الورقة المطوية

بقلم: د. إلهام الدسوقي | مصر

اللوحة للفنان البريطاني: جوزيف رايت

اليوم نهاية الأسبوع وأحمل كل ما استطيع من السوق لنهاية الأسبوع، اتجهت ناحية المصعد مسرعة فقد ثقلت على الأشياء الكثيرة التي أجلبها فالوضع لايحتمل أن أقوم بالتسوق يومياً وبطبيعة الحال لا أقوى على حمل كل متطلباتي. يهرع إلى محمد رجل الأمن طالباً مساعدتي وتخفيف حملي متمنياً لي الصحة والعافية مهرولاً إلى المصعد لفتحه فأنا المتعبة من اللف على المحلات في الحرارة الشديدة وهو المرفه بالجلوس على مقعده المريح في ظل العمارات الشاهقة الارتفاع. اعتدت أن يسرع بي إلى المصعد المقارب لشقتي حتي لا اجهد وأنا أحمل أشيائي الكثيرة. ولكن هذه المرة لم يذهب معي محمد إلى غايتي والمصعد المعتاد مما أثار تساؤلاتي لما تذهب بعيداً يا محمد الم نعتاد على هذا المصعد الواسع؟ وأرعبني رده سريعاً ممنوع يا دكتورة خلاص محدش يركبه تاني. وتعصبت معتقدة أنه يختار ما يحلو له من مصاعد للتحكم بالسكان ومضايقتهم فأصريت أن يفتح المصعد الذي أعتدت عليه لسنوات متهمة إياه بالتخاذل ومهددة بأن أتدخل شخصياً واتسبب له في أضرار لا يتحملها فهذه المصاعد ملك لنا ولن يتحكم فينا أحد.
لم أدرك نبرة الحزن وهو يتحدث من شده غضبي ولكني أفقت على كلماته الهامسة المصعد بقي مخصص لمشتبهي كورونا يا دكتورة. فزعت من هول المفاجأة فهل أصبحت العمارة موبوءة بالفيروس اللعين وسألت مسرعة من من الجيران قد الم به المرض وما حالته الأن وكيف لم تعزل العمارة بكاملها؟
أهدي يا دكتورة فقد تم اكتشاف حالات وتم عزلهم في منازلهم ولكن يستخدمون المصعد حتي الأن. فصحت لا يجوز ذلك ألا يخافون من نقل العدوي للجميع فهو ينتقل عن طريق اللمس والرزاز ومن الممكن أن يصيب الجميع من خلال المصعد.
ودار في خلدي سيناريو انتقال الفيروس عبر المصاعد وامكانية انتشاره بطريقة أسرع وكم كان سيناريو مرعب ازعجني لدرجة الاتصال بأحد متخصصي الأمن والسلامة المهنية لتوضيح الرؤية فصدق توقعي حين قال أن المصعد من أكثر الأماكن نشراً للعدوي لأن كل من بداخله يظلون محاصرين لفترة من الزمن مستنشقين نفس الهواء ويتبادلون أنفاسه بما تحمله من فيروسات ضاغطين على نفس الأزرار بأيدي محملة بعلامات الموت الخفية.
وعدت سريعا إلى رجل الأمن لاعرف من المصاب من الجيران فقالها رجل الأمن على استحياء أنه الاستاذ منصور بالدور الأخير وزوجته ففجعت من الخبر ألم يجد الفيروس بشراسته إلا هذا الرجل دون أبناء وزوجته الطيبة صديقتي التي لم أرى منها إلا الخير والمساعدة طوال عشرون عاماً من الجيرة الطيبة والصداقة الجميلة الملامح.
أسرعت إلى التليفون أطمئن عليه وزوجته صديقتي فلم يصلني الرد فايقنت أن الحالة الصحية لا تسمح بالكلام واجتهدت أن أصل اليهما كي البي طلباتهما فأنا أعرف كم هو مؤلم عدم القدرة على التنفس وضيق الصدر والغياب عن الأحداث. أسرعت غير مبالية إلى شقتهم بالدور الأخير أطرق الأبواب بشدة حتي يستجيبوا فعشرة السنين الطوال تحتم على المساعدة فسمعت الأنين من وراءها وكان سؤالي ماذا تريدونني أن أفعل لكما فارسلت صديقتي ورقة من تحت عقب الباب تطالبني بالدعاء لهما فقد يكون هو المستجاب وارسلت لي ورقة مطوية أخري راجية أن لا أفتحها إلا في حالة وفاتها فوافقت ورجعت إلى بيتي متوسمة الخير في اله عادل منجي من المهالك واستمريت في الدعاء لأيام لا أنقطع خلالها إلا للنوم ولم يكن يشغل تفكيري إلا الورقة المطوية التي طالبتني صديقتي بألا أفتحها إلا في حاله موتها لا قدر الله وماذا تحتوي أهي وصية منها تختار فيها من يرث أموالها؟ أم جواب لشخص مخصوص تشمله بالرعاية؟ أم سر من الأسرار لا تريد أن يطلع عليه أحد فبل وفاتها؟
داومت على متابعة صديقتي يومياً بأرسال الكلمات المشجعة من تحت عقب الباب الموصود دائماً وترسل إلى طلباتها لالبيها عن طيب نفس. وتناسيت مع مرضها مضايقات زوجها المتصابي دائماً، وتطلعه إلى الحديث معي بدون مناسبة ، ودعوتي الدائمة لأكون معهم في حفلاتهم، مع ملاحظتي مراقبتها لما يحدث دون أن تعلق أو تعاتب. كم لاحظت حزنها الدفين المطل من عينيها عندما نتحدث عن الحياة المستقرة الراضية بين الأزواج. أرقبها وهي تستنكر على كل الرجال الوفاء بالعهود مدركة سبب اضطرابها وتحملها. أجدها صابرة على رجل يتلاعب بكل ما يملك من خيرات رزقه الله أياها. أشعر بشكها في كل امرأة تقترب منها وأنا ضمن مجموعة كبيرة ولكم أعتقدت أنني الأقرب وأحتل موقع الصدارة في قائمة طويلة من النساء. كنت أتقرب منها فهي صديقتي الوحيدة التي تستمع إلى في ليالي الأهات. هي من تتحمل سخافاتي وهفواتي وتوجه النصح وترسم الطريق. تناسيت من أجلها معاكسات وتلميحات زوجها معلنة أهميتها ومكانتها في قلبي المفعم بالحب لها والشفقة على ما تواجه. لم ابالي بردة فعلها مع كل مرة نتقابل فيها ويشمل اللقاء زوجها المتصابي. تجاوزت كل ذلك مع معرفتي بأصابتها واحتياجها الدائم لمن يرفع من معنوياتها المتدنية. لم الحظ يوماً تضررها من وجودي فكان الترحاب والتقبل سمة اللقاءات الودية بيننا.
اليوم أشعر بها تناديني مستغيثة بصداقتي لتنقذها من براثن الفيروس اللعين فاستجبت لها معلنة عدم خوفي من الاصابة فالاحتياطات معروفة ولكن التعاطف والأمل في التعافي.
لم يغب عن خاطري ما تحوي الورقة المطوية من أسرار وساقني الشغف للتفكير ليل نهار بأن أسعي لمعرفة ماذا تحوي ولمن توجه؟ سالتها في يوم من الأيام برسالة صريحة عما تحوي الورقة المطوية فرفضت أن أفتحها وبشدة مطالبة أن يكون فتح الورقة دليل وفاتها واحترمت رغبتها.
اليوم أشعر بوعكة صحية شديدة، حرارتي مرتفعة تصل إلى الحمي، تمكنت مني الكحة الشديدة ، لم يفارقني ضيق التنفس، أشك في نفسي وإصابتي بالفيروس اللعين، لم أعد استطع التحمل أكثر من ذلك، يجب أن أتجه للمستشفي للتأكد، لم يعد هناك وقت للإنتظار أكثر من ذلك، يراودني التفكير في الاصابة وكيفية حدوثها وأنا من يتخذ جميع الاحتياطات والاجراءات الاحترازية، لم اخالط أحد المصابين خلال العشرة أيام السابقة، أطلب ما يعينني على الحياة بالتليفون ولم أذهب يوماً إلى السوق وأحتك بالبائعين أو المشترين إلا والكمامة على وجهي والقفاز بيدي، لم أذهب إلى عملي من اسبوعين بتصريح من مديري خوفاً من الاصابة.
في بهو المستشفي الواسع أرقب الحالات في زعر تام متمنية أن لا أكون بينهم وأن أخرج بسلام من هذه الوعكة الصحية خالية من الفيروس. يحدثني الطبيب فلا استمع إلا إلى صوت الرجاء النابع من أعماقي متمني الهروب من المصير المحتوم. تستدعيني الممرضة اخذه بيدي إلى المعمل في أقصي يمين جناح المصابين لعمل المسحة الاولي للتأكد فافكر في من حولي وتأثير الصدمة عليهم، يعقمني الجميع لأخذ عينة من دمي فلا ابالي إلا بالوفاء بعهد صديقتي وفتح ورقتها المطوية عند رحيلها، أنتظر بالساعات لبيان نتيجة المسحة فلا يراودني الشك في الاصابة بعد كل الاحتياطات التي نفذتها بدقة متناهية.
ينادي الممرض على اسمي لاستلام النتيجة، ترتعد اطرافي معلنه عن استنكار النتيجة، يستدعيني الأطباء لإبلاغي إيجابية المسحة فتزداد حيرتي واضطراب مشاعري فكيف وأين ومن المتسبب، يطالبني العاملين بالعزل في المنزل فلا مكان لمثلي في المستشفي فاوافق متمنية أن اجاور صديقتي الوحيدة في ألامها ونزاعها ومقاومتها للمرض، أسير متوجهة إلى منزلي متخيلة نجاتي وصديقتي معاً ضاحكين في ليالينا المليئة بالضحك والشكوي والاستمتاع.
اليوم أرقد في سريري اعاني ضيق التنفس وقلة النوم، يتناوب أبنائي في احضار الطعام إلى باب غرفتي وتنبيهي لوجوده، لم أرى أي منهم منذ أيام طويلة لا أطيق ثقل ساعات مرورها، أتمني أن يضع الله حداً لعذابي بالعفو والمغفرة.
وسط الأمي أتذكر الورقة المطوية ووعدي لصديقتي المريضة بألا أفتحها إلا بعد رحيلها. وراودني التفكير ما الذي سيحدث في حال رحيلي قبلها، وقتها سوف يضيع سر الورقة المطوية إلى الأبد ولن يعلم عنها أحد شئ، ماذا أفعل بها؟ أبلغ أحد أبنائي عنها أم ابلغ زوجها بحقيقة الورقة المطوية وكيف وهو يعاني نفس الحالة. كيف أتخلص من عبء الورقة والوصية، يقترب الموت وأراه في كل مكان، أخشي أن تكون صديقتي قد سبقتني اليه وأنا منعزلة عن العالم لا أتحدث مع أحد.
ولكن لما لا أكون أنا من يطلع على السر في الورقة المطوية، نعم أنا من ائتمنتني علي سرها ووثقت في، أنا من سيحفظ سرها إلى الأبد، أنا الصديقة والحبيبة والوفيه لها، لن يضر شئ إذا أطلعت على أسرارها، الم أحكي لها عن أدق أسراري وكانت الحكيمة في النصح والعون، نعم أنه الوقت المناسب لمعرفة ما تحويه الورقة المطوية، سافتح الورقة لمعرفة ما توصي به صديقتي، وإذا كان ما بها سر لا يمكن إعلانه لن افصح عنه لأحد، سأكتب في وصيتي أنه يخص صديقتي ولكن يجب أن أعرف السر، يزداد شغفي كل دقيقة أن أفتح الورقة المطوية.
ها هي أمامي التقطها وافتحها وبدأت القراءة وأيقنت أن الورقة المطوية ما هي إلا رسالة لى أنا صديقتها الوفية وكانت بعنوان صديقتي لا استطيع البعد عنك ففاضت عيناي من الدموع قبل أن ابدأ بالقراءة. تمالكت نفسي واستعنت بكل ما أوتيت من قوة لقراءة الرسالة، سرت بعيني بين سطورها متعجبة مما أقرأ وكأن الزمان قد توقف عند هذا الحد وكان هذا نصها
صديقتي العزيزة
تمنيت كثيراً أن أكون مكانك فأنت الجميلة دائماً المتألقة دائماً الساعية اليك كل النظرات.
لم أتواني أن أثق بك بعد أن لمحت نظرات الإعجاب بك في عيني زوجي الذي كان لا يفتأ يتحدث عنك أوقاتنا الخاصة بلا انقطاع وكنت أعلم معرفتك بذلك مع صمودك أمام كل الاغراءات وعدم استجابتك. لا تظني صديقتي أن صبري على ما كنت أرى من ضعفي في شئ ولكن قوة التحمل التي نفذت مع المرض اللعين فكنت أنت بقدراتك أهم أسباب التحمل الذي لا يقدر عليه إلا الأسوياء مثلك.
لم استطع تحمل أن أذهب إلى العالم الأخر دونك صديقتي. تخيلت أنك من ستعطيني الدعم والارشاد في العالم الأخر. كان تفكيري مركز كيف نتشابة فأنا برغم حبي لك أحقد على صفاتك واتمناها. رأيت فيك النموذج المناسب الذي يجب أن أحصل عليه لنفسي. فلتأتي معي يا صديقتي إلى عالم خال من الألام والغدر والخيانات. فلتأت إلى عالم نكون فيه بمفردنا لا ينغص علينا أيامنا أحد. فلتأت معي يا صديقتي إلى عالمي الخاص فكم أتمني أن استبدل بك كل ما يؤلمني في دنيا لم أكن يوما أريدها.
صديقتي سامحيني حتى وأن لم ترغبي مصاحبتي فلم أستطع مقاومة نفسي المريضة بعد أن اصبت بالفيروس ولم استطع أن اعلمك بمكنون نفسي وأنت تلتقطي ورقتي المطوية الملوثة بالفيروس وينتقل اليك دون أن تدري، نعم أنه أنا من تسببت في اصابتك صديقتي اعذري حبي ولهفتي للتخلص من الحياة المؤلمة بصحبتك عزيزتي.
ما هذا؟ أكاد أن يغشى على من هول ما قرأت. أأنت صديقتي من كنت السبب في عذابي ومن حولي وكل ما نعانيه من ويلات بسبب الفيروس اللعين؟ كيف لم أدرك ما تفكرين به وأنت تشاهدي ما يدور وتتظاهري بالجهل؟ الأن فقط ادرك كم كنت مخطئة في تقبل العلاقات المقلقة الهشة الواهنة القائمة على التغاضي والتغافل. كم كنت مغفلة حينما ادركت عطب العلاقة ولم أقم باصلاحه أو الفظها.
اسرع إلى أبنائي اوصيهم خيراً بأنفسهم وأهلهم متمنية أن يرسل اليهم ربهم السند والرزق من بعدي، يقترب الموت وأتمني أن يمهلني لأطمئن على كل من حولي.
لم اتمكن من الكلام كثيراً ولكن كان يعنيني أن أعرف أخبار من كنت أعتقد أنها صديقتي وأصبوا لأن أعرف ما حدث لها وهل أنتقلت للحياة الأخرى. ومن وراء الباب المغلق أسأل عنها متمنية أن تسعفني الإجابة وتشفي غليلي. ليفاجأني أبنائي بأنها من ارسلت اليهم ما يأكلون الأن من طعام ولشدة أهتمامها فقد أرسلته اليهم ملفوفاً في ورقة مطوية……..
من مجموعة صفراء بخطوط خضراء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى