني” وكذلك “بناء عقلي يرتبط بواسطة عدد من القوانين التي يمكن أن تستنتج منه مباشرة “.
    وبناءً عليه فالنظرية تبقى عبارة عن بناء عقلي يستند إلى قوانين مستمدة من داخل العقل نفسه.

   والنظرية عند فولكيه: “تقف وسطا بين الفرضية والنسق” مما يجعلنا نستفسر عن المقصود بكل من الفرضية والنسق؟، وما الذي حمل “فولكيه” على القول بذلك؟
ونمهد للاجابة بالقول :
     لقد مرت اللسانيات في مراقبة الحدث اللساني ودراسة كيفيات حصوله بمرحلتين:
الأولى ـ المرحلة التجريبية.
الثانية ـ العقلانية.
وأدناه توضيح موجز لهاتين المرحلتين :
1ـ المنهج التجريبي واللسانيات
التجربة: هي المصدر الوحيد لما نستطيع أن نعرفه عن الواقع، و”التجريبية”، بوصفها منهجاً، تقتضي اتباع تعاليم التجربة من غير أفكار مسبقة ولا فرضيات معدة سلفاً.
  و”اللسانيات” تكون، بهذا المعنى، اتباع تعاليم التجربة اللسانية. باعتبارها المصدر الوحيد لمعرفة الواقع اللساني.اي إن اللسان حدث في واقع تخبر عنه تجربة المتكلم مع كلامه. واللسانيات إذ تعتمد التجريبية، سواء كانت تاريخية أم كانت بنيوية في مرحلتها الأولى، فإنها تقصي المتكلم (صاحب الحدث اللساني)، ولا تنظر إليه في المعرفة اللسانية.

   ذلك لأن ما يهم اللساني التجريبي، هو الحدث وليس صاحب الحدث، والتجربة وليس منجز التجربة.

  ويمكن القول: إن المتكلم واللساني لا يستويان مع اللسان تعاملاً وممارسة. فالأول يستعمله وهو لا يراقب أصولية اللسان وقد لا يعلم ما به يكون، في حين أن الثاني يستعمله وهو يراقب أصولية اللسان ويعلم ما به يكون.

    وكذلك، فإن ما يكون منسياً، بالضرورة لحدوث الكلام، يكون ملاحظاً ومراقباً، بالضرورة أيضاً، عند اللساني لمعرفة الواقع اللساني.

    وتعد “المراقبة” عند الباحث اللساني، أداة الاختبار ،تنوب عن التجربة في البحث وتكوين المعرفة اللسانية. ولقد عملت بهذا كل المناهج اللسانية، فحققت بذلك أمرين:
– الأول، وأكدت فيه التزامها بشرط المنهج التجريبي القاضي باتباع التجربة من غير أفكار مسبقة ولا فرضيات معدة سلفاً.

    لذا فهي تسعى ،باستخدام الاستقراء،إلى جمع الوقائع اللغوية (الكلمات، العبارات، الوثائق) وتصنيفها، وتبويبها لكي توضع في مدونة. وهذا يعني أن مفهوم “المدونة” يعد مركزياً في كل بحث تجريبي.
– الثاني، وتميزت فيه من النحو التقليدي الذي هو منظومة معدة سلفاً، وتُشكِل حدثاً سابقاً في وجوده على حدوث الكلام، فاللسانيات إذ تتشكل منظومة بعد حدوث الكلام، فإنها تحدث قطيعة معرفية ومنهجية مع منظومة النحو التقليدي.

    وإذا أردنا، أخيراً، خلاصة نجمع فيها الناتج المعرفي للمنهج التجريبي في اللسانيات، فإننا نستطيع أن نقول إن هذا الناتج قد تجلّى في مذهبين كبيرين، هما: مذهب اللسانيات التاريخية والقواعد المقارنة من جهة، ومذهب اللسانيات البنيوية في مرحلتها الأولى، من جهة ثانية.
2ـ المنهج العقلاني واللسانيات :
العقلانية، مقارنة بالتجريبية، تسجل انزياحاً لمركز التأصيل والتحصيل المعرفي، يذهب بها من التجربة التي كانت سائدة ومهيمنة في علوم القرن التاسع عشر وبضع سنين من القرن العشرين، إلى العقل الذي صارت له الغلبة بعد ذلك.
واذا كان للتجريبية أثر بالغ في نشوء اللسانيات التاريخية (التطورية والتعاقبية)، ونشوء اللسانيات البنيوية (التركيبية والآنية)، فكذلك كان للعقلانية أثر بالغ في نشوء الثورة اللسانية الثانية على يد “تشومسكي” في نهاية الخمسينات من القرن العشرين.
ولكي تتضح لنا صلة العقلانية باللسانيات، فمن المستحسن أن نقارنها ونقابلها، من خلال نقاط مائزة ومحددة، بصلة التجريبية باللسانيات:
– التجريبية: لقد كان من إفرازات المنهج التجريبي في اللسانيات:
1. اعتماد التجربة (أي الوقائع اللغوية: الوثيقة، الألفاظ، الجمل، العبارات) أساً لبناء المعرفة اللسانية.
2. الاستناد إلى الاستقراء إجراءً في الاستقصاء واستثمار التجارب والوقائع.
3. تكوين مدونة وتبويبها وتصنيفها لتكون بألفاظها وجملها وعباراتها نموذجاً تمثيلياً للغة، ومثلاً تفسيرياً، ووثيقة دالة على أداء المتكلم.
4. إسقاط المتكلم وإقصاء الدلالة لصالح ميكانيزمات شكلانية تظهر في الأشكال المختلفة لأداء اللغات صرفاً وتركيباً.
– العقـلانية:لقد كان من إفرازات العقلانية في اللسانيات:
1. اعتماد العقل أساً لبناء المعرفة اللسانية، والاتكاء على حس المتكلم وكفاءته اللغوية.
2. الاستناد إلى الاستنباط إجراء في الكشف، ليس عن الوقائع اللغوية، ولكن في الكشف عن جملة القوانين التي تنتج هذه الوقائع.
3. إسقاط المدونة لأنها لا يمكن أن تكون تمثيلاً حقيقياً لأداء المتكلم، والتعويض عنها بالنماذج المجردة التي يستند الأداء إليها. والمهم في هذا أيضاً أن الحتميات تسقط مع إسقاط المدونة، وتحل محلها الممكنات.
4. إعادة إدماج المتكلم والدلالة في الحقل اللساني.
ولقد امتدت نتيجة لذلك الجسور بين اللسانيات وعلم النفس، من جهة، وبين اللسانيات وعلم الاجتماع، من جهة أخرى.
وهناك نقاط يمكن أن تضاف إلى هذه. وإنها لتعد كذلك نقاطاً فارقة بين المنهجين، غير أنّا نكتفي بهذا المقدار.
2. اللغة والعقلانية:
لقد انتقلت اللسانيات، إذن، من إطار منهجي كانت تدور فيه في فلك التجريبية والوصفية، إلى إطار منهجي آخر صارت فيه ممثلة للعقلانية في دراسة اللغة الإنسانية.
وإنفاذاً لهذه النقلة، فقد انطلق اللسانيون العقلانيون (مدرسة تشومسكي) من فرضية تقول: إن السلوك الإنساني، عندما يكون كلاماً، فإنه ينضوي على مبدأ عقلي يرتكز على معرفة بالقواعد مضمرة، وبالأصول محتجبة، وبالضوابط مستترة يقوم عليها الكلام.
وإذا صحت هذه الفرضية، فإن النظرية التي يجب أن تعتنقها اللسانيات تشتمل على ثلاثة مبادئ:
– الأول، وتقرر فيه أن العقل هو المصدر الوحيد لمعارفنا عموماً، ولمعارفنا اللسانية خصوصاً.
– الثاني، وتقرر فيه أن اللغة تعد، من منظور العقلانية، تنظيماً عقلياً. فإذا كان الفكر اختياراً حراً للإنسان، فإن اللغة تساهم في تكوينه، فتجعله ممكن الوجود وتمنحه فرصة التعبير عن نفسه بوصفه فكراً، وبوصفه اختياراً حراً للإنسان.
– الثالث، وتقرر فيه أن اللغة ترتبط بالفعل الفيزيائي، ولكنها تتجاوزه. وما كان ذلك كذلك إلا لأنها، في أسباب حصولها، عمل عقلي يوجه هذا الفعل الفيزيائي ويعلو عليه.
   ولقد نرى أن هذا الأمر هو ما يميز العقلانيين في اللسانيات التوليدية من السلوكيين، مثلاً، في لسانيات بلومفيلد البنيوية. ذلك لأنهم يميزون بين العمل العقلي والعمل الفيزيائي. فالإنسان عندهم لا يتعلم اللغة بالتجربة كما يتعلم الحيوان في المخبر إذ يتدرب على تعود سلوك معين. فاللغة ليست مجموعة عادات.

    وهو عندهم أيضاً “لا يتعلمها عن طريق الحافز أو المثير، فاللغة تكتسب اكتساباً من غير أن يبذل الإنسان في اكتسابها أي جهد، ومن غير أن يخضع في اكتسابها إلى أي منعكس شرطي. فهناك في العقل، على نحو ما أشرنا، رشيمات معرفية، أو هناك عند الإنسان استعدادات فطرية لاكتساب اللغة وجدت مع وجوده منذ وجود الإنسانية الأولى.وما دام الإنسان يوجد في مجتمع، فلا يستطيع فيه إلا أن يكون متكلماً” .

    ومن هنا، فإن العقلانيين في اللسانيات التوليدية يتميزون من السلوكيين في لسانيات بلومفيلد البنيوية، “ويفرقون بين العمل الفيزيائي والعمل العقلي”

     وثمة ملاحظة أخرى يجب أن ندركها. إن العقلانيين يرون أن الإنسان يستطيع أن يواصل تعليمه بمفرده […]، ولكن الحيوان، في المقابل، يظل عاجزاً عن مثل هذا، وغير قادر على أدائه أو الانتقال بنفسه إلى مثل هذا المستوى الذي يتطلب شيئاً غير الخبرة العملية ألا وهو التفكير.

     فهو يخطو به من التجسيد إلى التجريد، ومن آلية التكرار في تعود عادة إلى عقلنة العادة وإدخالها في المزاولة النظرية وممارسة الفرضيات واكتشاف طرق تؤدي إلى التعلم بجهد أقل” .
    يبقى أن نقول: “لقد كان من النتائج التي توصلت إليها اللسانيات باستخدام العقلانية منهجاً أن وقفت على ما أسمته “الكليات اللغوية”، أو عالمية السمات اللغوية”.

    وبهذا فقد وجدت وجوهاً متقاربة بين لغات متباعدة. وكانت هذه الوجوه في مكونات اللغة الثلاثة: الصوت، والنحو، والدلالة.
3. العقلانية والنظرية اللسانية:
عندما أحلّت العقلانية العقل محل التجربة، فقد انتقلت بذلك من العمل بالشيء إلى العمل بمتصوره، ومن المدونة إلى النماذج القاعدية التي تنتج ما فيها.

    ألا وإن كل اشتغال بالمعرفة يتخذ من المتصورات أو من المفاهيم أسّاً لاشتغاله، إلا وهو يحتاج إلى نظرية تنظم وقوفه على الظواهر، وتنظم وصفه لها، كما تنظم وضعه الفرضيات بشأنها.

     وإلا يكن ذلك، فإنه لن يقوى على التعميم، كما لن يقوى على إنشاء النماذج، أي لن يقوى على بناء النظرية.
     وإذا كان الأمر كذلك، فلنا أن نتساءل ما هي النظرية؟ وما هي مكوناتها؟وما موقعها؟ ومن أين تنطلق؟ ولقد نعتقد أن أسئلة كهذه، تستدعيها النظرية وتثيرها من حولها، لهي أسئلة عقلانية أيضاً:
•- يرى فولكييه أن النظرية “تمثيل عقلاني”.
وإننا لنعلم أن كل تمثيل عقلاني إنما هو تجريد لا تجسيد، أو هو انتقال من الأشياء إلى متصوراتها.
•- ويرى فولكييه أيضاً أن النظرية “بناء عقلي يرتبط بوساطة عدد من القوانين التي يمكن أن تستنتج منه مباشرة”. ولقد يُستدل من هذا أن النظرية بناء، وأن قوانين هذا البناء ليست خارجة عنه.
•- ويرى فولكييه، كذلك، أن النظرية “تقف وسطاً بين الفرضية والنسق” .
     وإذا سألنا لم تقف النظرية بين الفرضية والنسق، فيمكن أن نجيب إن الأمر يكون كذلك لسببين: الأول يتعلق بالفرضية، والثاني يتعلق بالنسق.

– أما السبب الأول، فلأن الفرضية “اقتراح ومعطى أولي، مقبول مؤقتاً لكي يستخدم قاعدة للاستدلال، والبرهان، والتفسير. ويُبَرَّر هذا الاقتراح أو هذا المعطى باستخلاص النتائج وبالتجربة” .
– وأما السبب الثاني، فلأن النسق يمثل “مجموعة من الأفكار أو المبادئ المترابطة على نحو تشكل فيه كلاً علمياً أو نظرياً، ولأنه يعد أيضاً “توليفة من عناصر تنتمي إلى النوع نفسه. وإنها لتجتمع كي تشكل جمعاً حول مركز” .
    ولقد نفهم من هذين السببين أن النظرية تظل، في جانب منها، اقتراحاً ومعطى أولياً يُستخدم للاستدلال والبرهان والتفسير إلى أن تثبتها النتائج أو تنفيها، كما نفهم من هذا أيضاً أن النظرية نسق، وأنها تكون كذلك لأنها تولف بين أفكار أو مبادئ أو عناصر، تجعلها تظهر وكأنها كل متماسك يضمه مركز واحد. وبهذا يتضح لماذا جعل فولكييه النظرية تقف وسطاً بين الفرضية والنسق. 

• وأخيراً، إذا كانت النظرية “تمثيلاً عقلانياً”، فإن اللسانيات إذا أرادت أن تكون نظرية في اللغة، فإنها يجب أن تنطلق من وقائع معينة تتمثل في بعض المعطيات اللغوية، فتصفها وتضع حولها الفرضيات، بحثاً عن النظام واستنباطاً للنسق الذي يجمع عناصرها في كل واحد.
     إن اللسانيات عندما تمارس هذا الضرب من الاشتغال العقلاني، فتنتقل من الوقائع اللغوية إلى القوانين المنتجة لهذه الوقائع، تؤسس لنفسها بناء ً عقلياً يسمى النظرية. وتوضيحاً لهذا الأمر نقول إن الطريق الموصل إلى النظرية هو هدف ينشده كل تنظير عقلاني في كل ميدان من ميادين العلم. ولقد يتحدد هذا الهدف في العمل اللغوي عن طريق جمع بسيط ومؤقت للمادة اللغوية، وذلك خلافاً للنظر التجريبي الذي يُغرقه الاستقراء في جمع المادة مدونة، فتبويباً. ويفضي الوقوف، البسيط والمؤقت على المادة اللغوية، بالنظرية اللسانية إلى إنشاء نسق عناصره ليست المعطيات اللغوية، ولكن القواعد المستنبطة منها، والتي تُخصَّص لكي تكون جهازاً عقلانياً به تُفسِّر النظرية اللسانية كفاءة المتكلمين وتمكنهم اللساني. ولذا يقال إن النسق يعد سليماً وقابلاً للاستعمال إذا كان يفسح المجال بيسر أمام النظرية للكشف عن الكفاءة اللسانية التي يحملها كل من يتكلم بلغته الأم. وإلا يكن ذلك وتعثرت النظرية في إنجاز هذه المهمة، فثمة عطل – والصعوبة في استعمال النسق تعد عطلاً أيضاً – يستدعي إعادة النظر في وصف الوقائع والفرضيات التي وضعت حولها بغية استنباطه واستخدامه أداة للكشف عن الكفاءة اللسانية.
    ولعلنا نستطيع، في نهاية هذا المطاف، أن نقول إن من أهداف النظرية أن تجعل الكفاءة، بتوسط القواعد المستنبطة من الوقائع والنسق الجامع لها في كل واحد، أمراً صورياً ونموذجاً عقلانياً.

    وإن هذا ليدل أن اللسانيات لكي تكون نظرية عقلانية، يجب عليها أن لا تتوقف في وجودها منهجاً على وجود التجربة، وأن لا ترتهن في وجودها نظرية بالتجريبية وجوداً. ومن هنا، فقد كانت العقلانية تسعى، بعقلانية منهجها، إلى تجاوز الشيء في تعيناته بغية إنشائه في تصوراته، كما هي تسعى في اللسانيات إلى الانتقال من الكلام أداء كما هو قائم في الأعيان، إلى الكلام بنى، وأنساقاً، ونماذج كما يمكن أن تقوم في الأذهان.
     والسؤال الأخير الذي يمكن طرحه لكي اختتم به قراءتي ، هو : من يضع النظرية، أ هو منهجها، أم هو مذهبها، أم هي المادة التي تعالجها؟
أعتقد أن هذا الضرب من الأسئلة سيظل قائماً على رأس كل نظرية في كل عصر، فيجددها أو يعمل على تغييرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى