في هذه البلاد … الآن

الأديب السُّوري موسى رحوم عبَّاس | السُّويد – 8/ 2021

اللوحة للنحَّات والتشكيلي السُّوري حسن حمَام

       نحن الهاربين من حَيَواتنا، نتسلَّل من أحيائنا الضَّيقة إلى المدن،نتلصَّص بخفَّةٍ على البنوك والواجهات الزُّجاجية، نرى أنفسنا في المرايا قصيري القامة، وبلا عينين غالبا، مجرد حفرتين عميقتين يظللهما السَّواد، يحمل أحدنا صُرَّةً ربطها من الأعلى جيدا، حشا فيها أحلامه وخيباته؛ فانتفخت كعجلات سيارة العسكر، الصُّرَّة مثقوبة، نفرشها أمام الجامع، فيمر المؤمنون عقب الصَّلاة، يجودون علينا ببعض أحزانهم، يرمونها على عجلٍ، كأنهم يتخففون من حملها، تغيب ظلالهم بين السيارات المسرعة، الصرَّة المثقوبة تسيل منها أحلامنا الصَّغيرة، بينما تحتفظ بخيباتنا الكبيرة، يساعدنا ” أولاد الحلال” على رفعها على كواهلنا، ويتمتمون بألا يبتليهم الله بما ابتلانا به!

  قرَّرتُ مرَّةً أن أدفن تلك الصرَّة تحت جذع شجرة، أو أتعمَّدَ نسيانها في موقف الحافلات، لكنني دائما ما أجدها أمام باب غرفتي، مع ورقة تفيد “أنَّ شخصا أمينا أعادها لي” فهذه البلاد تعدُّ الأمانة أصلا للحياة!

إذا كان الشَّارع واسعا، لماذا يضيق بي؟!

وإذا كانت الحديقة مليئة بصنابير المياه، لماذا يقتلني الظمأ؟!

الأرض واسعة، واسعة، لكنني لا أجد فيها مُتَّسعا لساقيَّ، اُضْطَرُّ لثنيهما كثيرا حين يدهمني النُّعاس!

قلتُ لمُشرَّدٍ ( Homeless ) مرَّة ونحن متجاوران في مدخل المترو في مدينة كبيرة، لِمَ تحملُ صرتكَ، وتمضي هكذا! أخبرني أنَّ من لا يملك شيئا لا يخافُ على شيء، لذا أنا سعيدٌ لأني لا أعرف الخوف!!

في هذه البلاد نسكن خيباتِنا وخوفَنا، نلبسهما كالملابس الداخلية، نستر بها عوراتنا، الشجرة التي أسند ظهري إليها تخاف من فأسي، والعصافير السَّاكنة أغصانها، تخاف من الفخِّ الذي نصبتُهُ لها، عافت حباتِ القمح التي نثرتُها؛ تُرى هل لديها مُخبِرٌ يسجِّل تفاصيل نيتي في شوائها؛ فأنا جائعٌ أزليُّ !

سأسألُ أهلَ هذه المدينة عن رائحة الخبزالسَّاخن! سأسألهم عن معنى ” النَّوم” دون أن تنتظر طارقا! عن القصيدة التي قتلت صاحبها، عن حروف الهجاء المُسالمة! عن الجزيرة التي تقع ما وراء الشَّمس، ودروب “الذُّبَّان” الأزرق ،وهل مازالت الرحلات لهما متوفرة؟!…

سأسألُ، ولن أنتظرَ الإجابةَ

أليستْ هذه البلاد بلادي؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى