فبذلك فليفرحوا (٣)

رضا راشد | الأزهر الشريف

لامعقولية الفرح

ما إن تغرب شمس اليوم الأخير من رمضان أو شمس يوم عرفة مؤذنا غروبها بقدوم ليلة عيد الأضحى حتى تعمَّ الأفراحُ القلوبَ؛ فتنتشر التهانى، وتُتَبَادَلُ الزياراتُ، ويؤوب الغائب من سفره وافدا على أهله؛ إذ لا تكتمل فرحته إلا بينهم، فتفتح البيوت أبوابها متهللة لمن يفد إليها، وكأنها تمتد إليهم بذراعيها محتضنة لهم، وتقام الموائد العامرة بالطعام.. وغير ذلك من مظاهر الفرحة التى تلج القلوب وتسكن الأفئدة .
ولكن قوما أحاطت بهم البلايا وأطبقت عليهم الهموم من كل جانب، فحالت بينهم وبين الفرحة بحجاب مستور.. فأنى لهم أن يفرحوا؟ ومن أين أن يسروا؟

كيف لطفل ماتت أمه صغيرا أن يفرح؟ بل من أين له أن يفرح وقد فقد نبع الحنان؟
وأنى لأم ثكلت ابنها – صغيرا أو كبيرا – أن يلج الفرح قلبها؟ وكيف.. وأبواب قلبها مغلقة دون الفرح بمغاليق من حديد؟!
كيف لمن تشتتت أسرته وتمزقت عشيرته بددا أن يفرح؟ كيف لمن سكن الخوف قلبه مع رعود الطائرات والبراميل المتفجرة والمدافع الهادرة،وبروق الصواريخ ورجرجرة القذائف أن يجد سبيلا لأمن، بله أن يجد منفذا لفرح؟! وهل …؟ !وهل…؟ !وهل…؟! أفليس حزن هؤلاء مما يخل بفرحة العيد؟

هكذا وجدت سيلا من الأسئلة تتقاذف على قلبي كالسيل المنهمر …زاد منها ما أراه من حال أمتى في أماكن كثيرة مبتلاة كسوريا، والعراق، والسودان وليبيا، ومالي وبورما.. وغيرها.. وكان السؤال الحائر :
هل يفرح هؤلاء؟
وكيف يفرحون وقد انقطعت عنهم سبل الفرح؟

وظللت أسيرَ الحيرة.. حتى تذكرت يوما جرى فيه الحديث بينى وبين أخى وتوأمى في سوريا عبد الله راتب النفاخ عقب عيد من الأعياد فسألته: هل يفرح الناس عندكم؟وكيف؟
فكان الإجابة التى لم أتوقعها يوما :
[لقد أصر الجميع على أن يفرحوا، وأن يتناسوا أحزانهم ولو مؤقتا مهما كانت الأسباب والظروف] .
فما كان السؤال بأشد تحييرا لى من الإجابة: كيف …كيف …؟
هل يمكن للقلوب أن تصبح حجرا لا يحس؟!
وهل…؟ وهل….؟

حتى كان الفرج فتحا من الله وعتابا في الآن نفسه: (وكأنه نداء من العزيز الجليل للعبد الفقير) :
(°) ماذا دهاك أيها العبد النسيُّ الضعيف؟
(°) هل تمادى بك الوهم حتى ينحصر تفكيرك في الأسباب ومسبباتها؟
(*) أوَقد ظننت أن الكون لا يسير إلا بقانون السببية وحده ؟
(°) أفليس للكون خالق هو فوق الأسباب ؟فيستطيع بقدرته أن يعطل الأسباب فتكون، ولا تكون مسبباتها؟ أوْيوجد بقدرته الشيء من غير سبب فتكون المسببات ولا أسباب ؟
(°)لماذا تنظر للكون بعيون قدرتك المحدودة ونظرتك الضيقة ، فتسبغ على الأشياء عجزك وجهلك وفقرك ؟
(°) أنسيت أن قدرة الله لا تحدها حدود؟ وأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء؟ وإذن، فهو قادر سبحانه على أن يخلق في القلوب فرحا بلا سبب ،كما بوجد في القلوب حزنا -أحيانا – بلا سبب، فترى الواحد فينا أحيانا ما يعتريه حزن خانق ،فيبحث عن السبب فيعييه أن يقع عليه؟
(°) أفيعيي الذي خلق آدم بلا أب ولا أم، وخلق حواء بلا أم، وخلق عيسى عليه السلام بلا أب -أن يخلق في القلوب فرحا بلا سبب ؟
(°) وهل يعجز من عطل الإحراق في النار فكانت بردا وسلاما على إبراهيم عليه السلام – عن أن يعطل في أسباب الحزن ما تفضي إليه من الهم والكرب، فتكون كأن لم تكن: فيعيش اليتيم في الدنيا وكأنه بين أحضان أبويه، وتفرح الثكلى وكأن ابنها الذي ثكلته بين يديها يمرح ويلعب؟
(°) وهل يعدو الأمر في مثل هذه الأجواء الحزينة التى تعيشهما أمتنا – عن أسباب حزن عطلت عن الإفضاء لمسبباتها ،فلم يكن حزن، وعن فرح وجد بلا سبب فكان السرور؟
(°) لماذا آمنت أيها العبد بأن الله رزق زكريا بيحيى وقد بلغ من الكبر عتيا وكانت امرأته عاقرا ..ثم تستبعد – أنت نفسك أيها العبد- أن يفرح الله قلوب عباده من المبتلَيْنَ برهة من الزمن؟ أليس هذا من هذا؟أوَليس كل ذلك خارجا من مشكاة القدرة المطلقة؟
فلمَ العجب أيها العبد؟ومم الحيرة ؟.
من هنا أدركت منبع فرحة إخواننا السوريين، مع أن بينهم وبين أساب الفرح بعد ما بين المشرقين
°°°
وهكذا توالت فيوضات الأفكار.. حتى وجدتنى – فجأة – أثوب إلى رشدى، وأفيء إلى عقلى ناطقا بأعلى صوتى:
سبحانك اللهم
سبحانك اللهم
عفوك ورضاك يااارب ..
ما قدرناك حق قدرك.. وما عرفناك حق معرفتك.. وما عبدناك حق عبادتك..وما ذكرناك حق ذكرك، وما أيقنا بك حق اليقين .
وإلا …
ما استبعدنا أن تفرح قلوب عبادك البائسين.
وإنه لمن جهلنا أُتِينَا ومن حمقنا غُزِينا..
فعفوك اللهم ومغفرتك ورضوانك
°°°
هذا هو شرع ربنا..يجعل من الفرح شعيرة يتعبد لله بها؛ ثم لا يكل أمرها إلى كل فرد ليفرح بأسلوبه، ويحتفي بطريقته بعيدا عن الأمة، بل يجعل للفرح أسبابه المنطقية وشعاره الجماعي، حتى إذا ما حالت الهموم والأحزان دون أن تؤتي أسباب الفرح أكلها في قلوب المسلمين تجلت قدرة الله، فعطلت أسباب الحزن في هذا القلوب عن أن تعمل عملها؛ كما عطلت هذه القدرة الإحراق في النار على إبراهيم، وكما منعت البحر من إغراق موسى رضيعا وموسى وقومه نبيا كبيرا، ثم رزقت هذه القلوبَ الحزينةَ والأفئدةَ المترعةَ بالهم – فرحا بلا أسباب كما أنزل المائدة على عيسى عليه السلام،وكما رزقت زكريا بيحيى.
هذا هو شرع الله؟
وذكم حكم الله.. ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى