قراءة في قصائد الشاعر العراقي ستار زهيري

د. ريم سليمان الخش | فرنسا

   قسوة الغربة وصرخات الوحدة والتوحد مع الشوق المتقد والشاهد على وطن بعيد يسكن بين الأضلاع وأهل أحبة مازالوا يعيشون بأخيلتهم مع الشاعر وفي حشاشة القلب وقد عزّ اللقاء بهم.

    كل ذلك يصرخ دامغا قصائد الشيخ ستار الزهيري بدمغة الحنين ولواعج الشوق التي تكاد لا تفارق قصائده.
   في سجن الغربة الكبير الذي أحكم قضبانه وتركه وحيدا مناجيا متعللا بهوى الأحبة والاحتياج الجم لهم جميعا يقول شاعرنا في رائيته المعنونة بـ ( يانائح الأيك):
يا نائحَ الأَيكِ هلّا زُرتَ مَمْلكَتي
أطيارها تَستَقي الأَشجانَ من نَهري
°°°
وفي حَدائِقِها سَبعونَ ناعيةً
يَندبْنَ راحلةً يَشقى بها سِرّي
°°°
واللَّيلُ سَرمَدُ والأَحزانُ باقيَةٌ
لا تَقبَلُ الهَجرَ حتى مَطلَعِ الفَجرِ
    هنا لايسعني إلا أن اتذكر ماقاله الرسول صلوات الله عليه حيمنا عاد من الجهاد (عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ألا هو جهاد النفس).
   هذا الجهاد يبدو جليا في قصائد شاعرنا فشاعرنا لا يخرج عن هيمنة الأنا العليا عليه أبدا ولو شاقته نفسه الأمارة برغبات جامحة للقيا والوصال.
   إنّ به نفسا عاشقة للجمال سابحة في ربوعه ولكنها ورعة تقف عند البرزخ ولا تجتازه نحو الضفة الأخرى حيث الإنغماس الحسي بالشهوات واللذائذ.
   وهذا مايجعلها دائمة الشكوى صارخة الحنين وممتنعة في آن واحد، هي من الأنفس التي إن أحرقت في النيران تخرج منها سالمة معافاة وهذا هو الفوز العظيم، يقول شاعرنا في هذا الصدد:
نحن في باب الحياء عروة

وعرى الأخلاق تأتينا ابتدارا
وعرفنا الموت سرا أعظما

وشربنا منه أنخابا عذارى
    هنا تتجلى العفة بأجمل معانيها وهذه أبيات جميلة جدا نقف أمامها احتراما وتكبيرا. ويتابع شاعرنا تشكيه من الغربة وضعفه إزاء صروف الدهر فيقول في فائيته المعنونة ب ( سكناي طيف):
فَإِنْ بَكَيْت تحِطُّ أَلْفُ فاخِتَةٍ
وَإِنْ سَكَتُّ سَيَفْرِي قَلبي الشَّغَفُ
فَلَا الشَّجى نَاصِفِي يَوْمًا فَأَحمَدُهُ
وَلَا أَنَا مِنْ جُيُوشِ الحُزْنِ مُنْتَصِفُ
سُكنايَ أُولَدُ حينَ اللَّيلُ يَحمِلُني
كلؤلؤٍ ضَمَّهُ المَحّارُ والصَّدَفُ
وأَستَفيقُ جِراحا تَلْتَقي أُفُقاً
لِتَسترَيحَ على أَفيائِها السُّرَفُ
    هذه النفس الشاعرة التقية ثابتة مهما اهتاجت وتقلبت في أطوارها فلو أضحت تارة في عصف عارم يؤججه الشوق أو في اهتياج البحر الذي يحطم كل سفينة مبحرة آمنة، لا تلبث أن تستكين وتهدأ ويعود الموج إلى دورة الحياة ممتدا على شواطئها الذهبية الوادعة، هذا الصراع الدائم بين مايجب فعله وما يهوى، يفجر السفائن تارة ويرسيها على بر الأمان مرات عديدة أخر …إذن ماذا سيقول إذا مالعشق لامسه؟!!، يقول في قافيته المعنونة بـ (ما كنتُ أعلَمُ):
إني أنامُ لَعَلَّ النَّوْمَ يُطفئُني
فَيُصبحُ الشوقُ في الأَضلاعِ مُؤتَلِقا

أُلقي على رَغبَةِ النِّسيانِ أَجنِحَتي
لكن خَياُلكِ ما يَنفَكُ مُعتَنِقا

ماذا أقولُ وما ظَنّي بكِ إمرأةً
وإنما قَمَرٌ لا يَترُكُ الأُفُقا
ماذا أقولُ إذا ما العِشقُ لامَسني
هل عِندكمْ ما يداوي القلبَ لو عَشَقا؟
    هذه حقيقية أبدية ماتزال قائمة حتى قيام الساعة: لا دواء للعشق إنه الداء الذي لا دواء له إلا بالصبر الجميل عسى أن يجد للعشق سلوانا فيناجي حبيبا له في ميميته المعنونة بـ ( يا حبيباً ):
يا حبيباً سَكنَ العينَ ضياً
وتوارى خَلْفَ ضَوءِ الأنْجمِ
قد يَقُلُّ الشَّوقُ منهُ نَفحَةً
هيَ من أحيا طيوفَ الرِّممِ

لا تَقُُل لي أينَ ميقاتُ الهَوى
ثم لا تأتي طقوسَ الحَرَمِ
أنتَ للهَجرِ سَتحيى أبَداًَ
وأنا للوَصلِ مَيْتاً أنتَمي
    شاعرنا ماانفك يتقلب على جمرات الشوق يحترق بها ليله الطويل مستحضرا خيال محبوبه الذي بدا مكابرا معرضا مع أنه الشاغل له والمقض لمضجعه!
   يدعوه أيضا مخاطبا له في حائيته المعنونة بـ(الطوافُ الأخير) وكأن شاعرنا ينذر محبوبه إن لم يرق ويستجب للواعجه أن يكون مصيره الهجران!
أيا جمراً توقّدَ من جراحي
فنامَ الوالهونَ وظلَّ صاحي
   وكأن جراح العشق فارت شواظا حارقا أشبه بالحمم البركانية …حمم من الوله المستعر لا تسمح له البتة أن يغمض عينيه وينام قرير العين مرتاحا !!
فيَلبَسُ من لهيبِ الشَّوقِ ثوباً
وَيُلْقي بالرَّمادِ على صباحي
حنين وعذاب يغطي الصباح

برماده المحترق ليلا !!…
ويَلقى الرِّيحَ باكيةً كثَكلى
لَقَتْ بالليلِ باكيةً رياحي
ويَرمي بالجِمارِ على زَمانٍ
بهِ الأَهواءُ تَعبَثُ بالمِلاحِ

وقد طافَ الشُّعورُ على بلادٍ
طَوافَ اليائسينَ بِمُسْتَباحِ
    هنا يعبر عن فقدانه الأمل من هذا المحبوب المليح العابث وماطوافه به إلا طواف اليائسين بطاغية متجبر لا قلب له ولا رحمة!
    وأختم ببائيته التي كتبها بسجن أبو غريب ببغداد سنة (1991) المعنونة بـ (من وراء السنين) ولعلها من أعذب ماقرأت له!: يقول فيها :
أَيا دارَ الأَحبَّةِ إِنَّ عَشراً
من الهِجرانِ تُوهِنُ بَلْ تُذيبُ
أَجيبي غادةَ الأَحياءِ صَبّاً
تُمَزُّقُهُ اللَّواعِجُ والكروبُ
عَجيبٌ دَهرُنا يا أُمَّ روحي
وأَمّا القلب فالعَجَبُ العَجيبُ
    أما نحن فنقول لاعجب أن يكون لسان شاعرنا فصيحا وحرفه مشرقا قويما وهو عروبي المشرب عراقي الدم أصيل الانتماء العراق الخالد القديم الأصيل، أرض العراق الولادة للشعراء والحكماء، والفوارس الشجعان على مر العصور ستبقى منارة للأجيال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى