النسوية وتبلورها الفكري

د. نادية هناوي | العراق

Painting by Antonio Guzman Capel 

إن الحديث عن بلورة فكر نسوي عربي يخترق ترسانة الفكر الذكوري أو يقف في مصافه يبدو أمرا ضعيف التحقق، ما لم يكن هذا التأسيس مبنيا بناء واعيا على التأمل الدقيق والعميق في أحوال المرأة مع النظر الموضوعي للنسوية وهي تواجه التحديات محاولة اجتياز القلاع متحصنة بالتروس. وبالشكل الذي يجعل لهذا الفكر موقعه الدينامي المهم والفاعل في الحياة كما له هويته التي بها يؤكد مشروعية ما يسعى إلى تحقيقه وقوة ما يخطط له ويبني عليه، فارضا أنظمته ومحددا قوانينه ومركِّزا تجاربه بمحصلات واقعية دقيقة وأكيدة.

قبل أي بحث عن تأسيس عربي لفكر نسوي علينا بدءا الوقوف عند النسوية العربية نفسها وتأمل كيفية تشكلها في خضم بعض البوادر الفردية التي ظهرت في مصر مطلع القرن العشرين وبشكل تلقائي من خلال نساء عربيات متعلمات كان نضالهن أول الأمر اجتماعيا يتعلق بالتعليم والعمل ثم توسع إلى السياسة والانضمام للأحزاب وتبني المواقف الوطنية داخل مجتمع ذكوري ذي سياقات راسخة ومتجذرة. ولم يكن يسيرا بالطبع خلخلة ثوابت هذا المجتمع دفعة واحدة؛ بيد أن كفاح المرأة في مصر استمر بعد الحرب العالمية الأولى ليمتد إلى بلدان عربية أخرى كسوريا والعراق ولبنان وفلسطين وغيرها.

وصار فضاء النسوية العربية فضاء عاما بعد أن اجتمعت فيه الحياة الاجتماعية بالحياة السياسية والعلمية بالثقافية والمحلية بالدولية كما تنوعت فعاليات هذا الفضاء فمن معترك التعليم والعمل والاحتجاج والتظاهر والتحزب وتشكيل الكيانات النسوية المستقلة كاتحادات وجمعيات إلى معترك الكتابة والتأليف المتخصص في المرأة وتعليمها وعملها وبتصورات ورؤى هي بمثابة عتبة دخول جريء للنسوية العربية مع النسوية العالمية.

وقد رافقت بعض مظاهر النسوية العربية صور داعمة لرجال امتلكوا التفكير الواعي بالمرأة ونصرتها، واعين بأهميتها ومكانتها في المجتمع وبروح تنويرية وإصلاحية فساندوا تحرير المرأة العربية أما في شكل كتب أو خطب أو مقالات أو قصص أولمطالبات بتشريعات وقرارات تخص المرأة وتصب في صالحها ومنها ما تبنت تطبيقه بعض المؤسسات النسوية أيضا.

وبالطبع وراء تلك التفاضلية الذكورية المجحفة عقلية عربية متزمتة لا تريد أن تغير معايير تقييمها للمرأة. وليس مستغربابعد ذلك أن لا نجد للنسوية موقعاً فكرياً واضحاً وأكيداً في خريطة الفكر العربي المعاصر باستثناء بعض المحاولات النادرة والفريدة مع أنّ النسوية في أساس تكونها المعرفي وجوهر انتمائها الفكري ترتبط بعالم الفلسفة ارتباطاً لا مجال لدحضه أو الارتياب فيه.

ولأن التلازم بين النقد والفلسفة في توطيد النسوية كفاعلية وكينونة أمر مهم، يغدو ارتكان النسوية الأحادي إلى النقد وحده وتعويلها عليه،مشابهاً لذلك الذي يسير على قدم واحدة. وهو ما يجعل تقدمهابطيئاً، فتغدو الطريق التي يمكن قطع مسافتها بخطوة واحدة تقطع بخطوتين.

وأهم معول من المعولات الفكرية التي تضع النسوية في لب الفاعلية الفلسفية وتجعلها جزءاً من اهتمام الفكر العربي المعاصر هو النظر إليها بمنظار جديد يخرجها من قمقم التعيين المحدد والتمييز المخصص والمغلق إلى فضاء التعميم بكل ما يعنيه من الانفتاح والاكتمال والشمول والشيوع والانتشار.

من هنا تغدو العمومية محطة المحطات التي منها ينبغي أن تنطلق النسوية منها في التعبير عن المرأة، مدللة على أنها ليست موضوعاً من الموضوعات، ولا قضية من القضايا التي فيها يجد الرجل ذاته ولا هي تعلة كيان يريد اعترافا أو حقوقا أو امتيازات؛ وإنما هي كيان غُيبت أفضيلته فضاعت أهميته. ولا بد له أن يثور ثورة كاملة هي فكرية قبل أن تكون عملا ميدانيا.وليس هذا الثوران يسيرا ولا متحققا ما دامت النسوية ترى نفسها هي النساء جميعا ولا تنظر إلى الواحدة منهن نظرة اعتبار فيها كل امرأة ليست مثل غيرها من النساء،بل يختفي الواحد في المجموع وقد يضيع المجموع نفسه من خلال ضياع الواحد فيه من دون هدف أسمى.

إنّ مفهوم المرأة هو في الحقيقة قولبة لمفهوم النسوية فيكون استمكان حضور المرأة مفردا مكتملا بحضور الكل النسوي مجموعا، فيه كل امرأة هي عضو دائم لا طارئ، له خصوصيته مثلما للنساء عموميتهن. بهذا التصور فقط تترسخ فكرة اختلاف كل امرأة عن أخرى داخل نسوية موكلة بالتعبير عن النساء كلهن كمكون إنساني حاضر في كل زمان ومكان وله أطرافه مثلما له بؤره التي توحد ميادينه سياسيا واجتماعيا ونفسيا وتاريخيا وجغرافيا وقبل ذلك كله تركز النسوية أهدافها على وفق منظور فلسفي واضح المعالم والدعامات.

ولن تكون انطلاقة النسوية انطلاقة فلسفية ما لم يكن لتصوراتها الفكرية تجذر واقعي به تصنع حاضنتها الثقافية التي فيها تكمن مبتغياتها الخاصة التي لا تريد تحدي منظومة أخرى أرسخ منها هي الذكورية ولا التباري معها أو منافستها؛ وإنما هو استحقاق مضمون لها منذ الأزل. لهذا تم الاستيلاء عليه وحجبه خشية أن تحرز المرأة فاعلية هدفها استعادة ذاك الاستحقاق الذي ينبغي للمنظومة الذكورية أن تعترف به لا أن تعاديه.

والحقيقة المنسية أو المتناساة هي أن للنسوية الأولوية والسابقية في التشكيل لكيانها الأمومي ـ ـبيد أن النظام الذكوري استطاع أن يمرر أبويتهقبل أن يقوم بتجريد الأموميةكليا من تلك السابقية مغيبا أولويتها، ماسكا زمام أمرها ليظهرها متى ما شاء أو يؤجل ظهورها على وفق ما ترتئيه رغائبه البطريركية وبما يناسب مصالحه.

ولا شك في أن قلب هذا التصور عبر توكيد مديات المنظومة النسوية في تحقيق مبتغياتها الحياتية سيظل كله معقود الطرف على فلسفة النسوية التي عليها تشيد قاعدة انطلاقها الانساني مفتتحة مرحلة تاريخية جديدة. لها أبعادها الفكرية المميزة وتصوراتها الجمالية وممارساتها المبتكرة.

إن الاهتمام النسوي بالفلسفة هو الذي سيحرر النسوية من كل تخصيص يراد منه تحجيمها في صيغة مشروع إصلاحي أو تجريب إنمائي أو حركة سياسية أو نظرية أدبية أو مفهوم أخلاقي أو تعيين رؤيوي بل ستصبح أوسع من كل ذلك مدى وأشد دلالة وأرحب موقعا.

ولا شيء يعطي أي ظاهرة أو قضية أبعادها ويكشف عن حقيقتها مثل التفكر في جواهرها وأعراضها وظواهرها وبواطنها ومعرفة ماهية حدودها وطبيعة المحظورات أو الموانع التي عليها تجنبها وبما يعطي للظاهرة ـ المتفكر فيها أو القضية المتفلسف في تجلياتها ـ صورتها المثلى والحقيقية بلا تزويغ أو تملص أو تمحل أو افتراء.

وأسوأ ما يواجه الأمر المتفكر فيه هو أن يلتف على تفكره بشتى أساليب الالتفاف والمراوغة تارة في شكل مساندة ظاهرية تحفر في المتفكر فيه بمكر وعدائية ليُستحوذ عليه وقد اُستنزفت طاقاته؛ وتارة أخرى في شكل معاداة علنية لكنها تنطلي في حقيقتها على تآزر متعال أو تآمر مخفي مع هذا الذي يتفكر فيه أو جزء منه مستجلبة معها تاريخاً عتيداً تستحضر عبره كل أدوات المجابهة والمقاومة، فيغدو المتفكر فيه محصورا في زاوية ضيقة وقد هُدمت بعض أساساته من الداخل وقوضت أهدافه خلسة أو علانية. ولا فرق عندذاك بين أن يكون ذلك كله قد تم بعلم المتفكر فيه أو من دون علمه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى