وداعاً (طه الطه) ذاكرة بلد

أيمن ناصر | روائي سوري

(مياه نهر الفرات تتدفق في عروقي، وهل ينسى العاشق معشوقه؟ لم أنس ولو للحظة واحدة الرقة وسوريا، فهما ماثلتان أمام عيني على الدوام، نحن نبكي الدماء بدلا من الدموع، نحن لا قيمة لنا ولا احترام إلا بوطننا).. آخر كلمات سجلتها الذاكرة الورقية في صحيفة إشراق قبل عام لآخر الورّاقين الراحل طه الطه..
طه الطه من مواليد الرقة 1947، متزوج له أربعة أبناء، بدأ اهتمامه بتأريخ الفلكلور الشعبي في منطقة الفرات، ونظراً لإمكانياته المحدودة حوّل بيته في الرقة إلى متحف، رافق ذلك نشاطاً سنوياً يقوم به بشكل منتظم في المتحف يوم (28 من ايلول كل عام الذي صادف يوم أمس يوم رحيله عن الدنيا. مفارقة عجيبة للقدر) يستقبل فيه فنانين من مختلف دول العالم ليشاركوا في الفعاليات، عادة ما يتم تنظيم هذه الأنشطة في شكل مسابقات للشعر والصور والرسم، وبفضل هذه الأنشطة أصبح طه الطه اسمًا معروفًا في أوروبا والعالم العربي.
      اهتمَّ بالدراسة “البيبلوغرافية” وله في هذا المجال أكثر من أربع وسبعون دراسة مخطوطة رصد من خلالها الشخصيات الإبداعية على مستوى الوطن العربي، كتب معجماً للمبدعين العرب في الوطن العربي، وجمع أعمالا فنية إبداعية لـ 156 فناناً عربياً وعالمياً، وأسس متحفاً يحمل اسمه يهتم بالتراث منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى عصرنا الحاضر.
قال عن تلك الفترة: (العمل الذي كنت أقوم به في الرقة هو نتاج نور العين لجهد استمر لخمسين عاما كاملة)
أما عن نشاطه في أورفه قال: (العمل الذي أقوم به هنا في أورفه يخفف بعض آلامي ويقلل من معاناتي. انظروا إن هذه الأعمال والمنتجات بالغة الأهمية بالنسبة لي أكثر من أي شيء، وصدقوا أنني أستطيع أن أبقى جائعًا، لكن لا يمكنني البقاء بدون الفن. أجمع نسخ من الصحف والمجلات والكتب الصادرة باللغة العربية في أورفا وأعمل على أرشفتها، كما أقوم بتدوين السير الذاتية للفنانين المحليين الذين أتمكن من الوصول إليهم من الذين ينظمون نشاطات فنية. أحاول الوصول إلى المنتجات الفنية للفنانين السوريين في أورفا مثل الرسومات والصور وغيرها، ومن ثم أقوم بعرضها في متحفي)
        في أول لقاء لنا في أورفه دعوته إلى مرسمنا في جمعية صناع السعادة وكانت فرحته كبيرة بذلك وكأنما وجد ضالته. وفي أول زيارة ابتسم وقال (شحذوني شوية سعادة ترى قلبي مليان قهر بحجم الفرات) اعتاد زيارتنا يومياً يلتقط الصور للأعمال ويسجل اسم كل لوحة ننجزها ويحتفظ بكل ورقة يشعر أنها تستحق الأرشفة. كنا في حوش المرسم نجالسه ساعة زمن يسمعنا آخر أشعاره وكتاباته.
الحديث عن الراحل طه الطه ذو شجون ولن تكفيه سطور هذا الملف الموجز.
تربطني به ذكريات بعيدة تعود لسبعينيات القرن الماضي. شاركت في أغلب المعارض السنوية التي كان يقيمها في بيته ثم في قبو بناه لهذا الغرض ليتحول الى متحف طه الطه وغدا بشهرة متحف الرقة بمشاريعه وطموحاته الكثيرة.
كان متحفه بما يضم قبلة المثقفين العرب والمؤرخين الأجانب. وكل من يبحث عن الصدق والحقيقة في الفن والثقافة والجمال لكنه وقع تحت سطوة الغربان السود فأحرقوا متحفه ..
رحل سفير الطيبة والنقاء رحل الصوفي الجميل طه الطه صديق الأيام الخوالي.
وداعاً رفيق الكلمة الطيبة، صديق الغربة، رمز التفاني والوفاء لمدينته وتراثها الأستاذ طه الطه أبو إبراهيم وراق الرقة وأرشيف مبدعي سورية والوطن العربي من رسامين وشعراء وكتّاب وعلماء ومفكرين ونحاتين ضمهم في متحفه الخاص في الرقة الذي ضاعت ودمّرت أغلب مقتنياته ليعاود المحاولة في أورفه رغم المشقة عليه وقد تجاوز السبعين بأعوام قليلة.
يعتصرني الألم وأنا أنعيه. فقد عايشته تقريباً في أيامه الأخيرة برفقة ابنه هاني الذي لم يفارقه وترك عمله فترة مرض والده ليبقى قريباً منه.
كان حزيناً جداً، وحيداً جداً.. عاش في فقر مدقع ولم يساعده أحد رغم أن ما قدمه خلال أكثر من خمسين عاماً للثقافة السورية تعجز عنه مؤسسة ضخمة.
كان همه أن يرجع للرقة ويستكمل مشواره الذي بدأه هناك إلا ان الظروف كانت أقوى منه. لم يسعفه الزمن ولا صحته التي تدهورت كثيراً بسبب رطوبة المكان الذي كان يأويه في أورفه وإهمال بعض المقربين. أصيب بجلطة دماغية دخل على أثرها إلى أحد مشافي “أورفا” وتم تشخيصه خطأ بالكورونا وعولج على هذا الأساس ليكتشف أحد الأطباء بعد أربعة عشر يوماً من الحجر الخاطئ أن ما به هو جلطة دماغية . وكان الأوان قد فات.
رحل تاركاً اسماً كبيراً وسمعة طيبة بحجم إخلاصه ووفائه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى