هبّة أيار – انتصار الشعب وهشاشة الحالة الفلسطينية

بقلم: أمير مخول 

اللوحة للفنان الإيطالي: سكيبيون سيموني

“…أهالي الشيخ جراح بصمودهم خلقوا جدول الاعمال الحقيقي للشعب الفلسطيني وكل قوى المناصرة في الشعب العربي وكل قوى التضامن في العالم.”

“..لم يفتح الكفاح الشعبي حول حي الشيخ جراح، ملفّ احتلال العام 1967 فحسب، بل فتح مسألة الـ48 والنكبة في الوجدان الفلسطيني”

أصل الحكاية:

كتب الكثير من التحليلات والتقديرات للحالة الفلسطينية في الشهرين الماضيين، وبالمجمل أغنت الكتابات حالة النهوض الفلسطيني لكونها تنبثق عنها. في خضم الاحداث والكفاح الشعبي الواسع، وتسارع التطورات والتصعيد والمواجهة، تم التطرق الى عدة مواضيع، خاصة وان الاعلام السائد والمؤثر والمجند كان الاعلام الشعبي ويمكن ان نطلق عليه الاعلام الشبابي المتمكن من إتقان لغة التواصل الاجتماعي فيما بين الشعب الفلسطيني والعربي وايضا مقابل العالم وم حركة شعوبه المتضامنة والمناصرة. الا ان المسألة التي لم تحظ بالقدر الجدي من التعامل معها هي المحرّك لكل ما شهدنا ولا زلنا نشهد. وأقصد صمود ونضال اهل الحق المباشرين، وفي هذا احد اهم دروس كفاح التحرر الوطني الفلسطيني.

لنتصور افتراضا، ان اهالي الشيخ جراح لم يصمدوا او تهاونوا او تشتتوا عن الهدف او استسلموا للواقع الاحتلالي، او فتشوا عن صفقة مع المشروع الاستعماري وحل بالتراضي ولو على مضض، فلو حدث ذلك، فأغلب الظن ان ما شهدناه لما كان سيحصل. فأهالي الشيخ جراح بصمودهم قد خلقوا جدول الاعمال الحقيقي للشعب الفلسطيني وكل قوى المناصرة في الشعب العربي وكل قوى التضامن في العالم.

لو عدنا الى هذا التفصيل، لرأينا كيف حوّله سلوك اهل الحق المباشرين من حدث يبدو “صغيرا” او محليا، الى حدث عالمي ودولي، والى حدث مفصلي خلق حالة جديدة. وهذا الامر صحيح أيضا في مواجهة سياسة هدم البيوت في الداخل الفلسطيني، حيث يوجد اكثر من خمسين ألف بيت يعرّفهم القانون العنصري بيوتا غير قانونية ومن دون ترخيص رسمي وكلها مبنية على اراضي اصحابها، حيث يكفي احيانا ان يتصدى اهل البيت لجرافات الهدم ومعهم المحيط القريب الذي ينتظم في لجنة شعبية، وهي ظاهرة سيتم التطرق اليها لاحقا. بينما لو وافق صاحب البيت ودون الاسناد الشعبي المحلي اولا على هدم بيته ذاتيا، تفاديا لغرامات المحاكم الفتاكة، التي تلزمه ان يغطي نفقات جريمة الدولة تجاهه، لتوقفت المسألة عند هذه الحلقة. ولو رحل اهالي قرية العراقيب بقيادة الشيخ صياح الطوري عن بلدتهم التي هدمت لغاية كتابة هذه الكلمات 190 مرة، وأعيد ترميم ما امكن منها بعد كل هدم وبقي الاهالي فيها حتى ولو افترشوا رمل صحراء النقب.

وفّر الفعل الشعبي متّسعا لمشاركة كل الناس وبالشكل الذي ترتئيه. فلم تكن الناس بموضع المدعوة للمشاركة في الاحداث وإنما المندفعة ذاتيا لصنع الحدث وتحمّل المسؤولية كما تراها وبالشعار الذي تريده وعلى اساس وعيها الخاص وليس ما تقصده القيادات اي الحركة السياسية وهو ايضا مسألة بحاجة الى القراءة بما توفره من أفق وما توفره بالمقابل من تحديات للحركة السياسية الشعبية، سواء بين فلسطينيي ال48 ام الكل الفلسطيني. فالتحديات امام الحركة السياسية سواء الفصائلية ام الحزبية، باتت جدية جدا بالمفهوم التنظيمي الذي اتضح مدى قصوره عن الاحاطة بكل القوى الشريكة في صنع المشهد. لقد تغيرت صدارة المشهد وتراجع فيها منسوب القوى السياسية المنظمة.

لم يفتح الكفاح الشعبي حول حي الشيخ جراح، ملفّ احتلال العام 1967 فحسب، بل فتح مسألة الـ48 والنكبة في الوجدان الفلسطيني، اي التهجير المباشر والتطهير العرقي للفلسطينيين اصحاب البيت من اجل الاستيطان اليهودي، وبصيغة واضحة للغاية. بل وباعتقادي منذ إخفاق اسرائيل في تحقيق هدفها من مجزرة كفر قاسم التي تزامنت مع العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر عام 1956، وتحطم حلمها بأن من تبقّى من الفلسطينيين بعد 1948 سيرحل ويهرب، وجدت ان الناس لم تعد تترك مكانها، بل أن وعي البقاء بات متجذرا في نفوسها رغم السيطرة الاسرائيلية المطلقة. فما حصل ليس بفضل نوايا اسرائيل بل بفضل ارادة اهل البلاد. وهناك وعي متجذر بأن اسرائيل لا تتورع عن شيء قادرة عليه، لكنها ليست قادرة على كل شيء فيه مواجهة من قبل اصحاب الحق.

ان تكامل الادوار بين قوات الاحتلال الشرطوية والعسكرية والاستخباراتية وبين ما يسمى البؤر التوراتية وهي أونوية استيطانية إرهابية، تعود الى اتفاق عقده في حينه ارئيل شارون مع مدارس دينية توراتية (يشيفات ههسدير) تقوم على ان يطبق الشبان فيها خدمتهم العسكرية في بؤر استيطانية في المدن التاريخية، وتتوزع خدمتهم ما بين الاستيطان التوراتي وبين تعلم التوراة. حصل هذا في عكا عام 2008، وفي اللد ويافا والقدس. واختبار المواقع يتماشى مع الاهداف السياسية العليا. ففي عكا كان مسعى لمنع توسع سكنى الفلسطينيين في “الاحياء اليهودية” مما يدفع باليهود الى تركها، كذا في اللد، ولمواجهة الهجرة اليهودية من المدينة بسبب الاحتكاك مع العرب وانزعاجهم من صوت الاذان الذي يخدش اعنصريتهم الخ، وهكذا في يافا. بينما لم يشذّ فعل الاحتلال في الشيخ جراح عن هذا النموذج من العمل. اي تحالف وثيق بين الدولة ومجموعات ارهابية يهودية هدفه طرد الفلسطينيين. وللتذكير فإن الناس معتادة اكثر على مواجهة اجهزة القمع الرسمية من مواجهة مجموعات ارهابية تهاجمها في بيوتها واحيائها.

….

ارتأيت أن أبدأ بهذا كأساس لقراءة التحولات الداخلية التي باعتقادي باتت ذات ابعاد استراتيجية محلية ودولية في إعادة مفهوم القضية الفلسطينية وقضية فلسطين في نظر اهلها اولا وفي نظر العالم المتغير.

أصل الحكاية في الحالة الفلسطينية هو أمر ضروري، وكل الحكايات مهما بدت صغيرة الاطار في مواجهة الاحتلال ودولته وقضائه وعنصريته، تعيدنا الى الحدث المفصلي الاهم ألا وهو نكبة العام 1948 وقيام اسرائيل على انقاض شعبنا. ومن أكثر ما يكشف هذا الأصل هو الجهاز الذي يبدو الأكثر مدنيا، لكنه الاكثر ضبطا وهيمنة وتبريا للجريمة واقصد الجهاز القضائي. فهناك تقاسم ادوار داخل المؤسسة الاسرائيلية في تطبيق وجهين لذات السياسة والجوهر وهما القمع والقهر، فهناك منظومة القمع من جيش احتلالي وشرطة ودوريات هدم البيوت، وهناك منظومة القهر وهي من دور المؤسسة المدنية وفي مقدمتها القضاء واجهزة التخطيط الحضري والتعليم وسياسات الرفاه الاجتماعي العنصرية. ويشرف جهاز الامن العام  الشاباك على المنظومتين معا في كل ما يخص فلسطينيي48. وجاءت تصريحات قيادة الشرطة التي تم تسريبها (القناة الاسرائيلية الثانية 1/7/2021) بأن ما يعوّق عملها في مواجهة رؤساء الجريمة المنظمة في الداخل الفلسطيني هو ان معظمهم عملاء للشاباك، وهذا يحول دون ان تملك الشرطة اية صلاحيات في التعامل معهم، لتكشف ان الشاباك هو الحاكم الفعلي، او ما يسمى الدولة العميقة للتعامل مع هذا الجزء من الشعب الفلسطيني، وفي ادارة شؤون الشعب الفلسطيني الواقع تحت النفوذ الاسرائيلي في المجمل. وفعليا فإن النماذج الاصلية للممارسات الاسرائيلية في المناطق المحتلة عام 1967، جرت بلورتها بعد احتلال العام 1948 وإحلال النكبة بشعبنا.

بل باتت هذه النماذج أشبه بعقيدة اسرائيلية قائمة على التشتيت المتواصل للشعب الفلسطيني وهدم بنيته الداخلية ودفعه لتطوير هويات محلوية وجهوية متصارعة تفوق من حيث أثرها الفعلي الانتماء للهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة. وهذا نجده في مناطق ال48 وفي الضفة وأكثر في القدس والسعي لسلخها إدراكيا عن الحالة الفلسطينية. كما ونجده كذلك في السجون وبالتعامل مع الحركة الاسيرة التي يجري فصلها وتوزيعها على اقسام منفصلة على اساس المناطق الجغرافية التي جاء منها الاسرى. بدأ ذلك بعد اتفاقيات اوسلو وبما يتلاءم مع النوايا الاسرايئلية من ورائها وهي تجزئة القضية الفلسطينية وإخوائِها من جوهرها (المسائل المؤجلة في حينه) وتقسيم الضفة الغربية والقدس الى مناطق تحمل وضعيات قانونية مختلفة. وهو شكل من أشكال هندسة المستعمر لهويات ضحاياه. وباعتقادي ومع تراجع  مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، فقد نجحت هذا السياسات والممارسات في خلق نخب تتوائم معها، وفي خلق ما يمكن ان نطلق عليه هندسة “وعي السجن”، المطبّقة على كل الشعب الفلسطيني، والقائمة  على ضيق الافق المعيشي وجعل الكيان الفلسطيني ينشغل في امور حياته اليومية بعيدا عن الحلم.

في هذا السياق، يفوتنا احيانا الالتفات الى انه نشأ جيل فلسطيني كامل في ظل جدارين، الجدار الاحتلالي بروح المشروع الصهيوني، وباعتقادي ان حصر التسمية المتداولة ب”جدار الفصل العنصري” فيه تقليل من جوهره الاستعماري الاستيطاني او بالمفهوم الاوسع – جوهره الصهيوني، وقد خلق الجدار جيلا فلسطينيا كاملا لم يخرج من حدود الجدار. الجدار الاخر هو الانقسام الفلسطيني السلطوي البنيوي وخلق منظومتين فلسطينيتين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. فهذا لم يعد انقساما سياسيا فحسب بل بين منظومتين لكيانيّ حكم. فلا سوء تفاهم ولا خلاف اجرائي او تنظيمي، وإنما واقع بائس ليس الطرفان الفلسطينيان هما المقررين الوحيدين فيه، بل بات مشتبكا بمصالح اقليمية ودولية وبالطبع بدولة الاحتلال، مع العلم بوجود نقاشات في مؤسسات الامن القومي الاسرائيلي التي راهنت على الانقسام حتى معركة ايار الاخيرة، التي ثبت ان الانقسام لا يحمي بالضرورة مصالح اسرائيل. بينما تسعى مجددا الى استخدامه للنيل سياسيا من الموقف الفلسطيني.

هناك مسعى ثابت في المنظومة الاسرائيلية وضمن استرتيجياتها في سياسات الضبط والهيمنة والتجزئة، بأن تعمل كمنظومة متكاملة الادوار والادوات وبرؤية سياسية استراتيجية، وضمن ذلك أن تضمن ان الفلسطيني لا يرى سوى الجهاز الذي يواجهه ولا يرى المنظومة، لتدفع الفلسطيني الى المفاضلة بين هذا القامع وذاك القامع. وبات هذا الامر أشبه بعقيدة حرب توجه الممارسات تجاه الشعب الفلسطيني. إلا ان هبّة ايار قد نالت كثيرا من هذه العقيدة  كما من مجمل عقيدة الضبط والردع الاسرائيلية، وخلقت حالة جديدة في الصراع، لكن في حال توفرت قدرة فلسطينية بالحفاظ عليها وتثبيتها.

الجبهة الثالثة – من سياسة الهوية الى وعي القضية

رغم التداخل بين الامرين، الا ان ما شهدناه من هبة فلسطينيي 48 والضفة وغزة التي بدأت كحدث متدحرج من الشيخ جراح ثم احداث باب العامود ومساعي الاحتلال لمنع تجمهر الشباب المقدسي هناك في الامسيات الرمضانية ثم الاعتداء على الاقصى والتصريح بمسيرة المستوطنين في القدس، وتبع ذلك إطلاق الصواريخ من غزة لمنع هذه المسيرة بعد ضبط ايقاع سياسي لها، وما تبعها من عدوان اسرائيلي على غزة، كل ذلك خلق حالة فيها عدوان على كل الشعب الفلسطيني في فلسطين، وفيها حالة تصدّي من قبل كل الشعب. واللافت أن صوت الشعب لم يصمت للحظة. لم تخرج الجماهير الشعبية من اجل مطلب مادي مباشر، بل من اجل قضية. لم تنشغل بهويتها الوطنية، بل بحماية الشيخ جراح بكل رمزيتها وكذلك الاقصى وغزة.

التحول الكبير كما يبدو هو ما حصل في فلسطين48  وتعامل اسرائيل مع هذا الجزء من الشعب. ففي خضم العدوان على غزة حدد وزير الحرب غانتس يوم 16 ايار، وضمن ثلاثة اهداف للحرب، هدفا لافتا، وهو د”دعم الاعتدال في المنطقة” كهدف لعملية عسكرية. وركز المؤتمر الصحفي مع نتنياهو وقائد الاركان كوخافي، على فلسطينيي الـ48 بلغة الترويج لـ”الاعتدال”، والترهيب تجاه “التطرف” “الذي يشكل أقلية جدية” حسب تعبير رئيس الوزراء.

في هذه المرحلة والتي سبقت الاضراب العام الشامل لكل الشعب الفلسطيني والذي اعلنته لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل.، تحولت المدن الساحلية الى حالة وكأننا بصدد ارتكاب مجزرة بحقنا. وبسرعة وحين اخفقت قوات الامن في قمع مسيرات واحتجاجات شعبنا، جاءت الخطوة الانتقامية الدموية وهو التحالف المتقن بين الدولة واجهزة القمع مع الاعلام الاسرائيلي صاحب الخطاب الدموي ومع اصطفافات سريعة للاوساط العنصرية والفاشية الواسعة في المجتمع الاسرائيلي لتتحول الى عصابات ارهابية دموية، تستهدف الوجود الفلسطيني في مدننا التاريخية في اللد ويافا وحيفا وعكا، لكنها تستهدفها في حالة واحدة وهي ضمان حماية الشرطة لها، سواء بغض الطرف عن ممارساتها حين يكون التواجد الفلسطيني ضعيفا ام بالحماية المباشرة حين ينتظم الفلسطينيون. هذه كانت فعل دولة وإيقاع دولة بتوفير غطاء سياسي.

بلغت حملة الاعتقالات في صفوف الفلسطينيين ما يعادل الثلاثة الاف حالة، اكثر من ثلاثمائة لائحة اتهام خطيرة، واستحدثت اجراءات السجن الاداري وملاحقة القيادات بتهم التحريض، لكن النصيب الاكبر كان للجيل الشاب بمن فيهم القاصرين دون السن القانونية، اذ كانت الاعتقالات انتقائية وبالذات يضبط ايقاعها ليس الشرطة ميدانيا بل الشاباك، الذي يرسم السياسات، فكانت اساليب الاعتقال ترهيبية للمعتقل وللاهل على السواء من خلال الاقتحامات الليلية وترهيب المحيط كله مع انه يكفي الاستدعاء ليمثل المطلوب امام الشرطة، وكانت المساعي واضحة الى الاذلال والذي وجد تعبيرا عنه في الدوس على رأس او وجه المعتقل او المعتقلة، اضافة الى التعذيب في اقبية التحقيق والاهانات التي فاقته. ناهيك عن العنف المبرح وكسر العظام وتشويه الخلق، والقاء القنابل “الصوتية” مباشرة على المتظاهرين والاصابات الخطيرة التي ادت اليها واثارها النفسية.

في التنظيم المجتمعي للنضال الشعبي

واذ تغذي الحالة الفلسطينية حالة الاسرائيليين وبالعكس، فإن شكل التنظيم الشعبي الذي قاد المواجهات والمظاهرات في الداخل كان المبادرات الشعبية المحلية أو الحراكات، وفي معظمها الشبابية، والتي شكلت حالة وطنية شاملة ومترابطة. وهناك شعور عام بأن الحركة السياسية الوطنية المنظمة باتت قاصرة عن تصدر المشهد بقواها الذاتية دون المشاركة مع القوى الجديدة الواقعة خارجها. وهذا يشكل تحديا من نوع جديد. لقد جاءت هذه الممارسات تطبيقا للهدف الذي اعلنه وزير الامن بتشجيع الاعتدال. فالهدف أبعد من اعتقالات بل كسر روح الشعب. في حين ان الداخل هو حجر اساس في بنية هذه الارادة.

ان انتشار الشرطة وقوات “حرس الحدود” في تجمعات ال48،اضافة الى مراكز الشرطة التي زرعوها في العقد الاخير بحجة محاربة الجريمة التي ازداد نطاقها، وتحولت هذه المراكزالى ثكنات ثابتة لاجتياح اية بلدة عندما يقتضي الامر.  هذا الانتشار جاء ايضا ردا على نمط العمل الشعبي القائم على مركزية اللا-مركزة، اي النشاطات المحلية والمنسقة قطريا او المتفاعلة قُطريا. لكن وعودة الى ما ذكرت بشأن المنظومة الاسرائيلية وتعدد الاذرع، فإن اسرائيل تدرك ان الداخل الفلسطيني بات اكثر تجمعات شعبنا تنظيما وقدرة على الفعل السريع والمساند لمجمل قضايا شعبنا الفلسطيني. واكثر مجموعة تلامس حتى في حياتها اليومية جوهر الصراع مع المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني فل فلسطين، ولديها قوة سياسية ايضا تعوّق ثبات اي ائتلاف حاكم. وحاليا نجحت الدولة ضمن جولات الكرّ والفرّ، في النيل من هذا مع انهيار مشروع القائمة المشتركة”.

حين تسعى اسرائيل الى إبقاء الشعب الفلسطيني ضعيفا فإنها تقوم بتشخيص كل مَواطن قوته وتستهدفها بأشكال مختلفة، منها القمع والقهر وخلق المصالح ومنها ايضا الاستعانة بأنظمة محيطة وبالذات الخليجية في بناء بنية لنخب جديدة تدعم الضعف، كما يحصل في النموذج الاكبر في الدعم الخليجي لغزة والتي باتت اقرب الى صفقة ثابتة من “تهدئة مقابل مال” وللاسف. وإذ فاجأت كتائب القسام اسرائيل بالمبادرة الى اطلاق الصواريخ وبدءأ من القدس ومركز البلاد مما وضع كل العقيدة الاسرائيلية العدوانية في مأزق، وتحول اكبر مساحات الجبهة القتالية الى “داخل اسرائيل”، وتحول القدس من قضية مستباحة اسرائيليا الى قضية دولية قد تجر المنطقة الى حيب بسبب ممارسات الاستيطان والانتهاكات فيها، فإن دولة الاحتلال تسعى وبدعم دولي وبوجود نخب فلسطينية مؤاتية، الى استعداة زخم المعادلة نفسها.

فلسطينيو ال48 مواطنو اسرائيل هم في نظر الدولة معادلة صعبة، فهم مجتمع فتي وقوي ومنظم ولديهم مشروع سياسي مناويء للصهيونية واهدافها. وهم السند الى القدس التي باتت خارج اي تواصل فلسطيني شعبي باستثنائهم، وهم الذين تعتبرهم المؤسسة الحاكمة جبهة معادية، لكن ادواتها تجاههم تحتكم الى كونهم مواطنين ايضا حسب القانون الدولي، ناهيك عن كونهم يطالبون بالحماية الدولية وهذا تحول جوهري في سلوكهم السياسي ورسالة للدولة وللعالم. بينما تغير الادوات لا يعني التخلي عن الجوهر وهو ان اضعاف الداخل يؤدي الى اضعاف مجمل الشعب الفلسطيني وقضيته.

وفي المقابل وامام كل صخب اللحظة هناك مظاهر خطيرة وابرزها هو دخول حزب عربي فلسطيني الى الاثتلاف الاسرائيلي الصهيوني الحاكم. بالطبع لم يقبلوا به شريكا في الحكم وانما في الائتلاف الحاكم، وأقصد القائمة العربية الموحدة (الحركة الاسلامية الجنوبية), وكي لا نوهم انفسنا فهذا نهج متكامل وليس من الصحيح التعامل معه كحدث عابر. بل هناك نخب واوساط في الداخل معنية بهذا النهج القائم على صفقة ما بين “تيسير” القضايا المطلبية  وبين فك الارتباط بالقضية الفلسطينية، اي مثلا تأييد ممارسات الاحتلال في الضفة الغربية مثابل الحصول على مطلب في الداخل وبالاساس مطلب مادي وميزانيات وعادة باتت منظومة الجريمة الفلسطينية تتقاسمها مع الحكم المحلي من خلال فرض سطوتها المدعومة من الشاباك.وهذا ايضا تطور ليس سهلا ويهدد الحركة الوطنية الفلسطينية وصدارة احزابها وحركاتها السياسية.

ورغم هذا هناك اعتراف رسمي وبالاساس شعبي بأنه لا يمكن تجاوز هذا الجزء من الشعب الفلسطيني ولا دوره لا فلسطينيا ولا اسرائيليا. كما ان قرار مجلس خقوق الانسان في الامم المتحدة بتشكيل لجنة تحقيق رسمية تحقق في ممارسات الاحتلال بما فيه ممارسات اسرائيل تجاه فلسكطينيي48 هو انجاز غير مسبوق وفيه مقومات الحماية والاعتراف بأن المؤسسة الاسرائيلية وقضائها لا يحميان المواطنة بل يهددانها.

آفق واسع وهشاشة فلسطينية محبطة

جريمة تصفية الناشط الشعبي والسياسي الفلسطيني نزار بنات بحيثياتها، قد تعصف بالكثير من حالة “نشوة الانتصار” الفلسطيني، وقد تتجاوزها قوى التغيير الفلسطينية في تعزيز النضال نحو مخرج من حالة البؤس القيادي، سواء الحاكم أم الفصائلي بشكل عام. أذكره هذه المسألة في هذا السياق، للدلالة على هشاشة الحالة الفلسطينية. فمن ناحية قد نكون في ذروة حالة نهضوية، وبلحظة في إحدى اكثر القضايا بؤسا إحباطا. فكل هراوات القمع تمر عبر مرفأ حيفا، الاسرائيلية منها والفلسطينية، وقد تكون من ذات الصنف، لكن مقابل الهراوة الاحتلالية التي تزيد مناعتنا، فإن الهراوة الفلسطينية مؤلمة أكثر، ليس بسببها، بل بسبب اليد التي تحملها والتي كان من المفترض ان تحمي الشعب وثورته لا ان تقمع روحه، لكن هذه هي حال الفلسطينيين، وهي لا تختلف عن حال شعبنا في كل انحاء الوطن العربي.

كما ان الامر يشير الى وجود حالة طواريء صاخبة لا ينفك منها الفلسطينيون، فالشعب في حالة طواريء وحرب استنزاف دائمة. فالاستعنمار يخلق ادواته باستمرار، ولا يبدو كل قهره من يأتي مباشرة منه لكنه فعليا من صنعه.  ولا يكفي ان الشعب الفلسطيني في حالة طواريء بل ان اسرائيل في حالة طواريء مستدامة كجزء من وجودها. وهذا وقت لا تفكر فيه الجموع الشعبية بالحلول، فاصحاب الحلول المختلفة ساروا معا في المواجهة وتصدوا معا ودفعوا الثمن معا. انها مرحلة لم تغير معادلات القوة الجوهرية ولم تحرر “الا ما في نفوس الناس”. فنحن امام معركة انتصرت فيها ارادة الشعب الفلسطيني  حتى ولو معنويا، فهذه مسألة هامة وليست بالسهلة، وما ينتج عن هذه المعركة لم يكن الحق بل في الطريق الى الحق. والمعركة طويلة لم تبدأ في لحظة ولن تنتهي بلحظة.

لا تستطيع الحركة السياسية الفلسطينية ان تعيد بناء ذاتها في المدى المنظور، لكن لا بد من اقامة هيئة تنسيق ثابتة حبذا لو تبادر لها (م ت ف) وبالتعاون مع لجنة المتابعة في الداخل وكل الفصائل للتنسيق، ولاتخاذ القرار السياسي. فاالعبث بالقرار السياسي هو ما يهدد انجازات شعبتنا الذي اثبت ان لا يعرف المستحيل بل يفرضه. وعلى صعيد ال48 لا بد من المبادرة الى حوار واسع بدأت بوادره، يعسى الى اشراك كل الحركة الوطنية وكل القوى غير المؤطرة والتي باتت ذات شأن كبير في مجمل الحالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى