قراءة في ديوان الشاعر التونسي جلال باباي: “ مسرّات و حصار ”

محمد المحسن | تونس
                   
“القصيدة تكتب شاعرها”  (موريس بلانشو)
يثير ديوان “مسرّات.. وحصار” الصادر عن الشركة العالمية للطباعة – سوسة —2006 – طائفة من المسائل المتصلة بجماليات الإبداع الشعري، وفلسفته، وتلقيّه ولا سيما وأنّ الشاعر التونسي – جلال باباي – يستحضر عوالم متعددة تضيف إلى أسئلة الوجود في ذهن المتلقي ما من شأنه أن يجعله يعيش تجربة جمالية فريدة وهو يرحل مع الكلمات والوقع والصور. ولعل المسألة الجوهرية ماثلة في أفق الحنين المفتوح بإطلاق على اللانهاية من حيث هي فضاء لوجود الكائن،وتطلّع إلى الفعل الدائب، والتحوّل المستمر. فكيف يمكن أن يُشرح هذا الأمر،وما خلفياته ومسوغاته؟
علينا أوّلا الإشارة إلى أن ثمة – من بين صنوف الأسلوب – نوعين من التعبير الشعري في إستحضار الأشياء: تعبير واضح يعبر الإدراك، ويضيف الشيء كما هو، وتعبير قوي يعبر العاطفة، ويصف الشيء كما يحس(1). واقتران هذين النوعين يطبع لغة”مسرّات.. وحصار”المجبولة من طين تعبيري جمالي قوامه تفكير، وفعل، وألم، إذ إنّ الرؤية الإبداعية للشاعر تشحن الكلمات بأصداء فريدة تجاوز الرنين الموسيقي المألوف وتخترق لب الدلالات المحفوظة في ذاكرة المتلقي.كما أنّ صوت الشاعر ينداح مع كل صدى معيدا أو ساعيا إلى إعادة تكوين الموجودات تكوينا جماليا خاصا به،مميزا له. وهذا ما يوجب إدراج التحليل في نقطتين سنتناولهما بإيجاز،وهما:
1- خصائص التعبير، وجمالية التفكير المبدع:يتجسد صوت الشاعر في تشكيلات تعبيرية ذات ايقاعات تطول وتقصر بحسب الدفق الشعوري ومداه في القصيدة الواحدة.ومن ثم يسهم بناء التراكيب اللغوية-إلى حد بعيد-في تنوع التعبير والإيقاع على السواء،حيث تتناوب الجمل الفعلية،والجمل الإسمية،وأشباه الجمل،وأسلوب الإستفهام تناوبا رباعيا شبه مطرد وخصوصا في”الطريق” و”ضجيج الموت”(2).وليس التناوب في ذاته هو ما يولد التدرج الإيقاعي،بل يولّده التفكير المبدع الذي يخلق كونا جماليا تارة من مادة التساؤل المتحولة للعناصر الملفوفة بالحنين،وتارة من الصور الوامضة المتناوبة هي الأخرى مع الصور المتهادية الوئيدة(3).
-تتكوّن مادة التساؤل من عناصر الذات وعناصر محيطها الخاص والعام.إنّما تظل الذات محور المحيطين معا مثلما يتبيّن في المقاطع الآتية حيث يتوزّع التساؤل بين ضمير المتكلم وضمير المتكلم الجمع:
-كم من الهذيان يلزمني؟لأعدّل عقارب البوصلةوأرصد أصواتنا المبحوحة/..كم من الطين يحتاج صلصال انسانيتنا؟لطرد أخيلة الشيطان (4)..
ونحسب أنّ بعضا من قصائد الديوان ترتكز على الإستفهام الذي يؤسس فلسفة الغياب وصيرورة التحوّل قبل أن يفقد وظيفته ويتبدّد مع تبدّد الكائن الراسف في قيود وجود مُترد هو أصلا موضوع التساؤل والدافع إليه ..
2-الكتابة وجماليات الألم: تحدّث النقّاد كثيرا عن أنّ الكتابة وليدة المعاناة ومكابدة فظائع الحياة ومآسيها،وأفادوا بأنّ النصيب الأوفر من جمالها يعزى إلى قدرتها على جعل المتلقي يشارك في عيش تجربة الألم التي عاشها الكاتب.أو لم يقل:ليس ثمة ما يولد أدبا عظيما  مثل ألم عظيم؟
وعلى الرغم من ذلك،قد تكون الكتابة غناء الألم(5) وقد يكون الشعر فكرة ترقص على أنغام الألفاظ،والمتلقي بدوره يستشعر جمال هذه اللغة المموسقة،فيهتز لها،ويتفاعل معها(6) وربّما لهذا السبب يرى بعض النقاد في لغة الشعر”حلوى اللغة” والحق أنّ لغة”مسرّات ..حصار” تستوقف القارئ بجرس ألفاظها،وايقاعات تراكيبها،وايحاءاتها.ويستوقفه كذلك تجاور كلمات خارجة من النسيان،تبعث رنينا خاصا يوقظ الإحساس بالقدم والجدة في آن معا: زئير الأجراس،عويل العواصف،همس الوجود….وكأنّما تأتي قصيدة”عناقيد الضياء” شاهدا على أنّ الشاعر يختتم ديوانه بملاعبة اللغة واختبار براعات الألفاظ في الإستجابة لرغبته في الإستراحة داخل-خيمة ماكثة صوب الرّيح-.وعلى الرغم من ذلك،لا يحول النسيج  اللغوي الكثيف،على امتداد الديوان،ولا حلوى اللغة،دون أطياف الألم المترائية من ثناياه،ومن وراء لحمته وسداه.فتشكيله الدلالي يستند إلى مقولة”اللامتوقع في الأسلوب”التي تتجلى على مستويين اثنين:
أ-المستوى المجازي: حيث تنشأ بين الألفاظ تفرعات من المعاني التي ترسم صورا تنطق بالمعاناة الحبيسة للذات الشاعرة.وليست المعاناة النابعة من الصور غير المتوقعة إلا تعبيرا عما يمكن أن ندعوه ب”القلق الإبداعي”الناتج عن التجربة الجمالية لإعادة خلق العالم.ومن أعراض هذا القلق التناقض بين الباطن القابع في الطوية،ومظهرهُ المرئي أو المحسوس كما نلمح في المقطع الآتي من قصيدة:بهجة المدينة”:
-..عند مفترق القلق….مترهل الخطى أحتمي بخجل الأزقة..(7)
فالإحتماء-في هذا المقطع-علامة على مغالبة الذات المبدعة لتوتر داخلي مترافق مع تعثر التجربة،بينما ظاهر التوتر سلوك معتاد أشبه بقناع يتخفى وراءه مجرد شبح.والغريب أنّ وراء التناقض المشار إليه حنينا يفصح عن أنّه لا يوسع جنبات القلق وحسب،بل يعمّق المعاناة أيضا..
ب-المستوى الإيحائي: يتأتى الإيحاء بالألم من اللفظة والتراكيب والصور المجازية مثلما يتأتى من بين السطور،وهو-قياسا إلى قصائد الديوان-أشبه ما يكون بالبخار المتصاعد من بحيرة مياه ساخنة. وتعود جماليته إلى كونه شديد الإلتصاق بالهم الإبداعي وبتجربة الشاعر في مكابدة الواقع بقوة الشعر وسحره.إنّه ألم الوعي الحدسي الذي تترجمه ألفاظ،وعبارات لا فتة:ضجيج الموت(عنوان القصيدة الثالثة) أفئدتنا ورياح القلق(عنوان القصيدة الثامنة)،مواسم الرحيل(عنوان القصيدة العاشرة)..وفي هذه القصائد يتوازى المهدُ والنعش،يتساوى القماط والكفن(مما يذكرنا بنظرة المعري إلى مغزى الحياة والوجود)..قصائد موغلة في التشظي والألم الواخز..
وحدة المعجم وتعدد السياق:
إنّ الغوص في حمأة”مسرّات و..حصار”يكشف لنا عن شبكة معجمية توحد نصوصه الشعرية،حيث تستبيح أذهاننا العديد من الألفاظ التي تتكرر في مجموع القصائد من جهة،وفي القصيدة الواحدة من جهة أخرى،وهذه ملحوظة قد يجليها إحصاء ألفاظ المتن الشعري،وتنبع المواد اللغوية المتكررة،وهي عملية-على صعوبتها-تبدو غير مجدية في الظاهر،لكنها من الناحية العلمية تكشف عن فعل شعري أسس عليه هذا الإبداع بأكمله،واحترازا من الإطالة وخشية الملل،أشير إلى بعض الألفاظ التي أحسبها سوار وأعمدة لهذا المتن الشعري هي: القلق- الحزن-الريح-الرحيل-الصهيل-النخيل -الليل-الطريق-الفصول-الشتاء-القصيد-الخريف-المطر-الحلم-الوصايا-الصباح-الفراشات..
غير أنّ تكرار مثل هذه الألفاظ، لا يدخل في إطار ما عبّر عنه القدماء بضيق العطن،لأنّ دلالة اللفظ تتجدّد من سياق تركيبي ونفسي إلى آخر.أضرب لذلك مثلا واحدا عالم النخيل في المتن،فالنخل مرة يجسد ماضيا أصيلا،ورمزا للعروبة وكرم النحيزة والعصبية العروبية،ورفضا للذل لا مثيل له (8) وهو أيضا واقع حالي يسكنه الصمت والتيه وانكسار الهوية (9) ثم هو أيضا شهوة وألق وبغية تشكل الأمل في الإنعتاق والمستقبل المضيء (10) .
ويمكن حصر هذه الدائرة المعجمية المتكررة في محاور لا يكاد يزيغ عنها هذا المتن الشعري:
1- محور الموت والجرح والحزن والنزيف والدّم، وما في حكم هذه المعاني.
2-محور الماء والبحر والمطر والواحة والغيم والثلج..وما في حكمها.
3- محور:الضوء والنور والشمس والقمر والليل والفجر والصباح والفراشات،وما في حكمها.
4-محور:الصوت والصمت والصهيل والصخب،وما في حكمها.
5-محور:الحب والعشق والأحبة،وما في حكمها.
6-محور:البكاء والعويل والمراثي،وما في حكمها.
إنّ هذه المحاور تأخذ بعدا خلاّقا في عملية الإبداع الشعرية بتعدد    السياق الذي تجيء فيه،إنّه أشبه ما تكون بنغمة أساسيةkeynote تجسّد المعاناة بكاملها وتعبّر عن جوها العام.
ومن خلال السباحة في هذه الدائرة المعجمية المغلقة نحس بأنّها حصار للمعاناة،فكأن كل الهموم المحلية والعربية تدور في حلقة مفرغة ولا بد أن يعيا بها الدوار فيتمخض عنه فك الحصار،وانكشاف بوابة الأمل والصبح.لأجل ذلك فإنّ اعتماد الشاعر هذه المحاور أساسا في بنائه الشعري هو اختيار شعري مبيت ومقصود،وليس مجانيا ولا فقرا في المعجم.
نحن-إذن أمام حكاية ومنسوج شعريين يميزهما منطق خاص هو منطق الشعر،يتسوران محراب المعاناة والواقع المؤلم،ويقدمان حلما باشلاريا،كل ذلك يفجر نفسه من خلال صور وعلاقات شعرية وثنائيات وأضداد،وإيقاعات سردية وفنية تركس في الزمن الغابر وتعمق الإحساس بالحاضر وتستشرف المستقبل.
و”مسرّات و..حصار”بهذه الصورة تنم عن جدية في التعامل مع اللغة من جهة،ومع فكرة الشعر من جهة أخرى،وليست فكرة الشعر سوى الأرق والسؤال،نحسهما في كل كلمة،في كل صورة،في كل قصيدة،فيوحدنا مع الشاعر قلق الصور وبلاغة الشعر.
الهوامش:
1)انظر: burke(E).recherché phiolosophique sur l’origine de nos    idees du subime et du beau .Paris editions St Vrin 1973-P291.
2)انظر:مسرّات و..حصار،ص15-48
3)للمزيد من الإيضاح انظر:مورو(فرانسوا).الصورة الأدبية،ترجمة علي نجيب ابراهيم.منشورات دار الينابيع،دمشق 1994.
4)مسرّات و..حصار،نفسه.ص:53/54
5) انظر:
Sarte(J.P).qu،est-ce que la litterature/Paris.Gallimard 1848.p 15
6)انظر:
  Kraftt (J). essai sur l’esthetique de la prose; Paris; editions Vrin. P13.
7)مسرّات و..حصار،نفسه ص:7
8)نفسه،ص:12
9)نفسه،ص:20
10)نفسه،ص:30

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى