ما وراء  الجسد في رواية ( بيت السودان ) للروائي محمد حياوي

أ. د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

إن لثلاثية الجسد والأنوثة والذكورة هوية أسطورية, وفلسفة شديدة التعقيد, وما زالت البحوث التاريخية ,والنفسية ,والبيولوجية عاجزة عن تحليلها, وفهمها, أو وضع مفهوم محدد لها, لان جدليتها مستمرة ومتحدة ومتغيرة, والصراع المستفحل الدائر بين الأنوثة ,والذكورة من ناحية أنهما جسد ,وروح ,وكيان , وجدلية أفضلية احدهما على الآخر , جعلها موضوعا أساسا للفنون بكل أشكالها قديما وحديثا, وخصوصا الفنون الأدبية الحديثة المتمثلة في الفن الروائي, التي عبر عنها المبدعون كل بطريقته الخاصة التي تخضع في معظم الأحايين لثقافته, وفكره ووضعه النفسي الاجتماعي, فهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بأنماط السلوك البشري, والتجارب الإنسانية, وخصوصا تلك التي يعاصرها المبدع نفسه [1],ونحن نتفق مع الدكتورة منى الشرافي فيما ذهبت إليه ,  وهنا تبدو العلاقة بين الثلاثي ( علاوي- ياقوت – عفاف) كأنها مثلث من نار لا يسمح لمن هم خارجه بالدخول أو الاقتراب منه علاقة دهشة طفولية تكتشف العالم بواسطة اكتشاف الجسد مرتكزة على ثنائيات محيرة تجمع بين العاطفة, والرغبة, الاجتياح ,والارتواء النقص والاكتمال, – حسنا إليكما جسدي افعلا به ما تريدان أن كان الأمر يريحكما هل انضو عني ثوبي ؟وراحت تنزع ثوبها الشفاف , فبان نهداها العاجيان اللذان طالما أسراني, وراحت عفاف تنظر إلى جمال جسدها غير مصدقة, وانتابنا الجفول , فاستدرات نحونا وقالت: – ما بلكما ؟ هيا  ارتعا بجسدي الذي تتمنيان0 لن أوفر شيئا يريحكما على الإطلاق أنتما تعرفان معزتكما في نفسي حتى لو كان الأمر يؤذيني ويشعرني بالاهانة , لكنني مستعدة لمجاراتكما ما دام الأمر يسعدكما [2].

والعملية الإبداعية الفنية بالدرجة الأولى, هي عملية تصعيد وتعويض وتحويل, وإحلال وإبدال وحذف وإضافة, يجريها الأديب أثناء تأليفه نصه الأدبي, وقد نقل الكتاني عن فرويد رأيه في الأعمال الإبداعية الروائية أن:الدوافع النفسية لدى المبدع, إذ تعتبر أنماطا من الأحلام المكبوتة , والرغبات الدفينة[3] , فالجنس ركيزة أساس تدور حولها الأعمال الأدبية، إذ يعد غاية لأَختراق المحرم، وقد استطاع النتاج الإبداعي، إِنَّ يوظف الجسد داخل إعماله الأدبية، لإضفاء معنى ايروتيكي جديد, ولأنَّ الناحية الجنسية تمثل حساسية في مجتمعاتنا؛ كونها تدخل دائرة المحرم، فالكتابة الجنسية أو النص الجنسي، هو آلة لغوية كتابية تنظيرية، ومن السهل التحكم في صياغة توظيفها  ومن المتعارف عليه في أوساطنا الأدبية والثقافية، إِنَّ الجسد شكل أهمية كبيرة في حياة الناس؛ كونه ذا قيمة روحية كبيرة، فالحديث عنه أجده مرهوناً بالمناسبة، فكما نعلم أَنَّ لكل حادث حديث، أي أَنَّ النتاج الأدبي لا ينفرد بالحديث عن الجنس، بل يحمّل – نتاجه – موضوعات عدّة، فتطور المجتمع أسهم في تطور أساليب الكتابة وتجاوزها للمكبوت[4], ونحن نتفق مع الدكتورة وسن مرشد  فيما ذهبت إليه, وفي رواية (بيت السودان) للروائي  المبدع محمد حياوي  تناول موضوعة الجنس لغاية إنسانية عالج فيها انحراف المجتمع, لبعض العادات ,والتقاليد, وتحاول الراوية الإفادة من كلّ الآليات السردية لتطوير نصّها, ودعمها ما أمكن بأفضل الشروط الفنيّة، على ألاَّ تخلّ بالطابع العام حتى لا يخرج النص إلى فن سردي آخر، ولا يُشْتَرَطُ على الراوية الاعتماد على الضمير الأوّل المتكلّم، بل قد تتقنّع بضمائر أخرى تخفّف من حدّة الضمير المتكلّم وانحيازه، بشرط أن يعرف المتلقي ذلك لكي لا تتحوّل إلى سيرة غيريّة، بحيث يظلّ الميثاق التعاقدي بين الكاتب, والمتلقي قائماً ,وواضحاً، كما ترتكز الرواية على آلية السرد ألاسترجاعي التي تقوم بتفعيل عمل الذاكرة وشحنها بطاقةِ استنهاض حرّة, وساخنة للعمل في حقل السيرة الذاتية.

ولعل أهم ميزة عند الروائي محمد حياوي, استخدمه تقنية حداثوية جديدة هي طريقة المونتاج السينمائي, وتقنية الفلاش باك, والسارد وهو يدون مذكراته الشخصية لكشف المستور, والمخفي في المجتمع العراقي, وأهم قضية في الرواية هي ارخة الأحداث السياسية ,والقضايا المصيرية , بطريقة سردية مشوقة الأنساق الظاهرة تدل على الجسد, والجنس ,والدعارة, والأنساق المضمرة تدل على النقد البناء , والقضايا المهمة التي طرحها ,وعلاجها الروائي المبدع محمد حياوي, فنراه يقول: كانت عفاف ناحلة ذات قوام مشدود ورقبة طويلة وبشرة بيضاء وعينين سوداوين عميقتين غامضتين, وشعر مموج قصير, وكانت ترتدي بنطلون الجينز والقميص القطني تحت العباءة التي تطويها حالما تدخل الحرم الجامعي, كان الجميع مأسورا بقوة حضورها وشخصيتها وثقافتها وتحررها, لكنها لم تكن ميالة إلى توطيد علاقتها بأحد على نحو خاص, حتى رفاقها في اتحاد الطلبة الذين غالبا ما تقتضي الظروف لقاءها معهم, أو عقد اجتماعات مموهة معهم في أماكن لم تخطر في بال السلطات آنذاك , لم تكن لتسمح بتجاوز علاقتها بهم حدود العمل الاتحادي.[5]

فعلاقة الجنس/ الجسد علاقة رمزية تكشف عن روائي قد إبداع في جرأة الطرح الفكري ,والثقافي , والإيديولوجي ,و الجنسي , والسياسي, وأول من بدأت معه المواجهة الجريئة التي جرت بين ياقوت, والخائن السيد محسن في الحوار الآتي :-  فقد اعتدت إلا أسيء إلى احد مهما يكن مستواه سوقيا , لكنك تماديت في صلفك ونذالتك ووشيت بأصحابك واهلك وتسببت بمقتل عشرات الشباب الأبرياء والذين ما أرادوا سوى نصرة أهلهم وبلدهم وقول (لا) في وجه الظالم. – ما أنت سوى عاهرة تؤوي مجموعة من العاهرات واللقطاء أيتها الفاجرة.من أنت كي تتكلمي معي بهذه الطريقة؟ – أما أن أكون عاهرة في نظرك , فهذا نابع من أخلاقك وطبائعك التي جبلت عليها, والمداهنة التي أدمنتها حتى انمحت كرامتك واحترامك لنفسك وما زلت تداهن باسم الدين نهارا , وتشرب العرق ليلا , فمثلك يرى الناس كما نفسه[6].

  تميزت رواية بيت السودان  بقدرة الروائي حياوي على قوة السبك ,وربط الموضوعات , والحبكة القوية في تصارع الأحداث التي تصل إلى الذروة ,وشعرية الكتابة حتى أن المتلقي عندما يبدأ بقراءة الرواية  لا يستطيع تركها للتصوير الرائع, والخيال الخصب , وتسلسل الأحداث , وقوة الكلمات الموحية , والحوارات الجميلة0

إن آليات تشكل اللاوعي الاجتماعي تتمحور حول ثلاث آليات اللغة , المنطق, المحرمات الاجتماعية , بحيث تقوم هذه الآليات بنقل جميع الأفكار, والمشاعر, والأعمال, والتصورات المخالفة, وغير المستساغة اجتماعيا , إلى اللاوعي أو اللاشعور, وتمنع وصولها بالتالي إلى الوعي, أو أن تصبح شعورية [7] ,وربما يكون اكبر دليل على ذلك هو ما جاء ذكره للراوي , وهو يصف النساء اللواتي ترى وراء حشمتهن دعوة صامتة إلى الخطيئة, فكانت مشاعرها تختلط عليها ! ايشفق عليهن ؟ أم يحتقر أزواجهن الذين يسيرون كالديوك ,وهم يظنون أنهم يمتلكون دجاجة محتشمة في البيت لم يقربها احد [8],وذات ليلة دخلت خيمتها وكانت تتهيأ للنوم , فداهمتها واحتضنتها بقوة وأنا أتنشق عطرها واقبل كتفيها وزنديها. أما هي, فقد بهتت أول الأمر, لكنها سرعان ما راحت تدفعني عنها وهي تصيح: ابتعد عني يا مجنون 0 ماذا تفعل؟ أرجوك اتكرني0 لكنني كنت متشبثا بها بكل قوتي, حتى سقطنا معا على السرير, فاعتليتها كالمجنون, وأفرجت ما بين ساقيها, ثم فجأة , أمسكت راسي ونظرت إلى عيني , وراحت تربت على خدي وتقول : – اهدأ يا صغيري اهدأ, اهدأ, فانتبهت لنفسي وأنا ارتجف , فخلصت جسدها مني, ووقفت0[9]

وهذا الكلام في عمقه , يضي آفة من الآفات الاجتماعية, والعقد النفسية المستفحلة؟ فحولة الرجل الشرقي تحطمها المرأة الشرقية صمتا ,وفي الخفاء!وكما شكل الجسد الشهوة ,والرغبة في الرواية على لسان الراوي الذي ظهر في مراحل كثيرة من السرد شهوانيا, يرغب بكل امرأة يلتقي بها , فنراه يقول: لزمنا الصمت أنا وعفاف, وبعد قليل, نهضت ياقوت وغادرت الغرفة فوبختني عفاف بشدة, ونهضت وصعدت فوقي , ووضعت يدها حول عنقي من دون أن تطبقهما , شعرت بالحرارة فوق بطني 0 كانت تنظر إلي وقد تخشبت في انتصابتها, ثم راحت تزحزح عجيزتها فوق بطني, وانحنت فوقي حتى لامست قلادتها انفي , وغطى شعرها وجهي , وشعرت بشفتيها الممتلئتين تطبقان على شفتي, ثم سحبت العباءة فوقنا وراحت تنزلق فوقي بحركات متوالية , فحاولت قلبها لكنها رفضت وتشبثت بقوة: اشششش لا تتحرك0 ابق هادئا , استمرت بحركتها حتى فرغت ثم ألقت برأسها فوق صدري[10]0 يحدث كل شيء في العراق على خلفية هذه الأحاسيس. صعود التمرد والمقاومة, الانتفاضة الشعبية , الحصار الاقتصادي الظالم , الاحتلال الأمريكي , سقوط صدام , تنامي نفوذ القوى الإسلامية وأخيرا الانهيار المريع لبنية المجتمع العراقي ومنظومته الأخلاقية حتى تأتي نهاية صادمة تضعنا أمام سؤال جوهره: هل من حد فاصل بين القسوة والجنون [11]؟

المراجع:

[1] الجسد في مرايا الذاكرة : د0 منى الشرافي تيم :129

[2] رواية بيت السودان : محمد حياوي : 104

[3] ينظر مطارحات منهجية حول الأدب والنقد : 41

[4] الايروتيكية  مقال في صحيفة المثقف  : د. وسن مرشد

[5] رواية بيت السودان : 69

[6] م0ن : 61

[7] النظرية النقدية عند اريك فروم : 79

[8] ينظر الجسد في مرايا الذاكرة :143

[9] رواية بيت السودان : 84

[10] م0ن : 91

[11] غلاف رواية بيت السودان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى