الصحة الانفعالية.. تعريفها وملامحها

تجميع وإعداد: د. محمد السعيد أبو حلاوة أستاذ الصحة النفسية المشارك، كلية التربية –  جامعة دمنهور

ما المقصود بالصحة الانفعالية؟What Is Emotional Health؟  أحد الأسئلة المركزية في أدبيات علوم الصحة النفسية تعددت بصورة شديدة الإجابات عنه تبعًا للإطار النظري الذي ينطلق منه في وصف وتفسير ماهية “الصحة النفسية” بصفة عامة، ورغم ذلك يشار إلى الصحة الانفعالية على أنها تجسيد لقدرة الشخص على تقبل انفعالاته ومشاعره وتفهم ديناميات تخليقها وتأثيراتها على تفكيره وسلوكياته؛ ومن ثم تنظيمها وإدارتها بصورة تكيفية إيجابية، من جانب آخر تعكس الصحة الانفعالية قدرة الشخص على الحفاظ على هدوئه وتماسكه واتزانه الانفعالي عند تعرضه لضغوط الحياة وشدائدها ومحنها وصدماتها، دون أن يعني ذلك التنكر لانفعالاته ومشاعره أو إدارة ظهره لها أو توجهه لقمعها، بل من مقتضيات الصحة الانفعالية جودة وإيجابية التعبير عنها وظيفيًا، والإبحار في الحياة بذهنية اعتبار منغصاتها ومتاعبها اليومية جزءً مركزيًا في بنيتها؛ ومن ثم التعامل معها كفرص للاستجابة التكيفية مع تجنب ردود الأفعال الموجهة بالاستياء والضيق والرفض.

ويجدر التنويه إلى أن “الصحة” بصورة عامة تتضمن جوانب جسمانية وانفعالية وذهنية واجتماعية وروحية، وهي دالة للتوازن بين هذه الجوانب، بما ينتج عن هذا التوازن من تمكينٍ للشخص من الارتقاء والازدهار في الحياة والتمتع بمستوى مرتفع من التنعم والهناء فيها.

وتتضمن “الصحة الانفعالية” ثلاثة مكونات مركزية أساسيةتتمثل فيما يلي:

(1) الذكاء الانفعاليEmotional intelligence.

(2) ضبط وتنظيم الانفعالات والمشاعر أو ما أفضل تسميته “الإدارة الإيجابية للذات الانفعاليةEmotional regulation”.

(3) الوجدان الموجبPositive affect.

ويجدر الإشارة أيضًا إلى أنه ورغم شيوع مفهوم “الهناء الانفعالي emotional wellbeing ” مع تزايد التوجه نحو الترويج لعلم النفس الإيجابي، إلا أن الهناء الانفعالي يتعذر فهم مضامينه ودلالاته ومؤشراته إلا في سياق فهم ماهية “الصحة الانفعالية” بوصفه المفهوم أو التكوين النفسي المظلي أو الأكثر اتساعًا أو بلغة المناطقة يستغرق دلالات: الذكاء الانفعالي، والتنظيم الانفعالي، والوجدان الموجب، وفي نفس الوقت “الهناء الانفعالي”.

من جانب آخر ينبغي الانتباه إلى أنّ “غياب الانفعال”، لا يعني أو لا يساوي “الصحة الانفعالية”، مثلما أن “نقص أو غياب مؤشرات المرض النفسي”، لا يعني أو لا يساوي “الصحة النفسية”، وإذ تعود شخص ما على قمع انفعالاته ومشاعره خاصة في مرحلة الطفولة، فإن ملامح “الصحة الانفعالية” لا يمكن أن توجد لديه على الإطلاق، بل الصحة الانفعالية دالة في جزءٍ أساسي منها لما يمكن تسميته “الإدارة الإيجابية للانفعالات والمشاعر” بدلالة عمليات انفعالية أساسية تتمثل في:

  • الحساسية الانفعاليةEmotional sensitivity .
  • الفهم الانفعاليEmotional Understanding .
  • الضبط الانفعاليEmotonal Control .
  • مراعاة القواعد الاجتماعية للإظهار الانفعالي Social Display Rules of Emotional Expressivness.
  • التعبير الانفعالي التكيفي والإيجابيAdaptive & Positive Emotional Expression.

والحياة اليومية حُبلى على الدوام بسلسلة لا تنقطع من الأحداث والخبرات والوقائع المفرحة والمحزنة، شأنها شأن أمواج البحار والمحيطات، بمعنى أنها الحياة اليومية لا تعرف الاستقرار في الأحداث المنشطة لنطاق واسع من الانفعالات والمشاعر بتناقضاتها وتبايناتها على مدار الساعة، والشخص السوي انفعاليًا أو من يتمتع بمستوى مرتفع من الصحة الانفعالية هو ذلك الشخص القادر على إدارة وترويض ذاته الانفعالية في سياق هذه الموجات المتقلبة للمشاعر بدون توتر أو مشقة أو كرب.

وما يمكن التأكيد عليه أن “الكرب الانفعالي Emotional distress أو المشقة والضيق الانفعالي” كحالة مناقضة للصحة الانفعالية تزيد من احتمالات معاناة الناس من الوقوع في غيابات جب الأمراض الجسمانية فيما يعرف على وجه التحديد بالاضطرابات السيكوسوماتية، بل وتجعل الشخص أكثر عرضة لمخاطر الإصابة بأمراض القلب والجهاز الدوري، فضلاً عن إضعاف كفاءة ووظيفة المناعة الجسمية(Stewart-Brown, 1998).

وأظهرت نتائج دراسات عديدة أن “المشقة والضيق الانفعالي” وما يصاحبه من اختلال في الدوائر العصبية بما يترتب على ذلك من إمكانية في إتيان الشخص بسلوكيات مختلة وظيفيًا وربما ولوجه في مسار سوء تعاطي المواد المخدرة(Sinha, Lacadie, Skudlarski, & Wexler, 2004).

ويتصف ذوو المستوى المرتفع من الصحة الانفعالية بعدد من الخصائص يمكن تناولها فيما يلي:

  • الوعي بالذاتSelf-awareness:

ويعد بالذات الخاصية المركزية في التكوين النفسي لذوي المستوى المرتفع من الصحة الانفعالية، فالشخص السوي انفعاليًا ينظر إلى ذاته وصفًا وتحليلاً وتدبرًا؛ ومن ثم تفهمًا لذاتك الانفعالية وما يستتبع ذلك من إعادة تأطير لانفعالاتك ومشاعرك إيجابية كانت أم سلبية بصورة تمكنك من استثمارها في تيسير تفكيرك وترشيد أفعالك. وترتقي القدرة على الوعي بالذات منذ الطفولة وشأنها شأنها عضلات الجسم تحتاج إلى تدريب ومثابرة واجتهاد.

  • تقبل الذاتself-acceptance:

ويفترض أن تكون خاصية مقترنة تمامًا بالوعي بالذات وناتجة عنه، فالشخص السوي انفعاليًا يتقبل ذاته بالصورة التي هو عليها لا تماهيًا معها ولا رضا بما بها من بواطن ضعف أو مظاهر قصور بل انطلاقًا منها لتجويد ما يقبل التجويد وتصويب ما يقبل التصويب وتنمية وتقوية ما يقبل التنمية واستثمار مكامن قوته ومظاهر تميزع إثباتًا لذاته وإعرابًا عن أصالة وجودها، وبتطبيق هذا الأمر فيما يتعلق بما يعتري الشخص من انفعالات ومشاعر يعني التقبل تعامله من النطاق الواسع للانفعالات سواء كانت إيجابية أو سلبية ويخطئ من يتصور أن ليس للانفعالات السلبية وظيفية تكيفية، فأن يغضب الإنسان عندما يظلم أو يتعرض للإهانة أمر عادي وسوي ومن ملامح الصحة الإنسانية الاستجابة لهذا الغضب بما يصون كرامة الذات ولا يهين أو يجرح الآخرين في نفس الوقت، أما الشخص المعتل انفعاليًا Emotionall Ill Person هو من يتعامل مع المواقف المثيرة للانفعالات السلبية باندفاعية وتدهور وعلى مستوي ردود الأفعال الفورية والمباشرة دون تدبر في عواقبها أو ما يمكن أن ينجم عنها من تداعيات سلبية.

  • رعاية الذاتself-care:

فارتفاع مستوى رعاية الشخص لذاته واهتمامه السوي بها مؤشرًا أساسيًا من مؤشرات صحته الانفعالية، ويعبر عن رعاية الذات عادة في أدبيات المجال باستخدام مصطلح “الرفق بالذات والشفقة بهاSelf-compassion” واهتمامه بصحته الجسمانية وبنوعية علاقاته من ذاته تقبلاً ورأفة ورقة وذوقًا وتسامحًا وإقرار بيقين بإمكانية أن يكون عرضة للخطأ والنسيان وارتكاب الأخطاء شأنه شأن أي إنسان في الحياة.

  • الرشاقة الانفعاليةEmotional agility:

يشي تعبير “الرشاقة” بالدهاء والخفة والدقة والمهارة والحذق وسرعة رد التجاوب مع المثيرات الحياتية، وتعد الرشاقة مكونًا مركزيًا من مكونات “اللياقة Fittness” في تفاعلها مع التحمل والجلد والمرونة، والشخص الرشيق انفعاليًا كملمح من ملامح الصحة الانفعالية ليس محصنًا ضد عثرات الحياة وشدائدها، إلا أنه يتميز بسعة الأفق والانفتاح العقلي والجسارة والجرأة وعمليات التفكير القائم على اتساع المنظور وتعددية الرؤية؛ ومن ثم القدرة على الارتقاء والازدهار رغم متاعب الحياة محتنها وعثراتها، فهو كمن ينطبق عليه مقولة “لا تزلزله الزازل، ولا تهينه النوازل”.

  • مهارات المواجهة والتوافقcoping skills:

وتمثل خاصية مركزية في التكوين النفسي للأسوياء انفعاليًا، وتعد مهارات المواجهة والتوافق المقوم الأساسي للصمود النفسي في مرونته وفي تمكينه للشخص من التعافي من التأثيرات النفسية لصدمات الحياة وأزماتها وسرعة النهوض بعد العثرات بل والازدهار في إطارها، ويقصد هنا بمهارات المواجهة والتوافق قدر الشخص على الاستثمار المتوازن بين استراتيجيات مواجهة الضغوط القائمة على حل المشكلة واستراتيجيات مواجهة الضغوط الموجه للتعامل مع الانفعالات والمشاعر الناتجة عن الأحداث الضاغطة والظروف العصيبة، بما ينتج عن ذلك من سلام نفسي داخلي وحالة الاستقرار والهدوء الانفعالي وسط الأزمة أو الصدمة.

  • التعامل مع الآخرين برقة ولطف وحنو ونزاهة Treats others with kindness and integrity:

يتميز الشخص السوي انفعاليًا بالقدرة على التعامل مع الآخرين بلطف وذوق وتأدب وحياء وتعاطف وشفقة ونزاهة وإنصاف حتى وإن كانوا مصدر معاناته أو مشكلاته في الحياة، فما دخل التأدب والحياء والرقة في شيء إلا زانه وهو المقوم الأساس لكسب القلوب وتوليفها وفقًا لمقولة “إن كسب القلوب وجبر الخواطر أولى من كسب المواقف والانصار للذات”، من جانب آخر من ملامح التعامل مع الآخرين برقة ولطف ونزاهة التفاعل معهم بتقبل وتفهم وشغف واهتمام إيجابي وتسامح وصفح وعفو.

  • العيش وفقًا لغرض إنساني نبيلLiving with purpose:

فالشخص السوي انفعاليًا ينقب لكل اجتهاد عن معنى الحياة بصفة عامة وعن المعنى الشخصي للحياة بصورة خاصة، ويستبصر مغزى الحياة وغاياتها الإنسانية الراقية دون تمركز طاغٍ حول الذات بل العيش من أجل غرض أو هدف يتجاوز حدود ذاته بنطاقها الخانقة وتخومها الضيقة، تجسيدًا لدلالات التسامي الروحي والتسامي بالذات.

  • إدارة الضغوط والمشاق Stress Management :

يتميز الشخص السوي انفعاليًا بالقدرة على الإدارة الإيجابية للضغوط والمتاعب والمشاق الحياتية، وممارسة كل ما يفضي به إلى السكينة النفسية، كأنه القائد الإنساني لذاته في أوقات الضغوط والمحن، وفقًا لدلالات ما يعرف اصطلاحًا بالكفاءة أو التمكن الذاتي كأحد أهم مقومات الصحة النفسية بصورة عامةSelf-mastery.

راجع:

Kelly Miller (2021). What Is Emotional Health? 11 Activities and Assessments to Enhance It: https://positivepsychology.com/emotional-health-activities/

للمزيد:

  • Chida, Y., Steptoe, A., & Powell, L. H. (2009). Religiosity/spirituality and mortality. Psychotherapy and Psychosomatics, 78(2), 81–90.
  • David, S. (2016). Emotional agility: Get unstuck, embrace change, and thrive in work and life. 
  • Dozier, J. O. (2010). The weeping, the window, the way. 
  • Fredrickson, B. L. (2009). Positivity: Top-notch research reveals the 3-to-1 ratio that will change your life. 
  • Gärling, T., Krause, K., Gamble, A., &Hartig, T. (2014). Emotional well-being and time pressure. PsyCh Journal, 3(2), 132–143.
  • Galderisi, S., Heinz, A., Kastrup, M., Beezhold, J., & Sartorius, N. (2015). Toward a new definition of mental health. World Psychiatry: Official journal of the World Psychiatric Association (WPA), 14(2), 231–233.
  • Hallion, L. S., Steinman, S. A., Tolin, D. F., &Diefenbach, G. J. (2018). Psychometric properties of the Difficulties in Emotion Regulation Scale (DERS) and its short forms in adults with emotional disorders. Frontiers in Psychology, 9, 539.
  • Hanson, R., & Hanson, F. (2020). Resilient: How to grown an unshakable core of calm, strength, and happiness. 
  • Hawks, S. (2004). Spiritual wellness, holistic health, and the practice of health education. American Journal of Health Education, 35(1), 11–18.
  • House, J., Landis, K., &Umberson, D. (1988). Social relationships and health. Science, 241(4865), 540–545.
  • James, S. L., Abate, D., Abate, K. H., Abay, S. M., Abbafati, C., Abbasi, N., … Abdelalim, A. (2018). Global, regional, and national incidence, prevalence, and years lived with disability for 354 diseases and injuries for 195 countries and territories, 1990–2017: A systematic analysis for the Global Burden of Disease Study 2017. The Lancet, 392(10159), 1789–1858.
  • Keyes, C. L. M. (2002). The mental health continuum: From languishing to flourishing in life. Journal of Health and Social Behavior, 43(2), 207–222.
  • Kowalenko, N., Wignall, A., Rapee, R., Simmons, J., Whitefield, K., & Stonehouse, R. (2002). The ACE program: Working with schools to promote emotional health and prevent depression. Youth Studies Australia, 21(2), 23–30.
  • Patel, J., & Patel, P. (2019) Consequences of repression of emotion: Physical health, mental health, and general well being. International Journal of Psychotherapy Practice andResearch, 1(3), 16–21.
  • Seligman, M. E. P. (2002). Authentic happiness. Nicholas Brealey.
  • Seligman, M. E. P. (2012). Flourish: A visionary new understanding of happiness and well-being. Atria Books.
  • Stewart-Brown, S. (1998). Emotional wellbeing and its relation to health. British Medical Journal, 317(7173), 1608–1609.
  • Sinha, R., Lacadie, C., Skudlarski, P., & Wexler, B. E. (2004). Neural circuits underlying emotional distress in humans. Annals of the New York Academy of Sciences, 1032(1), 254–257.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى