أبو السَّعد

يكتبها : محمد فيض خالد

ظَللّتُ لفترةٍ ليست باليَسيرةِ أحسبه شريك الفلاحين كسرة خبزهم، وَعيت ولا حَديثَ للنسوةِ أمام الفرنِ إلَّا عن ” أبو السّعد” ومهارة يده، وصنعته التي جعلت منه نَجما، قالوا لقد هَبَطَ قريتنا صَبيّا يحملُ فوقَ حمارهِ الهَزيل غرابيله، تَتذكّر “مسعدة” بائعة الملوحة قصته كاملة: إنّ أمَه من قريتنا ، ووالده غريب عن النّاحيةِ ، أُصيبَ بطلقٍ ناري لم يُعرَف مصدره، أقعدهُ عن السَّعي ، وإن كان الكُلّ يعلم بأنّه قَدِمَ من دايرة “البِك”، اُخرِجَ من الكُتاب بعد إذّ حَفِظَ جُزء “عم” ليَحِلّ محلّ والده، يَجُوبُ القُرى والنُّجوع يُدلّل على سلعتهِ ، يتبلّغ بهذهِ القروش رِبحَا رخيّا، يسدّ حُنوك إخوته البنات، عاجله المرض في وفرِ صِباه، مُنذ عرفناه عليل الجسم مبذوء الهيئة، أخذَ منه الهزال مبلغه، يَغيبُ في سُعَالهِ اليّابِس، يتخلّع صَدرهِ حَال نَوبته ، لا يتركه إلّا مُمتَقعَ الوَجه ينحدر نحوَ الذّبول ، يُخيّل لمن يراه أنّه سينهي قريبا شبابه ، ويطوي كتاب أيامه، لكنّه ما إن يفيق حتى يعودَ سيرته الأولى، فرِحا بشوش المُحيّا ، يُوزِّع النّكات اللاذعة دونَ غَضَاضةٍ، يتفنّن في مُغَازَلةِ النّساء في ذَلاقةٍ مُحببّة، سريعا اطمأنت إليهِ أفئدة الأهالي الذينَ وجدوا في ضعفهِ سببا من أسبابِ الشّفقة، ووسيلةً تجعله أثيرا عن الأغرابِ ،الذين انقطعوا مُكرهين عن النّزولِ ببضاعتهم ، ليصبِحَ من بعدها المُورّد الوحيد والمستشار المؤتمن، الذي لم يكتف بتجارةِ ” غرابيله” بل انغمسَ لرقبتهِ في همومِ النّاس، ذَابَ وسط خيوط دُخان الأفران، واختلطَ بذراتِ العجين، ونضجت محبته مع أرغفةِ الخبز المختمرة فوقَ الأسطحِ ، رغم هذا كان يشعرُ بغرورٍ مُفاجئ يَقتَلعهُ من عطفِ النّاس وشفقتهم، ويَزِجُّ بهِ في مهاوي سحيقةٍ، شعورٌ لا يُدركه إلّا صاحبَ مهنةٍ حساسة، ذَاكَ الشُّعور الذي ينتاب ” الصّاغة ” يتحوّل ” أبو السّعد” بائع “الغرابيل ” العليل إلى ذئب لئيم ، يمطر ذبائنه بأقذعِ الألفاظِ ، يرميهم بالنّظرِ الشّذرِ ، يبتسم دونَ سَببٍ ابتسامة الهزء من فقرهم، تَلوحُ سحنته في وهجِ الظّهيرة وقد اكفهرت، يهتف بهِ الكبرياء ساعة، فيعلو صراخه في فوضى: كفاية مناهدة الله الغني عن البيعة دي .
لكنّه يفيق من غفلتهِ في منتصفِ الطّريق، حينَ تشرقُ عينه إشراقة الطّفولة البريئة، يُدركُ ساعتئذٍ أنّه لا يزال يتردى في مهاوي البؤسِ مصروع القلب ، يلهث خلف قروشٍ صدئة، فيعود رابط الجأش ثابتَ الجِنان، يجدّد نشاطه، ويذكي ملكاته التي أحبّه لأجلها الفقراء، فيلاطفهم بنكاتهِ التي تفيضُ مَلاحة وظُرف، قال ” مخيمر ” القفاص : إنّ في نفس صاحبنا نوازع ثري وجيه ، وشحاذ معدم ، لكنّه طيّبَ القلب لا يسعى في أذيةٍ، ولهذا أحبّه النّاس، أمّا ” محاسن ” الدّاية فهي تمقته ، وترى في وقاحتهِ إفراطًا في العدوانِ، كيف لغريبٍ أن يتبجّح في بناتِ الأصول دون ردعٍ، غَيرَ أنّ الجميع يعرف ما يدفعها لأن تُلقي بهذهِ الوشاية ، لقد خطبها شهرا ثم تركها، أوهمته أنّها تحتفظ بمصاغ أمّها “حسنية ” داية الزِّمام ، لكنّها كذبة ذهبت بأحلامِ صاحبنا، وأفلتت بهِ من يدها، ظلّ عازبا لم يقع في شركِ الحُبّ إلى أن ظهرت ” وداد” ابنة “متولي” مبيض النّحاس ، لا يُعرَف سببا لتعلقهِ بِها، حكى “مهران” خفير الأوقاف: لقد جمعهما الفقر والجوع .
أنجَبَ منها ثلاثة من الذُّكورِ ، وخمس إناثٍ، ظَلّ حياته يحبها بجنونٍ وطيش، لا يجد حَرجا في التَّغزل فيها، وكأنّها إحدى معبوداتِ الإغريق أو حسناوات الهنود، يستمد من نبعِ قلبها الدَّفاق نضارة الحياة التي حرمته من متعها صغيرا، لتلقي بهِ بينَ اكوامِ الجريدِ، ها هي القرية وقد تخلّت عن فقرها ، نفضت عنها عوزها الذي لازمها قُرونا، امتلأت البيوتُ بأرغفةِ القمح الحارة، افتتحَ الحاج “غلاب” مخبزه الآلي، جلس ” أبو السّعد، يوما على نَاصِيةِ الشّارعِ، لم يكن يوما عَاديّا ، رأى في أعينِ الخَلقِ بريقا خافتا، ونكرانا لم يره من قبلِ، وعندما علم بأمرِ المخبز جَمَعَ غرابيله وغَادَرَ من سكاتٍ ، لم يرجع ثانيةً ، لم يُكلِّف أحدهم خاطره ليعرِف مصيره حتى الآن ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى