السيرة الغيرية في كتاب ( لكي لا تنكسر مساحة البياض): جاسم عاصي

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي


تشكل السير الغيرية عند الأستاذ (جاسم عاصي) سلسلة من الأحداث المكتوبة التي تتحدث عن حياة الشعراء ,والأدباء في مدينة الناصرية , والشخصيات المغمورة من الطبقات الفقيرة ,والكادحة في كتابه ( لكي لا تنكسر مساحة البياض) على شكل سرد يعبر زمنياً من خلال مراحل حياتهم ، ويتميز بالعديد من الخصائص، أهمها تشابه السير الغيرية عندهم إلى حد كبير، إذ يسرد أحداث الشعراء ,والأدباء بدءًا من الولادة، ثم ينتقل إلى الجزء الأوسط من حياتهم، لتنتهي بأخر محطة من محطاتهم , و يركز عاصي على التجارب ,والأحداث الرئيسة في حياتهم ، فهو سرد قصصي انتقائي لبعض جوانب حياتهم ,ولا تحتوي على التحريف ,أو المعلومات المغلوطة المتعلقة بحياتهم , وينقل لنا عاصي قصة الأستاذ (بدري قمر) بالتفصيل الكامل, فنراه يقول : ولد الأستاذ بدري قمر عام 1918 في الناصرية أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة , تخرج من دار المعلمين عام1943 وبالرغم من اختصاصه معلم للتربية الرياضية, فقد تركه للتفرغ والابتكار في تدريس الصف الأول , والسير الغيرية تحتاج إلى وقت وجهد أكبر من كتابة السير الذاتية ,لأنها تتحدث عن شخصيات حقيقية, وليست من وحي الخيال، إذ لا يمكن إدخال جوانب خيالية إليها ,وكتابة السير الغيرية فن أدبي يتكفّل فيه الأستاذ (جاسم عاصي) برواية أحداث حياة بعض الشخصيات المتنوعة من مدينته الناصرية , والتي يكتب عنهم ، ويجري التركيز فيها على المجال الذي تتميّز فيه شخصياتهم الحيوية، كأن يكون المجال الفني ,أو الاجتماعي , أو الأكاديمي , أو الشعري كلّما كان ذلك ضرورياً وممكناً، ويسعى في ذلك لانتخاب حلقات معيّنة مركّزة من سيرة حياتهم ، وحشدها بأسلوبية خاصّة تضمن له صناعة نص سردي متكامل ذي مضمون مقنع ومثير ومسلٍّ، كما هو الحال في الحديث عن الشاعر (قيس لفته مراد) رحمه الله , فنراه يقول : الشاعر العصامي من الرهط الذي اعتمد على فطرته المنتجة لموهبته , والعامل بدأب على تطوير إمكانياته الأدبية , والذي عمل على احتضان شلة من الأدباء , وساهم في تطوير معارفهم انه مثقف وأديب شمولي فقد كتب الشعر , وشعر التصوف حصرا , ودأب على أنتاج النص المسرحي الشعري والنثري ورسم وأنتج لوحات انطباعية مهمة آنذاك انه الأديب العصامي قيس لفته مراد , ويحاول عاصي الإفادة من كلّ الآليات السردية لتطوير نصّه, ودعمه ما أمكن بأفضل الشروط الفنيّة.

والسير الغيرية عند المبدع (جاسم عاصي) لاَّ تخلّ بالطابع العام حتى لا يخرج النص عنده إلى فن سردي آخر، ولا يُشْتَرَطُ على الكاتب الاعتماد على الضمير الأوّل المتكلّم، بل قد ينتقع بضمائر أخرى تخفّف من حدّة ضمير المتكلّم وانحيازه، بشرط أن يعرف المتلقي ذلك لكي تتحوّل إلى سير غيريّة، بحيث يظلّ الميثاق التعاقدي بين عاصي , والمتلقي قائماً ,وواضحاً، كما يرتكز الكاتب على آلية السرد ألاسترجاعي ويقوم بتفعيل عمل الذاكرة ,وشحنها بطاقةِ استنهاض حرّة ,وساخنة للعمل في حقل السير الغيرية حتى يجسدها في كتابه المتميز, وهو يتحدث عن صاحب المقهى المشهور في زمنه ( عزران البدري ) فنراه يقول :لم يكن مقهى عزران سوى مكان تتداوله الذاكرة الفردية التي تستمد مكوناته من الذاكرة الجمعية , فقد توفر رواة تمكنوا من المحافظة على بنية ما كان يعيشه العامة في مدينة صغيرة كالناصرية ,التي تغيرت أسماؤها وفق توصيفات التاريخ والشخصيات والإحداث , وعزران لا يختلف عن قاطني المدينة سوى في شدة اهتمامه بالآخر الذي أسس على وجوده مفاهيمه وأفكاره , والسير الغيرية عند الكاتب من أقدم أشكال التعبير الأدبي، والتي تسعى إلى إعادة تشكيل حياة الأدباء ,والشعراء في مدينة الناصرية , ومن خلال كتابة العاصي عن طريق المنظور التاريخي ,أو الشخصي للمؤلف، إذ يعتمد على جميع الأدلة المُتاحة؛ كالأدلة المحفوظة في الذاكرة، أو المكتوبة، أو الشفهية، فضلا عن المواد التصويرية, وهذا ما قام به العاصي في الحديث عن (كريم الزهيري) الشخصية المعدمة في مدينة الناصرية , اذ يروي لنا سيرته الغيرية , وكيفية الوصول إليه من خلال الأحداث, والعقبات التي كانت في طريقه قبل الكتابة عنه ,فنراه يقول : يدور 00 يدور في أسواق المدينة , تقوده أمه الطاعنة في السن, يدوران على غير هدى , تتحكم في دورانهم العادة اليومية و اختراق الزمن باللامعنى , يجمعا من هذا الدكان , أو تلك الأكوام من النفايات , بقايا الأطعمة والعلب الفارغة , ثم يحشروها في صرة صغيرة , سرعان ما تكبر بتقادم الزمن اليومي , تكبر كلما بلغ الزمن اليومي جريانه يبقان هكذا , حتى تبدأ الشمس بالمغيب, وتمتلك الكتابة السيرية سحرا خاصا يجعلها تنفرد بين أنواع السرود الأخرى بامتلاكها خاصيتي الذاتي ,والموضوعي بكفين متوازتين , الذاتي حين تتطابق هوية الكاتب مع السارد , والموضوعي حين تفترق أنا الكاتب , وتحتجب خلفها الشخصية ,وتستتر بظلها لتبرز هوية السارد واضحة الشخصية , والهوية الأولى الذاتية هي التي تميز السير الغيرية ,والسير بنحو عام , والمذكرات , عن الرواية طبقا لتقسيم تودوروف وتصنيفه, تميز الكاتب والناقد المتألق ( جاسم عاصي ) بسرد الأحداث الماضية بصورة شعرية ,وشاعرية, وعلى شكل صورا فوتوغرافية بأسلوبه المتميز على الكتابة ,والسرد, وكان يمارس النقد الفني في كتابته للسير الغيرية من خلال طرحه الآراء,ومناقشتها بصورة نقدية متميزة, يعرفها الناقد الحاذق ,والمتلقي المتذوق للنصوص السيرية المكتوبة, ونظرا لعدم القدرة على التمييز العلمي إلى الآن بين مصطلحات متعددة يقال عنها أنها تنتمي إلى عائلة واحدة , هي السيرة, أو أنها أجناس أدبية صغرى متفرعة من جنس أدبي كبير, مثل التجربة الذاتية أو الترجمة, والسيرة الذاتية , والذكريات , والمذكرات , واليوميات , والاعترافات , وغيرها الكثير من المصطلحات التي تشترك بكونها سردا لحياة شخص يرويها هو بنفسه- وربما يتبرع له آخر بروايتها نيابة عنه كما في السير الغيرية التي سردها لنا الأستاذ ( جاسم عاصي) في كتابه انف الذكر – معتمدا على ذاكرته في استرجاع أحداث وموضوعات ماضية , فيروي لنا بعض من سيرته الذاتية , مما جعله يقع في الخلط , والتناقض بين السير الغيرية , وسيرته الذاتية , وهو يروي لنا سيرة صديقه ( حسين جني) فنراه يقول : فحين شب عودي , وغدوت معلما يشار له بالبنان من قبل محبي المراكز الاجتماعية والوظيفية حاولت أن احتل الأرائك المتقدمة من واجهة مقهى التجار التي هي أشبه بقطار اصطفت قاطراته على بعضها , فأصبح مفتوحا بشهية واسعة إلى كل الاتجاهات في السوق متناظرا في موقعه مع زاوية مغازة السيد علي ,و السير الغيرية حياة أشخاص تم كتابتها بواسطة شخص آخر وهو الكاتب ،وهي شكل من أشكال الأدب، والتي تعد عادةً غير خيالية، ويتمحور موضوعها حول حياة الشخصيات المراد الكتابة عنها , وأخيرا نقول إن الروائي والناقد ( جاسم عاصي) قد جسد لنا أحداث الماضي بطريقة شيقة , معبرة عن مدى ثقافته الواسعة , وقدرته النقدية على استعمال التقنيات الحداثوية في الكتابة ,والتعبير, فضلا عن أسلوبه الأدبي, واختياره الكلمات الرشيقة ,وقد روى لنا السير الغيرية لبعض الشخصيات من مدينة الناصرية , وقد قسمها إلى أنواع عدة ,النوع الأول أطلق عليه (نخب القاع ),وهي الشخصيات المعدمة, والنوع الثاني أطلق عليه (نخب الوسط ),وهي الشخصيات التي تمارس المهن والأدب, والنوع الثالث أطلق عليه (نخب السطح), وهي الشخصيات المثقفة في المدينة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى