ذكريات قلم (2)

هند خضر | سوريا


أخرج الّليل أثقاله ليضعه في فم الكون ويعلن أنّه حان موعد عناق النّوم لأهداب العين وراحة العقل، ولكن من أين يأتي النّوم ؟
أوشكت عقارب ساعتي بدقائقها على الّلقاء مع بعضها،لم يكن هناك زائر في هذا التْوقيت سوى الذّكرى ،إنّها تطرق باب رأسي وتتغلغل في دهاليز ذاكرتي الّتي خزّنت ما يكفي من الأحداث والصّور ،
ستعمل عمل الّلصّ وتسرق منّي هدأة الرّقاد و أبدأ أنا مطاردتها لاستعادة ما سلبتني إيّاه، لكن في البداية بدا الأمر محالاً لأنّ الذّكريات تجوب أصقاع العالم وأحياناً تضيع في مدن منسيّة و ربّما تتلاشى عند شواطئ العمر وتأخذها رماله إلى القاع وقد تسافر مع الفكر مسافة سنة ضوئيّة وتعود إلى مكانها ..
‏لا يهمّ مادمت أملك قلماً فهذا يكفي لألتقط ذكرياتي بأطراف أصابعي فأحتفظ بالجزء الجميل منها وأحذف كل ما يعكْر صفو مزاجي وهكذا يداعب الكرى أجفاني وأغفو بهدوء وسلام …
‏على سيرة الذّكريات ..أخذتني أفكاري إلى حوار دار بيني وبين يراعي ذات مساء قاسٍ عندما كنت أجلس حينها في غرفة ترشح أصابعها من برودة أناملي وحتّى جدرانها تشقّقت من طعنات سكّين الغدر الّتي لم تخترق قلبي فقط وإنّما تمكّنت من كلّ ما يحيط بي …
‏قلت لقلمي :أرجوك لا تغدر بي ،ابقَ معي وكأنّك ظلّي فأنا أخشى لحظات الخداع ،إنّها موجعة ..موجعة أكثر ممّا يحتمله قلب أو يصدّقه عقل ..
أجابني : ‏أخبرتكِ فيما قبل بأنّني لن أتخلّى عنك حتّى لو خذلتكِ الكرة الأرضيّة بأسرها ،مكاني الصّحيح بين أناملكِ ،حدّثيني عن كلّ ما يجول في خاطركِ ولا تدعي للقلق والشّكّ مكاناً بيننا فالغدر يا عزيزتي من طبع البشر فقط ..
‏نظرت إليه قائلةً :نعم ..هذا صحيح ولكن هذه السّمة لا تنطبق على الجميع فهناك الوفيّ وهناك الغدّار ،هناك من يحفظ العهد وهناك من يخونه ولكن أن يخدعنا العدوْ لن يكون الأمر قاسياً مقارنةً بتلك الحيلة الّتي تأتينا على يد من وضعناه وسط العين و غطّيناه بأهدابها لنحميه من كلّ أذى فأصابها بالعمى ..
‏أحياناً نرتكب الخطأ بأنفسنا وبملء إرادتنا عندما نمسك بيد نعتقد أنّها لن تفلت يدنا وقت الشّدائد فإذا بها هشّة ضعيفة ..
‏تأخذنا أوهامنا بأنّه لو أرهقتنا السّنين وغرقنا في بحر من الوحل سنجدها معنا لتنقذنا من الغرق وتكون لنا كطوق نجاة فيحصل ما لا نتوقّعه ،تنسحب عند أصغر موقف دون أن تحاول انتشالنا …
‏هل هذا هو العدل أن تعطي و تعطي ولا تملّ العطاء و تقطع وعوداً و تفي بها والنّتيجة طعنة في القلب تسبّب فيه ثقباً فيصدر عنه أنيناً مبحوحاً كأنين النّاي ؟
‏سألني يراعي :إن أردتِ أن توجّهي كلمة لكلّ مخادع ومتلاعب بعواطف البشر في هذا الزّمن ماذا ستقولين ؟
‏حسناً ..سأجيبك وأنت سجّل أقوالي و دوّنها بين سطور التّاريخ ،انقل له عن لساني :
‏لقد فعلتها و غدرت بمن منحك الأمان ،تلاعبت بمشاعره و أسقيته من كأس أشدّ مراراً من العلقم ،نعم ظلمته في نفس الّلحظة الّتي كان يتوجّب عليك إنصافه ،لم تجرحه فحسب ولكنّك تسبّبت بقطع وريده في نفس الدّقيقة الّتي ظنّ فيها أنّ كفّك ستمتدّ لتضمّد جرحه وتوقف نزفه ..
‏ما علينا ممّا فعلت ..صحيح أنّ أذيّتك زحفت على سطح عظام المغدور واخترقتها كمرض بدا لفترة وجيزة من الزمن أنه غير قابل للشفاء ولكنّه في نهاية المطاف خرج من تلك الدّائرة الّتي سجنته في داخلها ،وهاهو اليوم يشرب نخب السّعادة ويرفعه عالياً ويبارك لنفسه بأنّه تجاوز كلّ من أساء له بل وضعه في سجلّات الموتى ،تمكّن من جمع أجزائه المشتّتة ،داوى جراحه ،استعاد ابتسامته ،وقّع عقداً جديداً مع نفسه وتعافى من ألم سهم كذبك الّذي صوّبته فلم يُخطئ فؤاده …
‏صدّقني شُفيَ منك تماماً وأمّا أنت ..أؤكّد لك بأنّ الأيّام ستدور دورتها العادلة لترمي بك في نفس الدوّامة و تتجرّع من نفس الكأس الّذي أسقيته لسواك ،ستخلص لأحدهم حدّ الجنون و سيغدر بك و يتركك وسط الزْحام تائهاً و حولك ضباب كثيف تسترجع شريط الذّكريات في رأسك وتتساءل عن السّبب الّذي أوقعك بين يديّ خوّان لا يرحم ولكن لن تجد الإجابة أتعرف لماذا ؟
‏لأنّ من يشبهك يسري في جسده دماً مكوّناً من الخبث والمكر له مثلما فعل يوماً ما ..
‏اكتب يا قلمي :
‏من يتركنا في لحظات انهيارنا لسنا بحاجة له عند ازدهارنا..
أتذكّر أنّ حواري انتهى في تلك الأمسية عندما سالت قطرات من حبر يراعي على صفحاتي البيضاء و بدأ يخطّ ما اعترى مشاعري على هيئة كلمات لتبلغ مرادها وتدخل إلى كلّ روح نقيّة عُجِنَت بالطّيبة والإخلاص عساها تكون دواءً لها عند الوجع وتكون عبرة لكلّ نفس ابتلعت الشّرّ وتغذّت عليه إلى أن أصبح من تركيبها ومكوّناتها…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى