مقدمة في أغنية “حاول تفتكرني”.. حليم وروعة الضعف

د. خضر محجز | فلسطين

حبيبي

والله لسه حبيبي والله وحبيبي

مهما تنسى حبيبي والله وحبيبي

عمري ما انسى حبيبي، ابقى

افتكرني، حاول حاول

حسناً، لقد أبدع المرحوم بليغ حمدي هذا اللحن، وقدمه لعبد الحليم، وشاركه والفرقةَ الموسيقيةَ التجاربَ على الأداء (البروفات) ما يقرب من العام. فماذا كان؟

أما محمد حمزة فقد كتب هذه الكلمات، ثم غاب مؤقتاً، ريثما يطلبه حليم لأغنية جديدة. وأما بليغ فمواصل ومستمر ويبذل طاقته في البروفات والتعديلات.

إنه يعرف طبيعة هذا الصوت، ويعرف إمكانياته، ويضع له من الألحان ما يمكن لمثله أن يطيقه. وتلكم معادلة ليست سهلة: فصوت عبد الحليم ضعيف، لا يشبه في شيء صوت وديع الصافي أو أم كلثوم أو حتى محمد قنديل، الذين يملكون طبقات صوتية عالية، قادرة على الصدح.

لكن أيّاً من محمد قنديل أو وديع الصافي ــ أو حتى صباح فخري فيما بعد ــ لم يستطع أن يغزو قلوب الناس، أو يبلغ هذه الروعة، بمثل ما فعل هذا العندليب ذو الجناح المكسور. ذلك أنه لم يكن أحدٌ مستطيعاً أن يفهم حليماً مثلما فهمه حليم. فلقد كان الوحيد الذي أدرك ــ بذكاء خارق ــ سر الجمال في صوته، وكيمياء العذوبة التي لا يمكن أن تخضع للقواعد. فتحدى كل شيء، وتحمل السخرية والاستنكار واثقاً من أنه سيصل، إن عاجلاً أو آجلاً ــ إلى قلب الجمهور.

وكلنا نتذكر صموده العجيب في لقائه الأول مع الجمهور في (صافيني مرة).

لقد كان بإمكان المكسور أن يتشظى. لكن يبدو أن هذا الفتى كان قد شبع انكساراً، فلم يعد لديه متسع منه!.. لم يعد لديه سوى الصمود، والغوص في ذاته، لاكتشاف الأعماق التي لم يكن يدركها سواه.

وقد فعل.

والآن يا أصدقائي، دعونا نتأمل بعض إبداعات هذا الضعف العظيم، في أغنية (حاول تفتكرني):

بعد الكوبليه المقدمة (أنا اللي طول عمري باصدق كلام الصبر في المواويل) يتهادى لحن الصوت الحليمي، بمرافقة الموسيقى، ليطلع علينا بالكوبليه التالي:

حبيبي

والله لسه حبيبي والله وحبيبي

مهما تنسى حبيبي والله وحبيبي

عمري ما انسى حبيبي والله وحبيبي

عمري ما انسى حبيبي، ابقى

افتكرني

حاول حاول

تفتكرني

حاول حاول

تفنكرني

لو مريت في طريق

مشينا مره فيه

أو عَدّيتْ في مكان

كان لينا ذكرى فيه

ابقى افتكرني.. حاول حاول

تفتكرني، حاول حاول

تفتكرني

دي ليالي عشناها

أبداً مش ح انساها

على بالي، على بالي يا حبيبي

على بالي

وعلى بالي، أيام وليالي يا حبيبي

على بالي.. ليل ونهار.. وانت على بالي

فنتأمل الآن كيف ينطق حليم كلمة (حبيبي)، كيف يلوعها وهو ينشج بها نشيجاً يفلق الحجر!. فكلهم يقولون (حبيبي):

حتى المطربون الأقوى صوتاً يصدحون بكلمة (حبيبي)، وتطربنا، لكنها لا تشبه في لوعتها طريقة خروجها من فم العندليب.

إنه لا يمد بها، ولكنه يرتجف. إنه يعوض عن قصر المدى بارتجافة اللوعة. ها هنا نتأمل الفرق بين القوة التي تثير الإعجاب لدى الآخرين، واللوعة التي تثير التعاطف والشجن، وتستخرج من الأعماق مدفون العواطف، مع العندليب المكسور.

ها هنا يمكن لنا أن نلاحظ كم كانت حدة الذهن لدى نيتشه ــ حين كان يتكلم عن فاغنر ــ فجعل رهافة الحواس الخمس واحدة من الشروط الضرورية للفن: الحس بالفوارق الدقيقة والهشاشة النفسية^.

ليس من الضروري أن يكون حليم قد قرأ نيتشه، لكن من الواضح أنه توصل إلى فهم مشترك مع نيتشه في هذه النقطة بالذات. ذلك أن كلا العظيمين أدرك ذلك من خلال تأمل هشاشته العظمى الخاصة.

لقد أحس حليم بهشاشته النفسية فاستغلها شرطاً للتفوق على الأقوياء. فكأن صوته كان يقول: ربما كان المطربون أقوياء، ولكن منذ متى كانت القوة دليلاً على اللوعة؟ إنهم مطربون وأنا عاشق، فاختاروا بين الاثنين.

بهذه الطريقة يقدم لنا حليم دليله الذي لا يقبل الرد.

لقد سبق لفاغنر أن تفوق بهذه الطريقة. وإن ما يمنع هاني شاكر اليوم من التفوق بهذه الطريقة، هو أنه لم يكن هشاً في داخله، وإن تَصنّع الهشاشة. إنها هشاشة طبيعية، منحة من الله سبحانه.

ثمة ملاحظة أخرى:

ففي طريقة حليم في قول (حبيبي) في هذا الكوبليه، نسمع إلى إبداع حليمي ذاتي متفرد، لا يشاركه فيه مؤلف ولا ملحن، بل هو إبداع شخصي ــ سلالي ربما ــ لا نعرف من أي وادٍ من وديان دموع فتى (الحَلَوات) اليتيم يمتح: لا يستطيع بليغ أن يعلمه هنا كيف يقول (حبيبي)، ولم يدر بخلد محمد حمزة أن تقال (حبيبي) بهذه الطريقة مطلقاً..

أعلم أن كلماتي لا تغني عن استماع كيف يفعل حليم ذلك. لكنه يفعل، ويدهشنا، ويبكينا، ويطرق أبواب حزنٍ ظلت مغلقةً طويلاً في أعماقنا.

ثمة شيء آخر تجدر ملاحظته:

يعيد العندليبُ ويكرر كلمة (حبيبي) في هذا الكوبليه، بما لا تشبه مرةٌ واحدةٌ أختَها الثانية:

في كل مرة يقولها العندليب، تخرج من أعماق أعماقه جديدة لم نسمعها من قبل. دع عنك هيئته أمام الكاميرا، تلك الهيئة التي تقنعك بأنه يقولها كل مرة من قلب موجوع.

لدى عبد الحليم تتبدى واضحةً مبدعةً متوهجةً قوةُ الصنعة. إنه الصانع الأمهر حقاً، صانعٌ يصنع من المادة البسيطة جواهر ولآلئ وعقوداً تُعلق على صدور الجميلات.

كيف استطاع الفتى اليتم أن يعرف ما لديه؟

كيف استطاع عبد الحليم أن يتحدى طغيان صوت جبار كصوت أم كلثوم، فيقف إلى جانبه، بل وينافسه مراراً بما يخيف كوكب الشرق؟

وأخيراً، كيف استطاع حليم أن يحول عبد الوهاب من مطرب ملحن، إلى عامل لديه، يبدع له الألحان، ويكتفي برؤيته يحقق ما كان يصبو إليه ولم يصله؟ ثم كيف استطاع عبد الوهاب أن يهدد بحليم سيطرة أم كلثوم وتفردها؟

لا جرم أن أدرك موسيقار الأجيال، ولو متأخراً، عظمة النبوءة المستقبلية، في صوت هذا الفتى المسكين القادم من الريف، فتبناه، وسار به وفق ما اختار هو (حليم) من قبل!

يمكنني القول بأن عبد الوهاب قد شهد، على يدي حليم، تحوله التاريخي إلى ملحن مختلف تماماً عما كان في السابق.

لم يخجل عبد الوهاب من التقاط طرف الخيط، ومواصلة ما بدأه الموجي والطويل، والنسج على منوالهما، وإن بنكهة مختلفة قليلاً.

أما نطق حليم في هذا الكوبليه بكلمة (حاول) فتحتاج إلى مبحث آخر.

دمتم بخير يا أصدقائي

ـــــــــــــ

الإحالات:

^نيتشه. هذا هو الإنسان. ترجمة علي مصباح. منشورات الجمل. كولونيا. ص51

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى