ثقافة الهبل

 جميل السلحوت | أديب وروائي فلسطيني – القدس الشرقية

       معنى ثقف في لسان العرب ثَقِفَ الشّيءَ ثَقْفا وثِقافا وثُقُوفةً حَذَقَه ورجل ثَقْفٌ “* قوله « رجل ثقف » كضخم كما في الصّحاح وضبط في القاموس بالكسر كحبر” وثَقِفٌ وثَقُفٌ حاذِقٌ فَهِم وأَتبعوه فقالوا ثَقْفٌ لَقْفٌ، وقال أَبو زيادٍ رجل ثَقْفٌ لَقفٌ رامٍ راوٍ اللحياني رجل ثَقْفٌ لَقْفٌ وثَقِفٌ لَقِفٌ وثَقِيفٌ لَقِيف بَيِّنُ الثَّقافةِ واللَّقافة، ابن السّكّيت رجل ثَقْفٌ لَقْفٌ إذا كان ضابِطا لما يَحْوِيه قائما به، ويقال ثَقِفَ الشّيءَ وهو سُرعةُ التّعلم، ابن دريد ثَقِفْتُ الشّيءَ حَذَقْتُه وثَقِفْتُه إذا ظَفِرْتَ به قال اللّه تعالى:” فإِمَّا تَثْقَفَنَّهم في الحرب” وثَقُفَ الرّجلُ ثَقافةً أي صار حاذِقا خفيفا، مثل ضَخُم فهو ضَخْمٌ ومنه المُثاقَفةُ، وثَقِفَ أَيضا ثَقَفا مثل تَعِبَ تَعَبا أَي صار حاذِقا فَطِنا فهو ثَقِفٌ وثَقُفٌ، مثل حَذِرٍ وحَذُرٍ ونَدِسٍ ونَدُسٍ، ففي حديث الهِجْرةِ وهو غلام لَقِنٌ ثَقِفٌ أَي ذو فِطْنةٍ وذَكاء، والمراد أَنه ثابت المعرفة بما يُحتاجُ إليه، وفي حديث أُمّ حَكِيم بنت عبد المطلب:” إنّي حَصانٌ فما أُكَلَّم، وثَقافٌ فما أُعَلَّم”، وثَقُفَ الخَلُّ ثَقافةً وثَقِفَ فهو ثَقِيفٌ وثِقِّيفٌ بالتّشديد الأَخيرة على النّسب حَذَقَ وحَمُضَ جِدًّا، مثل بَصَلٍ حِرِّيفِ قال وليس بحَسَنٍ، وثَقِف الرّجلَ ظَفِرَ به، وثَقِفْتُه ثَقْفاً مِثالُ بلِعْتُه بَلْعاً أَي صادَفْتُه، وقال فإمّا تَثْقَفُوني فاقْتُلُوني فإن أَثْقَفْ فَسَوْفَ تَرَوْنَ بالي، وثَقِفْنا فلانا في موضع كذا أَي أَخَذْناه ومصدره الثِّقْفُ وفي التنزيل العزيز:”واقْتُلوهم حيثُ ثَقِفْتُموهم” والثَّقاف والثِّقافةُ العمل بالسّيف، قال: وكأَنَّ لَمْعَ بُرُوقِها في الجَوِّ أَسْيافُ المُثاقِفْ

    وفي الحديث إذا مَلَكَ اثْنا عَشَرَ من بني عمرو ابن كعب كان الثَّقَف (* قوله “كان الثقف” ضبط في الأصل بفتح القاف وفي النهاية بكسرها) والثِّقافُ إلى أَن تقوم السّاعة، يعني الخِصامَ والجِلادَ، والثِّقافُ حديدة تكون مع القَوَّاسِ والرَّمّاحِ يُقَوِّمُ بها الشيءَ المُعْوَجَّ. وقال أَبو حنيفة: الثِّقافُ خشبة قَويّة قدر الذِّراع في طرَفها خَرق يتسع للقَوْسِ، وتُدْخَلُ فيه على شُحُوبتها، ويُغْمَزُ منها حيث يُبْتَغَى أَن يُغْمَزَ حتى تصير إلى ما يراد منها، ولا يُفعل ذلك بالقِسِيّ ولا بالرّماح إلا مَدهُونةً ممْلُولةً أَو مَضْهوبةً على النّار مُلوّحة، والعَدَدُ أَثْقِفةٌ والجمع ثُقُفٌ، والثِّقافُ ما تُسَوَّى به الرِّماحُ ومنه قول عمرو بن كلثوم: إذا عَضَّ الثِّقافُ بها اشْمَأَزَّتْ تَشُجُّ قَفا المُثَقِّفِ والجَبِينا

وتَثْقِيفُها تَسْوِيَتُها، وفي المثل دَرْدَبَ لمَّا عَضَّه الثِّقافُ، قال الثِّقاف خشبة تسوَّى بها الرّماح، وفي حديث عائشة تَصِفُ أَباها رضي اللّه عنهما وأَقامَ أَوَدَه بِثِقافِه الثِّقافُ ما تُقَوَّمُ به الرِّماحُ، تريد أَنّه سَوَّى عَوَج المسلمين، وثَقِيفٌ حَيٌّ من قَيْس وقيل أَبو حَيٍّ من هَوازِنَ، واسمه قَسِيٌّ، قال وقد يكون ثقيف اسما للقبيلة والأَول أَكثر.

معنى ثقف في  الصّحاح في اللغة ثَقُفَ الرّجل ثَقْفا وثَقافَةً، أي صار حاذقا خفيفا فهو ثَقْفٌ. ومنه المُثاقَفَةُ. والثِّقافُ: ما تُسَوَّى به الرّماحُ. وتَثْقيفُها: تسويتها. وَثَقِفْتُهُ ثَقْفا، أي صادفتُهُ. قال الشّاعر:

 فإمَّا تَثْقَفوني فاقْـتُـلـونـي  فإنْ أُثْقَفْ فسوف تَرَوْنَ بالي

 وَثَقِفَ أيضا ثَقَفا، مثال تَعِبَ تَعَبا: لغةٌ في ثَقُفَ، أي صار حاذقا فطنا، فهو ثَقفٌ وثَقُفٌ. ابن الأعرابي: خَلٌّ ثِقِّيفٌ بالتشديد أي حامضٌ جدا، مثال: قولك بصلٌ حِرِّيف.

مكوّنات الثقافة

تتكوّن الثّقافة وتتبلور من خلال مكوّنات عدّة، أبرزها

  • الأفكار: هي مجموعة النّتائج التي يتوصل لها العقل بعد التّفكير والتّمحيص الطّويل للمعلومات التي تلقاها.
  • العادات والتّقاليد: وهي الأسلوب المتّبع لدى أيّ أمة أو شعب في الحياة الاجتماعيّة وقوانينها.
  • اللغة: وهي مجموعة الحروف والرّموز التي يتمكّن أفراد المجتمع من خلالها من التّواصل فيما بينهم، وتنقل كلّ ما يتعلّق بهم لمن بعدهم.
  • القانون: وهي مجموعة الأحكام التي تضبط المجتمع وتحميه من الدّاخل والخارج.
  • الأعراف: هي مجموعة الأحكام والضّوابط التي تعارف عليها مجتمع ما؛ فأصبحت بمثابة القانون يلتزمون بها التزاما كاملا؛ بحيث تكون هذه الأعراف عونا للقانون في منع الجريمة والانحراف والمساعدة على نشر الفضيلة والخير.

الثّقافة الشّعبيّة:

 تعريف الثقافة الشّعبيّة حسبما ورد في الموسوعة الحرّة”وكيبيديا”:

          “هي كلّ الأشكال التّعبيريّة المنطوقة التي تختزنها الذّاكرة الشّعبيّة. وتشمل هذه الثّقافة الشّعبيّة: الموروث السّرديّ (الحكايات، والخرافات…) ، والحكم والأمثال الشّعبيّة وغيرها من فنون التّعبير الأخرى. وهي مجموع العناصر التي تشكّل ثقافة المجتمع المسيطرة في أيّ بلد أو منطقة جغرافيّة محدودة، غالبا باستخدام طرق إعلام شعبيّة. تنتج هذه الثّقافة من التّفاعلات اليوميّة بين عناصر المجتمع، إضافة لحاجاته ورغباته التي تشكّل الحياة اليوميّة للقطاع الغالب من المجتمع. هذه الثّقافة تتضمّن الممارسات وعادات الطّبخ والمأكولات والثّياب والإعلام ونواحي التّسلية المستخدمة، إضافة للرّياضة والأدب. وغالبا ما يستخدم مصطلح ثقافة شعبيّة كمصطلح مضادّ ومخالف للثّقافة العليا أو النّخبويّة.”

معنى الهبل:

     جاء في معجم المعاني الجامع: هبل الشّاب: أي فقد عقله وتمييزه، واستهبل: تظاهر بالجنون، أو تظاهر بالحمق والغفلة.

وقياسا عليه، استهبل فلان فلانا: أي اعتبره أحمقَ غافلا.

منابع الثّقافة العربيّة:

        يقول الدّكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري:(تتّسم الثّقافة العربيّة الاسلاميّة أساسا بسمتين اثنتين، سمة الثّبوت فيما يتعلّق بالمصادر القطعيّة، بما جاءت به من تشريعات وقيم ومناهج، وسمة التّغيير فيما يتعلق باجتهادات المسلمين القابلة للصّواب والخطأ). -الثّقافة العربيّة والثّقافات الأخرى، منشورات المنظمة الاسلاميّة للتّربية والعلوم والثّقافة-ايسيسكو-الطبعة الثّانية، 1436هجرية\2015م.-

          ومن أهمّ خصائص الثّقافة العربيّة في عهود الاسلام الأولى (أنّها امتزجت بالثّقافات الأخرى التي كانت سائدة في عهود الاسلام الأولى، وتفتّحت لعطاء الأجناس والأقوام وأهل الدّيانات والعقائد التي تعايشت مع المجتمع العربيّ الاسلاميّ، فصارت بذلك ثقافة غنيّة المحتوى، متعدّدة الرّوافد، متنوّعة المصادر، لكنّها ذات روح واحدة، وهويّة متميّزة متفرّدة.)-المصدر السّابق-.

        ويلاحظ هنا أنّ الثّقافة العربيّة في عهودها الأولى ارتكزت على الثّابت في العقيدة الاسلاميّة التي مصدرها القرآن الكريم والسّنة النّبويّة الشّريفة، وتزاوجت مع  ثقافات الشّعوب الأخرى، وقد استفادت من الحضارات الأخرى كالاغريقيّة، والفارسيّة، والبابليّة، والهنديّة، والفرعونيّة. ومعروف أنّ التّزاوج الثّقافيّ يثري أيّ ثقافة، ويرفدها بخبرات وتجارب وثقافات شعوب أخرى، ممّا يقود إلى العلوم والاختراعات وغيرها، وفي عصرنا هذا لعلّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي يشكّل شعبها مزيجا من مختلف الأجناس البشريّة التي هاجرت إلى العالم الجديد، وما صاحب ذلك من تطوّر لافت على مختلف الأصعدة، الذي وضع أمريكا في قيادة العالم جميعه، تشكلّ نموذجا لمعنى تزاوج الثّقافات، مع التّأكيد على أهمّيّة الدّستور الأمريكيّ الذي ضمن المساواة والحرّيّات لمواطني أمريكا جميعهم.

        ويجدر التّنويه هنا إلى أنّ الدّولة العربيّة الاسلاميّة لم تكن دولة دينيّة، وقد ضمنت حقّ المواطنة لرعاياها جميعهم، بغضّ النّظر عن أصولهم العرقيّة أو معتقداتهم الدّينيّة، قال عليه الصّلاة والسّلام: ” لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلا بالتّقوى“، وأعطت لمواطنيها من المسيحيّين واليهود حرّيّة العبادة كما يعتقدونها، قال تعالى :” لا إكراه في الدّين“، كما أباح للمسيحيّين في مصر على سبيل المثال صناعة الخمور واحتسائها في أماكن تواجدهم، شريطة أن لا يبيعوها في مناطق المسلمين.

       ولا يمكن للباحث والدّارس للتّاريخ العربيّ الاسلاميّ أن يغفل الثّقافة العربيّة قبل الاسلام، والتي تمتدّ جذورها حتّى يومنا هذا، وترتكز على استقلاليّة العشيرة والقبيلة، وعلى الغزو والنّهب، والولاء الأعمى لشيخ القبيلة، حتّى إنّ مفهوم الدّولة في أيّامنا هذه لا يزال غير راسخ في عقول الكثيرين، بل إنّ غالبيّة دولنا العربيّة تقوم على أساس تحالفات قبليّة، فالدّولة المدنيّة التي يخضع مواطنوها للقانون، لا فرق بين حاكم ومحكوم لا تزال بعيدة المنال، وهناك علامات سؤال كبيرة حول استقلاليّة القضاء ونزاهته، ومدى حماية السّلطة التنفيذيّة للقانون، وتطبيق أحكام القضاء، ومن يحاول الهروب من هذه الحقائق نطلب منه أن يفسّر لنا بعض الظّواهر التي تؤكد استمراريّة إرث ما قبل الإسلام مثل: النّعرات العشائريّة وسيادة العرف العشائريّ، عادات الأخذ بالثّأر، قتل النّساء تحت ذريعة ما يسمّى “شرف العائلة”، وتساهل القضاء مع القتلة وغير ذلك، أليست كلّها أعرافا وقيما وثقافة موروثة من الجاهليّة، وما تمثّله من “وحشيّة عقليّة الصّحراء” كما وصفها ابن خلدون في مقدّمته؟

      لكنّ الثّقافة العربيّة الإسلاميّة التي انفتحت على الثّقافات الأخرى، وأنتجت علوما وبنت حضارة كان لها انعكاساتها الإيجابيّة على أوروبا وغيرها، توقّفت – مع الأسف- عن التّطوّر والازدهار والتّأثير والتّأثّر منذ القرن الخامس عشر الميلاديّ، وسلّمت الرّاية للأوروبّيين الذين استفادوا من العلوم والحضارة العربيّة وبنوا عليها، حتّى وصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن، فهل ينتبه العرب والمسلمون أنّهم لم ينتجوا ثقافة بعد ابن خلدون  1332 – 1406م؟ ونستثني هنا المفكّر ادوارد سعيد – نوفمبر 1935 القدس – 25 سبتمبر 2003- الذي أمضى حياته في أمريكا. وهل يسألون أنفسهم عن مدى مساهمتهم في الثّورة العلميّة والتّكنولوجيّة التي شهدها العالم في القرن العشرين، ولا تزال في ازدهار وتطوّر مذهل؟

      وفي القرن العشرين أتت سنوات السّبات العقليّ والفكريّ أكلها وبالا على الأمّة، فتجمّدت العقول، ولم تواكب الأمّة عصرها، فانقسم العرب إلى أقاليم ودويلات، لم تخلُ من الخلافات التي كانت تصل درجة الاحتراب، وتشتّتت الأمّة، وأصبحت نهبا للطّامعين والغزاة. ودخلنا القرن الحادي والعشرين متخلّين عن الأصالة، تتحكّم بنا الخرافات والبِدَع. وإمعانا في الخراب على مختلف المستويات، لم يتطوّر التّعليم في مختلف مراحله، ولم يواكب الثّورة العلميّة والتّكنولوجيّة التي يعيشها العالم، ولا نزال منغلقين على ثقافات وحضارات الشّعوب والأمم الأخرى، ومن المحزن ما نشرته منظمة الأمم المتّحدة للتّربية والعلوم والثّقافة “اليونسكو” قبل سنوات قليلة حول المطالعة في العالم، حيث قالت أنّ الفرنسيّ يطالع بمعدّل 280 ساعة في السّنة، والأمريكيّ 260 ساعة و….العربيّ ستّ دقائق في السّنة، وأنّ ما ترجم إلى اللغة الاسبانيّة من لغات أخرى في عام، يعادل ما ترجم إلى العربيّة من عصر المأمون -171-218 هجري- حتّى يومنا هذا! وتشير الإحصائيّات أيضا أنّ حوالي 100 مليون عربي يعانون من الأمّيّة، وهذا الجهل يشكّل مرتعا خصبا للجهل والخرافة، وهو أيضا سبب في ترسيخ العشائريّة والقبليّة وثقافة الصّحراء المعاديّة للحضارة.

       واللافت وفي مرحلة التّردي التي يعيشها العالم العربيّ، أنّه جرى تعطيل العقول، وإغلاق باب الاجتهاد، وتحويل المتغيّر إلى ثابت، والتّعامل مع النّصوص القديمة التي كتبها بشر عاديّون وكأنّها مقدّسة، مع التّأكيد أنّ الثّابت في العقيدة دينيّا هو القرآن الكريم والسّنّة النبويّة، ولا شيء غيرهما، وصاحَبَ هذا الجمود العقليّ والفكريّ انتشار الخرافات، التي بات البعض – نتيجة للجهل- يعتبرها وكأنّها من أمور الدّين، وبدلا من مواكبة العلوم والمستجدّات الحياتيّة، يجري تكريس الجهل والخرافة، وما صاحب ذلك من انغلاق على الثّقافات الأخرى، حتّى خرجت الأمّة من التّاريخ، وأصبحت على الهامش، لا تأثير لها، بل أصبحت هي وأوطانها نهبا للطّامعين، وتوالت الهزائم على مختلف الأصعدة، وعمّ الضّلال وتغيّرت المفاهيم، حتّى إنّ ملايين من البشر صاروا يهربون من الحياة وتكاليفها، ولم يعد لهم همّ سوى الاستعداد للموت، والاقتصار على العمل لحياة ما بعد الموت.

        وإمعانا في الجهل فإنّ خطباء المساجد على سبيل المثال في غالبيّتهم العظمى، يقفون على المنابر ويخطبون بلهجة تهديديّة، وكأنّهم في معركة مع المصلّين، وغالبيّة الخطب تكون مكرّسة لترهيب المصلّين من نار جهنّم، حتّى إنّ المرء الذي ينتبه لهذه الخطب بات يظنّ أنّ نار جهنّم لم تخلق إلا لتعذيب المسلمين وحرقهم، وقلّة قليلة من الخطباء من تتكلّم عن الثّواب مثلا.

     أمّا كيفيّة التّعامل مع الحياة الدّنيا التي يعيشها المرء، فتكاد تكون معدومة، وهذا ليس غريبا في هذا العصر الذي يعيشه العرب والمسلمون، والذي يسود فيه الجهل في أمور الدّين والدّنيا، فخطباء المساجد هم أيضا ضحايا للجهل السّائد، وعلينا الانتباه أنّ غالبيّة من يلتحقون بكلّيّات الشّريعة هم من أصحاب المعدّلات المتدنّية في الثّانويّة العامّة”التّوجيهي”. كما علينا الانتباه أيضا أنّ جزءا من خطباء المساجد ليسوا مؤهلّين للقيام بهذه المهمّة، لكنّ الثّقافة الشّعبيّة تتعامل معهم كعلماء! وهذا استهبال لهم ولجمهور العامّة.

     وعندما ظهرت حركات وأحزاب “الاسلام السّياسيّ” زادت الطّين بلّة، فعدا عن الصّراعات بينها والتي تصل إلى درجة الاستهزاء، وأحيانا تصل درجة التّكفير، إلا أنّها أخذت تجنّد أئمّة المساجد وجمهور المواطنين؛ لخدمة الهدف السّياسيّ لهذه الحركة أو ذلك الحزب الدّينيّ، ظنّا منهم أنّهم يجنّدون النّاس لنصرة الدّين، أو ما باتوا يسمّونه منذ الرّبع الأخير في القرن العشرين “بالصّحوة الاسلاميّة“! وطمعا من حركات وأحزاب الاسلام السّياسيّ في الوصول إلى الحكم في أكثر من بلد عربيّ فقد استغلّوا العاطفة الدّينيّة الفطريّة للعامّة، وأعلنوا “الجهاد” على شعوبهم! وكانت البداية في الجزائر، حيث تمّ قتل ما يزيد على مائتي ألف مواطن جزائريّ، منهم أطفال ونساء، وجرح مئات الألوف، واغتصاب آلاف النّساء ما بين 1992-2002 فيما يسمّيه الجزائريّون العشريّة السّوداء، عدا عن الخسائر المادّيّة الهائلة التي لحقت بمؤسّسات الدّولة الجزائريّة والتي هي مؤسّسات الشّعب نفسه.

      ثمّ توالت “الصّحوة الاسلاميّة”! حتّى وصلت وبقرار من القيادة العالميّة لحركة الإخوان المسلمين إلى مرحلة انقلاب حركة حماس في قطاع غزّة، عام 2007 لإقامة “إمارة اسلاميّة”، ولم يأخذوا بعين الاعتبار أنّ قطاع غزّة محاصر برّا وبحرا وجوّا مثله مثل بقيّة أراضي الدّولة الفلسطينيّة العتيدة، كما لم يحسبوا أيّ حساب لحوالي مليوني شخص يعيشون في مساحة تقلّ عن 400 كيلومتر، ويشكّلون أعلى نسبة اكتظاظ سكّانيّ في العالم، يعيشون في غالبيّتهم العظمى تحت خطّ الفقر، ولم يكترثوا بالنّتائج الكارثيّة على مجمل النّضال الفلسطينيّ للتّحرّر والاستقلال، وكأنّ الاستيلاء على سلطة تحت الاحتلال أهمّ من تحرير الأراضي المحتلّة، ومن حقّ تقرير المصير للشّعب الفلسطينيّ، والمحزن أن يحظى هذا الانقلاب بغطاء دينيّ ممّن لا يخافون الله، ويستهبلون الشّعوب.

        واستهبال النّاس بغطاء دينيّ ليس جديدا على السّاحة الدّوليّة، فالدّول الغربيّة التي كانت تناصب الاتّحاد السّوفييتي العداء، استطاعت تجنيد المسلمين للوقوف معها فيما كان يعرف “بالحرب الباردة”، وأطلقت على المسلمين لقب” السّور الواقي من خطر الشّيوعيّة”! فاهتزّت لحى وعمائم كثيرة طربا بهذا اللقب، وتحالفت مع القوى الامبرياليّة التي تحتلّ أوطانهم وتنهب خيرات بلدانهم، وناصبوا السّوفييت العداء، ومع أنّ الدّول العربيّة على سبيل المثال التي حاربت إسرائيل كان سلاحها من الاتّحاد السّوفييتي، بينما إسرائيل حاربت العرب واحتلّت أراضيهم بسلاح غربيّ، ومع ذلك فإنّ الشّتائم انهالت ولا تزال على الاتحاد السّوفييتي “الكافر”، وفي المقابل تنهال المدائح على حلفاء اسرائيل “أصحاب الكتاب” المؤمنين!

      عندما أرادت أمريكا وحلف النّاتو محاربة الاحتلال السّوفييتي في أفغانستان ” من 25 ديسمبر 1979. وانسحبت القوات السوفييتية من البلاد بين 15 مايو 1988 و2 فبراير 1989. وأعلن الاتحاد السوفييتي انسحاب كافّة قواته بشكل رسميّ من أفغانستان في 15 فبراير 1989.” جنّدت المسلمين لهذه الحرب، وكان غالبيّة “المتطوّعين” من العرب، وتمّ تأسيس منظّمة “القاعدة” من قبل أسامة بن لادن، وجرى تسليح وتدريب وتمويل “المجاهدين” من قبل دول عربيّة وبأوامر أمريكيّة، وبعد الانسحاب السّوفييتي عاد “المجاهدون” للقيام بأعمال ارهابيّة في بلدانهم وضدّ مواطنيهم، عدا عن قيامهم بتفجيرات في عواصم عربيّة وأوروبّيّة وتدمير برجي التّجارة الدّوليّة في نيويورك بتاريخ 11 سبتمبر 2001، ممّا دفع العالم أن يتجنّد لمحاربة الاسلام والمسلمين.

      ولم ينتبه الإسلام السّياسيّ كيف انقلب العالم الغربيّ على المسلمين، فبدلا من “كونهم الجدار الواقي من خطر الشّيوعيّة”، أصبحوا وبعد انهيار الاتّحاد السّوفييتي ومجموعة الدّول الاشتراكيّة في بداية تسعينات القرن العشرين، العدوّ رقم واحد للعالم الغربيّ و”للدّيموقراطيّات الغربيّة”! فهل اتّعظ العرب والمسلمون من ذلك؟ والجواب بالطّبع لا كبيرة، فعندما بنت أمريكا وحلفاؤها وفي مقدّمتهم بريطانيا أكاذيبها لاحتلال العراق وتدميرة وتمزيقه، رفعت شعار “تحرير العراق من الدّيكتاتوريّة”، وتجنّدت أنظمة عربيّة لفتح أراضيها لقوّات الغزو الأمريكيّ، التي انطلقت في شهر آذار – مارس- 2003 من أراض عربيّة، وبنفط وتمويل عربيّ، فاحتلّت العراق، ودمّرته، وهدمت الدّولة العراقيّة، وقتلت وجرحت وشرّدت الملايين من أبناء الشّعب العراقيّ، وسلّمت العراق لأحزاب طائفيّة، يقودها مجموعة من اللصوص والسّراق؛ ليبقى العراق في احتراب طائفيّ تمهيدا لتقسيمه إلى دويلات طائفيّة متناحرة، حسب المشروع الأمريكي “مشروع الشّرق الأوسط الجديد” لإعادة تقسيم المنطقة، ووجدنا مشايخ يفتون ويهلّلون للغزو الأمريكيّ، ولا يزالون يفتون لتغذية الاحتراب الطائفيّ بين أتباع المذهبين السّني والشّيعيّ، ويتقاتل الطّرفان بتمويل وتسليح مسلم، وبإرادة وأوامر أمريكيّة، وبفتاوي من مشايخ لا يخافون الله.

     وفي العام 2011 وفي ظلّ ما يسمّى زورا “الرّبيع العربيّ” جرى تجنيد الاسلام السّياسيّ لإسقاط نظام الرّئيس معمّر القذّافي في ليبيا، وتدخّلت مخابرات دول عربيّة بإيعاز من أمريكا، كما تدخّل حلف النّاتو، واستطاعوا إسقاط نظام القذّافي الذي تمّ قتله في 20 اكتوبر 2011، ولتبقى ليبيا حتّى يومنا هذا في صراع دمويّ دمّر البلاد وفتك بالعباد، تقوده تنظيمات إسلاميّة ومنها داعش. وفي استهبال واضح أجاب مصطفى عبد الجليل وزير العدل الليبيّ الأسبق في مقابلة تلفزيونيّة على سؤال:

هل جرى تنسيق مسبق بينكم وبين فرنسا وحلف النّاتو تمهيدا للقصف الجوّيّ للجيش الليبيّ الموالي للقذافي؟

أجاب عبد الجليل: لا أبدا لم يحصل ذلك.

سؤال: إذن كيف تمّ ذلك القصف؟

عبدالجليل: لقد سخّرهم الله لنا!

              وفي العام 2012 انتقل الصّراع إلى سوريّا، وهناك مئات التّنظيمات “الإسلاميّة” ومنها داعش، وجرى تجنيد عشرات آلاف “المتطوّعين” من أكثر من تسعين دولة، لتدمير سوريّا وقتل وتشريد شعبها، واستنزاف جيشها، ومع أنّ الرّئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب قال في أكثر من تصريح أنّ إدارة الرّئيس السّابق باراك أوباما، والمخابرات الأمريكيّة هي التي أسّست داعش، وأكدّت ذلك أيضا هيلاري كلينتون وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة السّابقة، وأوعزت إلى وكلائها في دول البترول العربيّ، وإلى تركيّا أردوغان “المسلمة” والعضو الفاعل في حلف “النّاتو” لتدريب وتمويل داعش وأخواتها، إلا أنّ هذه المنظّمات الإرهابيّة استطاعت استهبال آلاف الرّعاع وتجنيدهم من مختلف الدّول العربيّة والإسلاميّة، وحتّى من مسلمي أوروبا وأمريكا، تحت غطاء عباءة الدّين، وفتاوي “علماء السّلاطين” لقتال من يسمّونهم ” الخوارج والشّيعة والعلويّين…إلخ.” لتدمير سوريا وقتل وتشريد شعبها، واستنزاف جيشها.

     ورغم ظهور بعض قادة المعارضة السّورية في وسائل الاعلام الإسرائيليّة، أثناء زياراتهم لاسرائيل للتّنسيق معها، وإعلانهم الولاء لها، واستقبال إسرائيل لجرحى المعارضة من “جبهة النّصرة” وغيرها، إلا أنّ ذلك لم يلفت انتباه جهلاء وقود هذه الحرب القذرة، والذين يَقتلون ويُدمّرون ويمنّون النّفس بالحور العين، ويُقتلون أيضا، ولم يفكّر أو يتساءل واحد من هؤلاء عن أسباب عدم مشاركة أيّ من محرّضيهم، ومن يصدرون لهم الفتاوى أو من أبنائهم للمشاركة في هذا “الجهاد”! تماما مثلما لم ينتبهوا أنّ أيًّا من الأنظمة المموّلة والمدرّبة لهم، ويزعم أنّه يريد نشر “الدّيموقراطيّة” في سوريّا، في حين يحكم شعبه بالحديد والنّار، فهل فاقد الشّيء يعطيه؟ وإلى متى ستبقى الشّعوب قانعة باستهبالها؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى