يوميات فلسطيني في بلاد العم سام (6)

جميل السلحوت | القدس العربية عاصمة فلسطين

المرّة الأولى لدخول الولايات المتحدة

           المرّة الأولى التي دخلت فيها الولايات المتحدة الأمريكيّة كانت في 16-7 1985، بدعوة من أخي احمد، الذي درس الصيدلة في احدى جامعات هيوستن في ولاية تكساس، سافرت على متن طائرةT.w.A. من مطار تل أبيب مباشرة إلى مطار كنيدي في نيوورك، وهو مطار ضخم جدّا، له عدة مدرّجات، كنت قد سافرت من قبل من مطار ماركا في عمّان ومطار بيروت ومطار القاهرة ومطار نيقوسيا في قبرص ومطار موسكو، لكنّها تبدو مجتمعة أصغر من هذا المطار، بضع طائرات تنزل في وقت واحد، وبضع طائرات أخرى تصعد مغادرة، قبل نزولنا من الطّائرة لاستبدالها بأخرى إلى هيوستن، لفت انتباهي طائرة صاروخيّة تسير في المدرج المجاور بسرعة البرق وضجيج مرعب، وفي مؤخّرتها مظلّة ضخمة لتخفيف سرعتها، إنّها طائرة الكونكورد التي أراها للمرّة الأولى والأخيرة.

ستريب تيز

       في مطار تل أبيب، تم تفتيش أغراضي يدويّا قطعة قطعة، وبدقّة متناهية، بعد فحصها الكترونيا، وخضعت لأسئلة كثيرة، منها:

 لماذا أنت مسافر للولايات المتحدة؟

من رتب لك حقيبتك؟

هل أنت مسؤول عمّا فيها؟

هل تحمل أغراضا لآخرين؟

 وهل تحمل أسلحة؟

ثم اقتادوني إلى غرفة تفتيش شخصيّ خضعت فيه لعملية تعريّة كاملة إلا من سروالي الدّاخليّ، أخذوا حذائي للتّفتيش الألكترونيّ مرّة أخرى…اصطحبني رجل أمن إلى صالة المغادرين…وهذا ما يحصل دائما مع جميع العرب الذين يستقلّون طائرة من هذا المطار.

سُنّي أم شيعي

         عند ختم جوازات السفر، وفحص تأشيرة الدخول في مطار كيب كندي في نيويورك، سألني رجل الأمن: Are you soony or sheeay? فلم أفهم عليه ماذا يريد، فطلب منّي أن أنتظر قليلا، بعد أن سألني عن لغتي الأمّ، اتّصل بالهاتف طالبا أن يرسلوا شخصا يعرف العربيّة، وفي لحظات حضرت فتاة حسناء هيفاء، وسألتني باللغة العربيّة:

هل أنت سُنيّ أم شيعي؟

ولما أجبتها بأنّني سنّي، قالت:

نتمنّى لك اقامة سعيدة في الولايات المتّحدة، وجاء سؤالهم على خلفيّة اختطاف منظمة أمل الشيعيّة اللبنانيّة طائرةT.W.A. في ذلك العام.

في مطار هيوستن

         في مطار هيوستن وجدت أخي أحمد في انتظاري، وهذه هي المرّة الأولى التي نتقابل فيها منذ سفره في صيف العام 1965 إلى البرازيل بعد أن انهى الثانويّة العامّة- التّوجيهي- ليلتحق بأخينا الأكبر محمّد الذي سافر إلى البرازيل في 8-8-1960 تاركا زوجته(حليمة) وابنه البكر كمال المولود في 27-4-1957، وأخونا محمّد مولود في العام 1936، لم تكن الأسرة أو أيّ من أصدقائها يعرفون شيئا عن البرازيل، سوى أنّها(أمريكا) ولم يكونوا على علم بأنّ هناك أمريكا شماليّة وأخرى جنوبيّة، وأن هناك دولا في أمريكا لا دولة واحدة، أو أنّ أمريكا تشكّل قارّة تقسمها قناة بنما إلى نصفين، فقط يعلمون أن أمريكا بلد ثريّ جدّا، وأنّ من يهاجر إليها سيعود بملايين الدّولارات في بضع سنوات، وأخونا محمّد انسان طموح، يحظى بمحبّة خاصّة من أبينا كونه الابن البكر، أو لأسباب أخرى لا أعرفها، سافر إلى بلاد ملايين الدّولارات بالباخرة من ميناء بيروت، في جيبه خمسون دولارا فقط لا غير، فلم يكن الوضع الاقتصاديّ للأسرة يسمح له بأكثر من ذلك، وحتى لو كان الوضع الاقتصاديّ مختلفا لما أعطاه الوالد أكثر من هذا المبلغ، لأنّه مسافر إلى بلد ترابها ذهب! والدّولارات على قارعة الطّريق لمن يريد جمعها، هكذا كانت قناعة كبار العائلة! وأخونا محمّد الذي كان يحبّ الفروسيّة، ويعتني بهندامه ونظافته كثيرا، في وقت كانت المياه فيه شحيحة، كان يهوى التّرحال والسّفر للخارج، ربّما يعود ذلك إلى محاولة هروبه من رعي الأغنام، حيث كان الوالد يمتلك قطيعا كبيرا من الغنم الحلوب، هي المصدر الرّئيس لدخل الأسرة، المكوّنة من الأب وزوجتين، انتهى بها المطاف باثني عشر ابنا ذكرا وتسع بنات اناث، ورعي الغنم وحراثة الأرض وزراعتها لم تكن في حسابات محمّد، الذي سبق وأن سلّم نفسه للجيش ليلتحق بالحرس الوطنيّ في العام 1957، عندما أعلن العاهل الأردنيّ الملك حسين التّعبئة العامّة بعد العدوان الثلاثيّ على مصر في 29 اكتوبر 1956، لا حبّا في الحياة العسكريّة، وإنّما هروب من حياة البؤس والشّقاء، وعندما تمّ تسريحه من الحرس الوطنيّ بعد أقلّ من عامين سافر إلى تبوك في المملكة العربيّة السعوديّة؛ ليعمل في أحد بيوت الأثرياء الفلسطينيّين الذي كان يشغل منصبا رفيعا في شركة أرامكو، ولم يمكث في السعوديّة أكثر من أسبوع، لأنّ ربّ العمل رفضه عندما رآه شابا يافعا وسيما، فهو يريد طفلا؛ ليكون في خدمة ربّة البيت، فأعاده على ظهر شاحنة أردنيّة متّجهة إلى بيروت؛ لتعود به بعد ذلك إلى عمّان، عاد محمّد غاضبا يجرجر ذيول فشل لم يكن له فيه خيار، حاول السّفر بعدها إلى الكويت، لكنّه لم يستطع، ومع ذلك بقي مصرّا على السّفر للعمل في الخارج، كانت أمريكا هي الهدف المأمول في ذهن جيل الوالد، الذي كان معجبا بشخصيّة المرحوم عبد الحميد شومان-1888-1974- ، الذي سافر إلى أمريكا عام 1911 وعاد منها عام 1929 ليؤسّس البنك العربيّ، والسّفر إلى الولايات المتّحدة يحتاج إلى تأشيرة دخول-فيزا- لم يكن الحصول عليها سهلا، فتمّ اقرار السّفر إلى البرازيل، يشجعهم على ذلك سفر اثنين من أبناء الحامولة قبل ذلك بأربع سنوات.

الأخ محمّد في البرازيل

         عندما سافر الأخ محمّد إلى البرازيل – كنت في الحادية عشرة من عمري، أنا المولود في حزيران 1949-، توالت سنوات القحط لأكثر من أربع سنوات، ونفذت المياه من الآبار، كنّا نجلب المياه على ظهور الدّواب- البغال والحمير- من بئر أيّوب في قرية سلوان المجاورة، في قِرَبٍ من جلود الماعز….قبل سفر الأخ محمّد بيوم واحد فقط سقطتُ عن ظهر البغل، وكسرت يدي اليسرى من المرفق-الكوع- علقوها بمنديل في رقبتي، بعد تعنيف قاس، لأنّني خرقت التّعليمات بعدم امتطاء البغل، واكتفوا بـ(فحص) جارتنا العجوز المرحومة صبحة العبد، وهي امرأة فاضلة، فأكدّت أنّ يدي سليمة من الكسور، ومصابة برضوض بسيطة تسببت بالورم والانتفاخ، وأنّها ستشفى باذن الله، بدلالة أن جارتنا العجوز كانت تتثاءب وهي تدلك يدي بيديها برفق وحنان أموميّ! والتثاؤب يعني طرد العيون الحاسدة والشّريرة! وبقيت يدي معلقة في رقبتي لبضعة شهور، حتى خفّت آلامها واستطعت تحريكها ببطء، لكنّ العظم الصغير الذي يغطي عظم السّاعد عند المرفق بقي بارزا حتى أيامنا هذه.

           حضر الأقارب والأصدقاء لتوديع أخي محمّد، كنت منزويّا تحت سرير معدنيّ، تعلوه الفرشات والبسط الصوفيّة، ويدي المكسورة ممدودة بجانبي، لا أستطيع تحريكها… أبكي بصمت مرغما، أبكي من الألم، وخوفا من الوالد الذي غضب غضبا شديدا، عندما رأى يدي، لم يتعاطف معي أحد، أو بالأحرى لم أسمع كلمة عطف، كلّ ما سمعته هو(لا ردّه الله…ولد غضيب) والنّساء المودّعات يملأن الغرفة، في حين يجلس المودّعون الرّجال على البرندة المكشوفة، ودّعني محمّد بأن قبّلني بهدوء، بكى وبكى معه جميع الحضور، وبكيت أنا أيضا….فهذا أوّل المسافرين إلى بلاد الغربة من أبناء العائلة، والسّفر إلى بلاد أخرى كان غريبا ومستهجنا في البلدة بشكل عامّ، بضعة أشخاص فقط سافروا للدّراسة في جامعات بعض الدول العربية، وكانوا يعودون في نهاية كلّ عام دراسيّ، أمّا السّفر إلى بلاد أجنبيّة فهذا أمر غريب ومستهجن، السّفر بالطّائرة كان يثير الرّعب في قلوب أناس كانت الدّواب هي وسيلة النّقل الوحيدة التي يستعملونها، أمّا السّفر في السّفن فهو أمر مرعب حقّا! فكبار السّن يجتمعون ويتحدّثون في الموضوع، منهم المرحوم عمّي محمّد الذي كان يملك خيالا خصبا وقدرة عجيبة على حفظ ما يسمعه، كان يحفظ السّيرة الهلاليّة، وسيرة عنترة عن ظاهر قلب، بعدما سمعهما في شبابه من حكواتيّ في مقهى زعترة في باب العمود في القدس القديمة، يحكيهما لنا بطريقة تمثيليّة…صوته هادئ ناعم ذو ايحاء في المواقف العاديّة والمفرحة، يعلو ويصخب في الانتصارات، ويحزن ويبكي في المواقف الصّعبة، كان معجبا بشخصيّة أبي زيد الهلاليّ وبشخصية عنترة، تحدّث عمّي عمّا كان يسمعه عن حيتان ضخمة جدّا تعيش في البحار، تستطيع ابتلاع السّفن! لكنّه طمأن الجميع بأن محمّد سيصل إلى البرازيل سالما معافى، ولن تستطيع الحيتان ابتلاع السّفينة التي تقله، لأنّ السّفن في البحار محميّة بمناشير ضخمة مثبتّة في أسفلها، وما أن ينقض الحوت الضّخم عليها بقوّة هائلة ليبتلعها، حتّى تشقه إلى نصفين، وتأتي الأسماك الأخرى لتفترسه، وينزل بعض السبّاحين من السّفينة؛ ليحملوا أجزاء منه طعاما للمسافرين على ظهر السّفينة، فنقطة ضعف هذا الحوت العملاق هي في قوّته الهائلة، ولو أنّه كان يتقدم إلى السّفن بهدوء لاستطاع ابتلاعها من مقدمتها أو مؤخّرتها، فيتغذى على مَنْ فيها من بشر ثم يلفظها كومة من حديد في قاع البحر، لأنّها اعتدت على مملكته البحريّة، ولمّا سألته عما ستفعله المناشير في بطنه بعد أن يبتلعها قال لي:

أنت كثير غلبه يا ولد….عندما يبلعها تصطدم المناشير بأسنانه الحادّة، فتتكسّر مثلما تقصف عود تينٍ يابس…تتفتّت وتغرق في البحر…استمعنا إلى القدرات العجيبة للحيتان ونحن نرتجف خوفا..ونحمد الله أنّنا نعيش على اليابسة بعيدا عن حياة البحار المرعبة! وعندما سأله أحدهم عمّن سيتغلب الضّبع أم الحوت اذا ما التقيا؟ أجاب العمّ محمّد بثقة تامّة:

“كيف بدهم يلتقوا يا فصيح وهذا في البرّ وهذاك في البحر؟” فضحك الجميع.

      أضاف العمّ بأنّه سمع من أحد معارفه من أبناء قرية بيت حنينا الذي سافر إلى أمريكا بالباخرة، أنّه شاهد في عرض البحر سمكا يقفز في الهواء ثم يعود إلى البحر، حجمه أكبر من حجم كبش الغنم….فسبّح الحضور بقدرة الخالق. وأضاف العمّ محمّد بأنّ البحر كبير جدا، وحجمه يزيد على مساحة مدينة القدس كاملة!

          أخي محمّد درس حتى الصّف الخامس الابتدائيّ في كلّيّة النّهضة في حيّ البقعة، الذي يشكل امتداد جبل المكبر إلى الجهة الغربيّة، وقد وقع الحيّ تحت سيطرة اسرائيل عام 1948 عام النّكبة، وهو يعرف بضع كلمات انجليزيّة تعلّمها في المدرسة، كانت موضع فخر لأبي الذي يرى أن ابنه “معه لسان انجليزي” لكنّ التّساؤل كان حول اللغة التي يتكلمها شعب البرازيل؟ وهل يوجد في العالم غير اللغتين العربيّة والانجليزيّة؟ فأكّد لهم عمّي محمّد أنّه توجد لغة أخرى للسّود! فقد كان السّنغاليون الذين يخدمون في جيش الانتداب البريطانيّ يتكلّمون لغة غير الانجليزيّة.

       ما علينا سافر الأخ محمّد إلى البرازيل، والرّسالة الأولى التي وصلت منه كانت بعد ثلاثة شهور، كانت مقدمتها تبدأ بـ”سلام سليم أرقّ من النّسيم، يغدو وتروح من فؤاد مجروح، إلى منية القلب وعزيز الرّوح والدي العزيز حفظه الله” ويختتمها بـ” وان جاز حسن سؤالكم عنّا فأنا بخير والحمد لله، ولا ينقصني سوى مشاهدتكم، والتّحدث إليكم، وسلامي إلى كلّ من يسأل عنّي بطرفكم.”

    رسالته الأولى كانت أكثر من ثلاثين صفحة، شرح فيها بالتّفصيل المملّ منذ خروجه بسيّارة تاكسي إلى بيروت حتى وصوله إلى البرازيل، كتب أنّه يعمل بائع حقيبة متجوّل، وأنّ البرازيل بلد ثريّ وخصب، لكنّ عملة هذه البلاد “الكروزيرو” رخيصة عند تحويلها إلى الدّولار. الرّسالة قُرئت عشرات المرّات وسط دموع الشّوق والحزن على الفراق، وعمّي المرحوم موسى ألزمني بقراءتها له عشرات المرّات، بحيث استطيع أن أزعم بأنّني لا أزال أحفظها عن ظاهر قلب حتى أيامنا هذه- بعد خمسة وخمسين عاما-، ويبدو أنّ عمّي موسى –رحمه الله- كان يريد معرفة الأحوال في البرازيل كي يرسل ابنه المرحوم اسماعيل إليها، وهذا ما حصل، فقد سافر اسماعيل إلى البرازيل في بداية كانون الثّاني-يناير 1961، تاركا خلفه ابنه محمّد وابنته محمّديّة طفلين أكبرهما في الرّابعة من عمره، وافتتح محمّد واسماعيل محلّيّ نوفوتيه بعد عامين من سفرهما.

      عندما سافر الأخ أحمد إلى البرازيل في صيف 1965، عمل مع الأخ محمّد الذي افتتح له محلّا آخر، لم يرغب محمّد واسماعيل البقاء في البرازيل، خطّطا للعودة إلى البلاد في صيف العام 1967، لكنّ حرب حزيران 1967 وما تمخّضت عنه من احتلال حال دون ذلك، عاد ابن العمّ اسماعيل في صيف العام 1970 ضمن نطاق ما يسمى قانون جمع شمل العائلات، وبقي في البلدة إلى أن توفّاه الله في ربيع العام 2008، أمّا الأخ محمّد فقد عاد في صيف العام 1972 على أمل السّفر إلى الولايات المتّحدة، وقد تحقّق له ذلك في اكتوبر 1977، أمّا الأخ أحمد فقد سافر من البرازيل إلى هيوستن في ولاية تكساس الأمريكيّة عام 1970، بعد أن حصل له ابن العمّ محمّد موسى شقيق اسماعيل على قبول في جامعة هيوستن.

في هيوستن

           ما علينا …وصلت بيت أخي أحمد في هيوستن، وهو بيت أمريكيّ”كوتيج”يعيش فيه مع زوجته  الامريكيّة “بيتي” وابنتاهما نادية وستيفاني، وقد طلّقها احمد بداية تسعينات القرن العشرين وتزوّج من فتاة مقدسيّة.  كان أحمد يعمل صيدلانيّا في أحد مستشفيات هيوستن، يغادر البيت في السّابعة صباحا، ويعود إليه في الخامسة مساء، عطلته الأسبوعيّة يوم الأحد…سهرنا سويّة…سألني عن أفراد العائلة، وعن الأشخاص الذين ولدوا بعده، وركّز في أسئلته على شقيقي داود الذي كان في الثّانية والنّصف من عمره عندما سافر أخي أحمد، وكان أحمد يحبّه بشكل لافت.

      في صباح اليوم التّالي لوصولي هيوستن، استيقظت مبكرا…اتّجهت إلى المطبخ لاعداد كأس شاي، وأحمد وزوجته نيام، في حدود السّادسة والنّصف رنّ جرس الهاتف، فصاح احمد من غرفة نوم :

هذا ابن عمّك محمّد موسى..ردّ عليه.

وعندما قلت: هالو

قال: عفوا مين يتكلم؟

قلت: جميل

قال: متى وصلت؟

قلت: مساء الليلة الماضية.

نفخ غاضبا وقال: الله يسامح أخوك احمد…لم يخبرني…انتظرني أنا قادم إليك، وأغلق الهاتف.

  وصل بعد أقلّ من ربع ساعة، كان عاتبا جدّا على أخي احمد لأنّه لم يخبره بقدومي؛ كي يشارك في استقبالي، اصطحبني معه ومضى أحمد إلى عمله في المستشفى.

           محمّد ابن عمّي كان في حينه يملك محلّ صرافة، ويعمل في العقارات، يشتري بيوتا ويقوم بترميمها…ثم يبيعها..وهكذا، ذهب بي إلى محلّ الصّرافة، حيث تعمل فيه حسناء سوداء البشرة، طاف بي في هيوستن، تجوّلنا في مركز المدينة حيث ناطحات السّحاب، والجسور ذات الطّوابق المتعدّدة. كنت وابن عمّي متحفّظين في الكلام أمام بعضنا البعض، فقد افترقنا وأنا طفل في الثّانية عشرة من عمري، فهو مولود في العام 1942، وسافر إلى السّعودية في صيف 1962 وفي العام 1967 إلى أمريكا، التقيته بعدها مرّة واحدة عندما عاد إلى البلاد في آب – أغسطس- 1974 لأسبوع عندما توفّي والده المرحوم عمّي موسى، التقينا ضمن لقاءات أسريّة شاملة، لم تكن كافية لتعارفنا، سألني عن كلّ فرد في الأسرة، وعن بعض أبناء جيله من أبناء البلدة، شرح لي عن المناطق التي كنّا نمرّ فيها، عند الظّهيرة اصطحبني إلى مطعم أسماك فاخر، تناولنا فيه طعام الغداء، وهو يشرح لي كيف عمل نادلا في هذا المطعم عندما كان طالبا في الجامعة، قال لي:

 أنا مدين لهذا المطعم بتعليمي، ففيه عملت، ومن أجرتي فيه دفعت الأقساط الجامعيّة، وأرسلت نقودا للوالدين في البلاد.

        في المساء عدنا إلى بيته حيث التقينا زوجته الأمريكيّة جويس، وطفلته” أمندا” التي ما أن رأتني حتى تقدّمت منّي واحتضنتني بفرحة بالغة، عندما قدّمني والدها لها قائلا:

ابن عمّي جميل….سألتني عن جدّتها لأبيها صبحة.

        في المساء عاد أخي أحمد من عمله…اتّصل به ابن العمّ محمّد، طلب منه أن يحضر  بصحبة زوجته وابنته لتناول طعام العشاء معنا…تناولنا العشاء وعدنا إلى بيت الأخ أحمد…هناك اتّصل الأخ محمّد من بورتوريكو، وأقنع أحمد بأن يسمح لي بالسّفر إليه، بعد جدال طلب من أحمد أن نسافر كلانا إلى بورتوريكو ولو لبضعة أيّام، فاشترى أحمد تذكرتين لنا لمدّة يومين ابتداء من نهاية الأسبوع، أمضيت بقيّة الأسبوع بصحبة ابن عمّي نهارا وبصحبة أخي ليلا، وفي أحد الأيّام اصطحبتني زوجة أخي أحمد إلى حديقة حيوان هيوستن، وهي حديقة واسعة، الحيوانات تعيش فيها في بيئة تشبه بيئة حياتها في البراري حيث مواطنها الأصليّة، وهناك رأيت أفعى الكوبرا للمرّة الأولى، كانت موجودة في غرفة زجاجيّة، ترفع رأسها وجزأها الأماميّ، تهاجم من يقترب من زجاج غرفتها، وهناك رأيت أفعى “الأناكوندا” التي تعيش في نهر الأمازون، طولها أكثر من أربعة أمتار، كانت تلتفّ على نفسها في بيتها الذي يشبه الكهف، وواجهته المقابلة للزّائرين من زجاج مقوّى.

في بورتوريكو

        لم يخبر أخي أحمد أخانا محمّد عن تاريخ وموعد وصولنا إلى مطار سان خوان عاصمة ولاية بورتوريكو، وصلنا المطار عصرا، استقلينا سيّارة إلى فندق روكفلر، وهو فندق كبير مكوّن من عدّة بيوت تراثيّة، كان يستقبل فيه روكفلر الجدّ ضيوفه، وأصحابه، يركبون الخيل ويقضون اجازاتهم، ويقع علي شاطئ الأطلسيّ، من غرفة الفندق اتّصل احمد بأخينا محمّد الذي يعمل ويقيم في مدينة أوروكوفيس، والتي تبعد حوالي ساعة سياقة، فجاءنا عاتبا لعدم اخباره بقدومنا كي يستقبلنا، ولسكننا في فندق بدل بيته، لكنّ أخي أحمد بقي مصرّا على بقائنا في الفندق حتّى صباح اليوم التّالي، والشّوارع في ساحات الفندق ملأى بشجر جوز الهند، وعلى الرّصيف “خوازيق” نحاسيّة لمن يريد أن يثقب ثمرة جوز الهند ويشرب سائلها.

        قبل وصول الأخ محمّد إلينا ذهبنا إلى مطعم الفندق في البناية الرّئيسة لتناول طعام العشاء، فوجدنا عند بوابة المطعم حارسا ضخما أسود البشرة، لا يجيد الانجليزيّة كغالبيّة سكّان بورتوريكو الذين ينحدرون من أصول اسبانيّة، ومعرفتهم للانجليزيّة في غالبيتهم كمعرفة من أنهى المرحلة الاعداديّة في بلادنا، منعنا من الدّخول وقدّم لنا ورقة بالانجليزيّة مكتوب فيها:” حفاظا على تراث عائلة روكفلر، يمنع دخول المطعم إلّا بلباس رسميّ…بدلة سوداء…قميص أبيض وربطة عنق حمراء، إذا لا توجد معكم هذه الملابس بامكانكم استئجارها من الطّابق الثّاني… أو بامكانكم طلب الطعام من خدمة الغرف ..نأسف لازعاجكم”.

غضب أخي أحمد ورفض العشاء…دخلت إلى الغرفة… بجانب الهاتف كانت قائمة بأسماء المأكولات باللغتين الاسبانيّة والانجليزيّة، بينما كان أخي أحمد يجلس في برندة تطلّ على مياه المحيط، اتّصلت برقم خدمة الغرف…ردّت عليّ امرأة تسألني عمّا أريد طلبه، وبما أنّني لا أعرف أسماء الطّعام بالانجليزيّة، طلبت لها أن تختار لنا طعاما شهيّا. بعد دقائق حضرت فتاة حسناء بصحبتها شابّان يحملان العشاء، واحد يحمل وعاء معدنيّا لتسخين الطّعام على الشّموع، وآخر يسوق عربة عليها صنوف مختلفة من الطّعام …سلطات ومقبّلات..وصحنا لحمة، بينما هي تحمل صحنا زجاجيّا فيه ثمرة أناناس يزيد وزنها على العشرة كيلو غرامات، ومغروس في خارجها عيدان تنظيف الأسنان، لم أعرف ثمرة الأناناس؛ لأنّني لم أرَ هذا الحجم الضّخم في بلادي أو في مكان آخر، فحسبتها وردة للزّينة، لكنّ أخي أحمد عرّفني بها، الثّمرة مقسّمة إلى عدّة أقسام عرضيّة، وأعيدت إلى مكانها، واللبّ فيها مقسم إلى أقسام، يستطيع المرء أن يتناولها بعيدان الأسنان، وفي اليوم التّالي وجدناها قد نزّت في الصّحن أكثر من ثلاث ليترات عصير.

       سهرنا حتى منتصف الليل تقريبا، ورفض الأخ أحمد أن نذهب مع أخينا محمّد، فبقيت معه على أمل أن يأتينا لنذهب سويّة في اليوم التّالي.

       بعد أن غادرنا الأخ محمّد خرجت أتجوّل في ساحات الفندق، وأوّل ما لفت انتباهي وجود عشرات”سرطعانات” البحر التي تنطلق من أمام بناية باتّجاه المياه، كان يراقبها رجل عجوز يهوى اصطيادها، ثم يتركها تعود إلى المياه تحت مراقبته، حذّرني ذلك العجوز من مغبّة الدّوس عليها، فابتعدت عنها….بعدها سمعت موسيقى صاخبة، فاتّجهت إلى مكان انبعاث الصّوت في البناية الرّئيسة، وجدت شابّا يلعب تنس الطّاولة مع شابّة، في حين تراقبهما شابّة أخرى، وما أن رأتني حتى استأذنتي كي ألعب معها…لعبنا بضع دقائق ثم جلسنا على طاولة أمام صالة الرّقص، طلبت هي زجاجة جعّة، وطلبت أنا كأس عصير، شاهدت النّجمة السّداسية وشما على يدها ما بين الابهام والسّبابة، فسألتها إن كانت يهوديّة فأجابت بنعم، وأضافت بأنّها اسرائيليّة أيضا سافرت إلى أمريكا؛ لتجمع مبلغا ماليّا وتعود إلى “أرض اسرائيل”، فأخبرتها بأنّني فلسطينيّ من القدس المحتلّة، وافترقنا دون كلمة وداع.

       نمنا ليلتنا وفي الثّامنة صباحا كان أخونا محمّد يدقّ الباب علينا…حملنا حقائبنا وغادرنا الفندق إلى مطعم؛ لنتناول طعام الافطار، تجوّلنا في سان خوان عاصمة بورتوريكو حتى السّاعة الواحدة، اتّجهنا بعد ذلك إلى المطار لاستقبال أخينا جمال القادم من واشنطن، وأخونا جمال المولود في العام 1957 غادرنا في العام 1977 إلى تشيكوسلوفاكيا، حيث درس هندسة الانتاج الزّراعيّ، ثمّ سافر إلى أمريكا بعدما تعثّرت عودته إلى أرض الوطن، وهناك قدّم له الأخ احمد معاملة هجرة إلى امريكا، وحصل على الجنسيّة الأمريكيّة، استقبلنا جمال وعدنا إلى أوروكوفيس، حيث يملك الأخ محمّد نوفوتيه لبيع الملابس الجاهزة، يساعده فيه ابنه المرحوم كمال الذي لحق به في العام 1982، وتوفّي في كانون أول-ديسمبر- 2008 تاركا خلفه ابنان شابّان هما محمّد ونزار اللذان يعيشان مع جدّهما أخي محمّد في بورتوريكو، وأوروكوفيس مدينة صغيرة تشبه مدن الشّرق الأوسط الصّغيرة، وكذلك الحال بالنّسبة لبقيّة مدن بورتوريكو باستثناء العاصمة سان خوان، فهي كبيرة نسبيّا، لكنّها لا تزيد عن حجم مدينة نابلس الفلسطينيّة، وبورتوريكو جزيرة في البحر الكاريبيّ، وهي جزيرة بركانيّة، جبالها شديدة الوعورة سهلة الانهيار، شوارعها نتيجة لجغرافيتها لا تزيد في اتّساعها عن شوارع قرى بلادنا، وهي مغطّاة بالغابات الكثيفة، حتى أنّ أجزاء من بعض الشّوارع مغطّاة بجذوع الأشجار الممتدّة من الجانبين بما يشبه الأنفاق، ويعتاش أهلها على الزّراعة في غالبيّتهم، وأشهر مزروعاتهم هو الموز، وهو صنفان: صنف شبيه بموز بلادنا لكن قرونه أكبر، وصنف لا ينضج ويستعملونه للطّبيخ، يقلونه مع البيض أو البطاطا أو بمفرده، ويعتبرونه أكلة شعبيّة تقدّمها مطاعم تلك البلاد مع السّلطات…أمّا جوز الهند والأسكدنيا فهي شجار بريّة في بلد تكسوه الغابات، وثمرة الأسكدنيا كبيرة، وما يصل بلادنا هو بذورها.

        تشتهر جزيرة بورتوريكو بكثرة ضفادعها، التي تنتشر في كلّ مكان بكثافة، وبأحجام وأصناف مختلفة، وهي تلتصق بنوافذ البيوت، شوارعها تكاد تكون مرصوفة بالضّفادع التي تدوسها عجلات السيّارات، حتّى أنّهم يطلقون عليها جزيرة الضّفادع.

      مساحة بورتوريكو تسعة آلاف كيلو متر مربع، وهي جزيرة دائريّة، اذا ما انطلق المرء من نقطة ما على السّاحل في السّادسة صباحا مثلا، فإنّه سيعود إلى نقطة انطلاقه في السّادسة مساء، ولا تعتبر بورتوريكو ولاية أمريكيّة، لكنّها تخضع للسّيادة الأمريكيّة.

      ينحدر سكان بورتوريكو من أصول اسبانيّة، بشرتهم تشبه بشرتنا، وهم فلاحون طيّبون، يقتنون الدّجاج، وتشتهر عندهم مصارعة الدّيكة الدّامية، يتركون بيوتهم مفتوحة، واذا ما مرّ أحدهم بأيّ شخص فإنّه يحيّيه، واذا ما أراد شخص شراء الموز منهم وهم في المزارع، فإنّهم يقدّمون له قطف موز مجانا، يرفضون استلام ثمنه باصرار وعناد، ومن يمرّ بهم وهم يأكلون فإنّهم يدعونه لمشاركتهم طعامهم، تجوّلنا أربعتنا-محمّد، أحمد، جمال وأنا- طيلة اليوم الثّالث، أوصلنا أحمدَ عصر ذلك اليوم إلى المطار الذي غادرنا عائدا إلى هيوستن، غادرنا غاضبا لأنّني لم أعد معه، في المساء عدنا إلى البيت حيث عمل أخونا محمّد عشاء فاخرا دعا إليه عددا من أصدقائه العرب، وغالبيّتهم فلسطينيون، ومدير بنك في المدينة، كان العشاء عبارة عن خروفين محشوّين بالأرز والصنوبر والحمّص والعدس واللحم المفروم، وشواؤهما يستمرّ أربعا وعشرين ساعة، في مزرعة يملكها أردنيّ أصيل من منطقة عجلون، متزوج من أمريكيّة، يملك بيتا جميلا على قمّة جبل، وفي منحدر الجبل حفر حفرة كالقبر، فيها ثلاث عقدات من الباطون، وللعقدين العلويّين باب حديديّ، يوضع في كلّ واحد منهما خروفا محشوّا، والعقدة الأولى للنّيران المكوّنة من جذوع الأشجار الضّخمة، ويستمر الشّواء على نار هادئة لمدة 24 ساعة، إنّها تشبه “الزّرب” المعروف في بادية بلاد الشام، وهي من أشهى المأكولات إن لم تكن أشهاها على الاطلاق، ومن شدّة اعجاب مدير البنك بتلك الأكلة استأذن بأن يحمل صحنا لزوجته، ولمّا سأل عن كيفية عملها، صرفه أخي محمّد عن الموضوع بقوله:

“هذه الأكلة معروفة في بلادنا، وقد أحضرها إخوتي معهم من البلاد ” ولا أعلم إن انطلت الحيلة عليه أم لا، لكنّه لم يعد يتحدّث بالموضوع.

         نقيق الضّفادع يسلب النّعاس من عيون من لم يتعوّد على سماعه، ذات صباح استيقظت مبكرا، خرجت إلى حديقة المنزل، رأيت عصفورا جميلا يرشف رحيق زهرة وهو يرفرف في الجوّ، منقاره في وسط الزّهرة وهو واقف في الجوّ، جناحاه يرفرفان وتغريده العذب يعلو، سعدت بذلك العصفور الجميل الذي عوّضني عن ازعاج نقيق الضّفادع.

      كنّا نخرج يوميا من الصّباح إلى المساء، نتناول طعام الغداء سمكا شهيّا في أحد المطاعم الفاخرة على شاطئ المحيط، مطاعم مجهّزة بشكل لافت، أمامها كواسر أمواج صخريّة، من السّهل على المرء أن يرى الأسماك الملوّنة وهي تتساقط مع أمواج البحر بين الصّخور؛ لتعود بعد معاناة إلى البحر ثانية وهكذا، بعض هذه المطاعم يملك سفنا تبعد عن الشّواطئ عدّة كيلو مترات، وهي عبارة عن مطاعم عائمة لمن يريد تناول طعامه في عرض البحر، يحمله قارب من المطعم إلى السّفينة، ومن عادات تلك المطاعم، أنّك تطلب نوع السّمك الذي تريده، ويسألك النّادل إن كنت تريده مقليّا بالزّيت، أو مشويّا على الفحم، ويقدّم لكلّ شخص سمكة كاملة، في المرّة الأولى طلبنا سمكة مقليّة، وسمكتين شواء، وكان وزن إحداها يزيد على الخمسة كيلو غرام، في حين كانت الأصغر تزيد على الكيلو غرام.

الأواني الفخّاريّة

         ذات يوم ذهبنا لتناول وجبة العشاء في مطعم فاخر في سان خوان، فقدّموا لنا السّلطات وما طلبناه من لحوم في أواني فخاريّة، حتى الماء كان بأباريق فخّاريّة، أمّا الكؤوس فكانت من زجاج؛ ليرى المرء ما بداخلها، رحّبت بنا النّادلة بابتسامة عريضة، ولمّا سألتها عن سبب استعمال المطعم للأواني الفخّاريّة، أجابتني بفخر واضح:

إنّها تراثنا الاسبانيّ، فأنت تعلم أنّنا ننحدر من أصول اسبانيّة.

فقلت لها بأنّ الفخّار تراث عربيّ نصنعه ونستعمله حتى الآن.

فردت:

لا تنسَ أنّ العرب حكموا اسبانيا…وأسموها الأندلس وقصر الحمراء من أعظم الشّواهد التّاريخيّة، وأضافت بأنّ العرب تزاوجوا مع الاسبان، وسألت:

ألا ترى أنّنا نتشابه بلون البشرة وبعض العادات؟

شكرتها على خدمتها ولطفها، وحزنت على أمّتي التي كانت ماجدة وما عادت.

قصر الحاكم الاسبانيّ

       ذات يوم كان أخي محمّد مشغولا، فطلب من صديقه أبي مشهور، – وهو فلسطينيّ طيّب من عين يبرود قضاء رام الله- أن يصطحبنا معه في نزهة يوميّة، فقادنا أبو مشهور إلى المناطق الأثريّة القديمة في سان خوان، حيث يوجد سور ضخم، مثبتّة عليه مدافع قديمة، كانت تستعمل لصدّ الغزاة القادمين عبر البحر في القرون السّابقة، وهناك بناية ضخمة تشبه سجون بلادنا التي تركها لنا الانجليز في كلّ مدينة من مدننا، وحولها ساحة تشبه ملعب كرة القدم تغصّ بالزّائرين، سعر تذكرة دخولها اثنا عشر دولارا، فحسبت البناية متحفا، عندما دخلنا الطّابق الأوّل لم أشاهد شيئا لافتا، فخرجت وأنا أعجب من أناس يلمسون الجدران بدهشة، بينما واصل أبو مشهور وأخي جمال التّجوال في البناية، في الخارج سألتُ امرأة عجوزا عن هذه البناية وماذا تمثّل؟ فأجابتني بأنّها بناية تراثيّة، عمرها يزيد على مائة عام، وهي البناية الأقدم في بورتوريكو، وكانت مقرّا للحاكم الاسبانيّ، فقلبت شفتي السّفلى عجبا، وقلت للمرأة:

 قد لا تصدّقين بأنّني قادم من منطقة عمر مدنها وأبنيتها آلاف السنين!

فقالت:

طبعا لن أصدق…من أين أنت؟ وعن أيّ بلاد تتحدث؟

فأجبتها: من فلسطين.

وعادت تسأل: أين تقع هذه البلاد؟

فرددت عليها بسؤال: ألم تسمعي بالقدس وبيت لحم؟ ألم تسمعي بالأرض المقدّسة؟

فأجابت: هل تعني اسرائيل؟

ورددت: بل أعني فلسطين.

الخراف غير مرغوبة لحومها

        الأمريكيّون في غالبيّتهم يأكلون لحوم البقر والخنازير، أمّا الخراف فغير مرغوبة لحومها، بل إنّ غالبيتهم لا يأكلونها، ويضعونها في المزارع للزّينة، في بورتوريكو يشتريها العرب والشّرق أوسطيّون بسعر رخيص جدّا، اصطحبنا أخي محمّد إلى مزرعة، واشترى خروفين بخمسة عشر دولارا، ومن شدّة خصب تلك البلاد فإنّ المرء لا يرى الأبقار من طول الأعشاب إلّا إذا رفعت رؤوسها، أمّا الخراف فإنّ المرء يحتار من أين يأتي بها حارس المزرعة الذي يبيعها من وراء مالك المزرعة، أحضر الحارس الخروفين عند مدخل المزرعة، طلب منه أخي محمّد أن يذبحها مقابل أن يعطيه بنطالا من محلّه في اليوم التّالي، وهو يعطيه بنطالا انتهت موضته، وتكلفته عليه دولارين، ومعروف أنّ الأمريكيّين مهوسون بالموضة، علّق الرّجل الخاروفين من قائمتيهما الخلفيّتين على عارضة حديديّة تشبه عارضة ملعب كرة القدم، وفي هكذا تعليق لا يستطيع الخروف حراكا، هو يذبح وأخي محمّد يردد: بسم الله…الله اكبر، سلخ الخروفين..ألقى بالمعدة والأمعاء والرّأس إلى كلبه، في حين طلب منه أخي محمّد أن يحفظ لنا المعلاق “الكبد+الرئة+القلب والطحال”…فسأل لماذا تريدونها؟

فأجابه أخي محمّد: نريدها لقطِّنا في البيت.

فقال: الرّئة تنفع للكلاب لكنّها تضرّ القطط… وألقى بالرّئة للكلب، أراد أن يلقي الطّحال…لكنّ أخي محمّد التقطه منه….شقّ كلّ خاروف إلى نصفين، وحملناها وعدنا، في الطريق مرّ بنا أخونا محمّد إلى بيت امرأة كان قد تزوّجها للحصول على الجنسيّة الأمريكيّة، وما لبث أن طلقها، استقبلتنا المرأة دون أن تعرف صلة القربى بيننا، وهناك أشعل محمّد الكانون؛ لنشوي عليه معلاقي الخروفين وبعض اللحوم، لم تشارك المرأة في عملية الشّواء، بل كان التّقزّز ظاهرا عليها، كانت تحادثه بالاسبانيّة التي لا نعرفها، لكنّها تكلّمت بلهجة حادّة كما بدا لنا، فانفرط ضاحكا، وترجم لنا ما قالته له وهو:

“اتق ربّك بهؤلاء المهابيل…ولا تقتلهم، فهل تريد الخلاص منهم بتسميمهم بهذه اللحوم السّامّة”؟ فضحكنا سويّة.

محمّد في الولايات المتّحدة

          عندما عاد أخي محمّد من البرازيل عام 1972، كان دائم الشّكوى من سبل العيش في البلاد تحت الاحتلال، ويمنّي النّفس دائما بالسّفر إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، حتى أنّه وصل إلى درجة التّمني داعيا الله أن لا يميته إلّا في تلك البلاد، أنجب بعد عودته من البرازيل ثلاثة أبناء هم:”ماري، حسين وسائد” وشرع ببناء بيت، قبل اكتمال البيت حصل على تأشيرة دخول-فيزا- لزيارة الولايات المتّحدة، فغادر البلاد فورا في اكتوبر 1977، كان ابنه سائد رضيعا يحبو، سافر إلى هيوستن، حيث الأخ أحمد وابن العمّ محمّد موسى، أحمد تخرّج من الجامعة حديثا، ولا يملك نقودا سوى 4500 دولار كما قال لي لاحقا، أراد محمّد أن يعمل بائع حقيبة كما فعل عند بداياته في البرازيل، فأخبراه باستحالة ذلك في مدينة ضخمة كهيوستن، وأعطاه أخونا أحمد الأربعة آلاف وخمسمائة دولار التي لا يملك غيرها، وعرض عليه ابن العمّ محمّد وهو شقيق زوجة أخينا محمّد عشرة آلاف دولار مقابل أن يعود إلى زوجته وأبنائه في البلاد، لكنّه رفض وغادرهم دون استئذان إلى بورتوريكو حيث يتكلّم شعبها الاسبانيّة، التي يعرفها من البرازيل، والشّعب البرازيليّ يتكلم البرتغاليّة التي هي قريبة جدّا للاسبانيّة، وهناك عمل بائع حقيبة لمدّة سنة، وبعدها افتتح محلّ نوفوتيه.

عودة إلى هيوستن

        بقيتُ في بورتوريكو ثلاثة أسابيع متواصلة، غادرتها قبل عودتى إلى البلاد بيوم واحد، وهي من أجمل بلدان العالم، غادرتها محمّلا بثلاث حقائب سفر ملابس من محلّ أخي محمّد، واحدة منها لابني البكر قيس الذي انهى عامه الأوّل من العمر،عدت إلى هيوستن عن طريق مطار أطلنطا حيث افترقت عن أخي جمال الذي عاد إلى عمله في واشنطن، فوجدت أخي احمد وابن عمّي محمّد موسى في استقبالي، تناولنا طعام العشاء في مطعم فندق، سهرنا في بيت أحمد، أراداني أن أمدّد رحلتي، لكنّني رفضت باصرار، ففي بداية شهر أيلول سأعود إلى عملي مدرسا للغة العربيّة في المدرسة الرشيديّة الثانويّة في القدس الشريف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى