سياق الزمان والمكان في قصص إيهاب الورداني

د. محمد زيدان | أكاديمي وناقد مصري

قبل عشرين عامًا من الآن كنا نناقش “الإرث” المجموعة القصصية الثانية بعد “علي باب ناعسة” للمرحوم إيهاب الورداني، ولم أكن جواره علي المنصة في قصر ثقافة غزل المحلة، بل كان الدكتور حامد أبو أحمد والقاص محمد العزوني، وعندما جاء دور مداخلتي، قلت كلامًا بدا وقتها مُزعجًا بعض الشيء، لم يكن مُزعجًا للكاتب إيهاب الورداني، فقد كان رحمه الله واثقًا من نفسه بصورة كبيرة، بل لبعض الحاضرين، وملخص ما قلت إن اللغة التي تميل في الكثير من مفرداتها إلي المجاز عند الكاتب إيهاب الورداني تلفت أحيانًا لنفسها التفافا جماليًا، بمعني أن السياق المجازي والنفسي في اللغة يمكن أن يأخذ القارئ أخذًا ينشغل به المتلقي عن السياق الدلالي العام في القصة، ويبدأ البحث في مفردات اللغة، كما يحدث مع القصائد، وهو باب كبير يمكن أن يكون مدخلا جماليًا لنقد الحكاية، وبعد سنين طويلة أي في عام 2018، أصدر الكاتب إيهاب الورداني مجموعة “ثمة حارث يفزعه الوقت”، وبعد قراءة متأنية لجماليات الحكاية في المجموعة أسفرت عن دراسة بعنوان “سياقات سردية مفتوحة عند إيهاب الورداني”، نشرت في مجلة عالم الكتاب – وسنأخذ بعضًا ممّا جاء فيها – وكان المدخل الرئيسي لدراسة النص هو الباب الذي فتحته في الحكاية قبل عشرين عامًا، ممّا يجعل من لغة الحكاية لغة تحمل وجهين رئيسيين:

الوجه الأول: السياق المجازي للغة

الوجه الثاني: السياق الدلالي للحكاية

وقلت ما معناه: إن اللغة عنده تلفت لنفسها ليس أكثر مما تلفت إلي السياق الحكائي ولكن بأسلوب يتساوي مع ضرورات المفردات الحكائية، لأنه يمتلك لغة مجازية يستبطن بها مفردات الحكاية بقربه من الراوي، الذي يتماهى إلي حد كبير مع شخصية السارد الفعلي في النص، ودارت بيني وبين القاص في آخر ندوة في أتيلييه الإسكندرية سجالات حول الاستخدام السياقي لمفردات الحكاية في النص بداية من الراوي ومرورًا بالفعل الحكائي والمكان والزمان والمنظورات السردية والحكائية التي تمثل صورة المعني وانتهاء بالذات الأولي، وكأن الراوي يواجه:

ـــــــ ذاته أولا: لأن السمات والأفعال تتماهي.

ـــــــ المكان: باعتباره مُكونًا جماليًا.

ـــــــ الزمان: باعتباره فاعلا في الحكاية.

ـــــــ المنظور: باعتباره ممثلا للعالم.

وكأن السياق الأول الذي يتواري خلف المكان والزمان باعتبارهما هو السياق الذاتي، الفضاء الذي يتحرك فيه الراوي، فهو الذي يكون السياق بنفسه، بل يطغى هذا السياق الذاتي علي بقية السياقات المكونة للنص، من بداية العنوان الذي يحمل السمات المكانية، ولكن ليس بصورة محددة “نخلة الهيش” وحتى العناوين الذي وضعها الراوي داخل الرواية:

ـــــــ المجولي الأول

ـــــــ بئر الأحلام المطمورة

ـــــــ المجولي الأخير

ـــــــ مدار العذراء

ـــــــ ولاية الغرباء

ـــــــ لعلي أطلع إلى مجول وأني لأظنها أنا

ـــــــ سحائب الأسى تتشابه في القرى

الدلالات في هذه العناوين تمثل سياقات متداخلة، المكان فيها هو السياق الأول، يستخدمه الراوي استخدام المخرج المسرحي لمفردات العرض، كل حركة وكل صورة وكل إضاءة تمثل مفردة لا يستغني عنها النص فيها التكامل الدلالي الذي يخطط الكاتب له تخطيطًا فنيًا لافتًا، وهذه سمة من سمات الكتابة عند إيهاب الورداني، أنه يخطط للنص تخطيطًا دقيقًا ويراجعه بأكثر من طريقة تبدو إحداها ممثلة لروح الشعر، فيقرأ النص قراءة العين، ثم يقرأ النص قراءة مسموعة، وكأنه يلقي قصيدة، وهذا ما جعلني أفتح الباب سالف الذكر، باب اللغة المنولوجية التي تشبه الشعر، الجمل المكثفة قصيرة المدى الدلالي، المجاز الذي يصدح في المعني، صلاحه المفردات للتأويل بأكثر من سياق، كل ذلك يجعل من المكان – كما تشي العناوين – مُكونًا بلاغيًا من مكونات الحكاية، فهو يرتبط بالمكان “مجول” ارتباطًا قويًا، وهو من القلائل الذين لم يهجروا القرية، بل حاول أن يعليها ويعلي نفسه من خلالها، حملها في كل ما كتب.

واستطاعت المفردات أن تقدم له صورة مجازية للسياق السابقة:

ـــــــ مجاز المكان

ـــــــ مجاز استخدام الذات

ـــــــ مجاز المفردات اللغوية

ـــــــ المجاز الدلالي

ففي فصل بعنوان “سحائب الأسى تتشابه في القرى” يقول الراوي:

(يا ألله سامحني، لم أقصد غضبك، ولا لومك، فكل ما بي من خير منك، وكل ما بي من سوء مني، قد تكون رحمتك تحوطني وأنا عبدك الضعيف أن أكون غيري:

 أنا أخي.

أنا أبي.

أنا جدي.

وأنا أنا.

أنا أرواح من لبسوني، والأزمنة كلها.

أنا الكل معًا.

 لا، أنا أنا.

هل أنا فعلا أنا؟

الشكوى المكتومة في قلبك هزت الأشجار والأعشاب، وأرخت ستائر المغربية في مجول؛ فبدا ليلها صامتًا وكئيبًا، ثمة هدوء، دائما يهبط قبيل أذان المغرب، فتخف الحركة في الأزقة والدروب والشوارع ولا تلمح أحدًا).

هذا المنولوج الذي يستبطن الذات أشبه ما يكون بالقصيدة التي يتحاور فيها المجاز الذي أشرت إليه علي أكثر من مستوي، فالراوي يحاول شيئًا يفعله المريدون بصورة ظاهرة وهو حالة الحلول والاتحاد الذي قال بها بعض مشاهير الصوفية، وأظن أنها كانت نوعًا من المجاز، الذي تراه في كل شيء، في الذوات، وفي المكان، وفي الزمان، وفي الأرض، وفي الأعشاب، وفي الريح، هذه السياقات الذاتية الموضوعية في الوقت ذاته تمثل صورة مستقلة – من وجهة نظري – داخل السياق العام، فنحن إزاء راو لا يمشي بصورة مستقيمة، لكنه يدخل ويخرج من الحكاية كما تتجول الكاميرا في المكان، فنراه يركز علي الدلالة في صورة من الصور، ونراه يركز علي الشخصيات في صورة، ونراه يركز علي مفردات المكان في صورة، وفي الوقت نفسه يربط كل ذلك بنفسه، بل يجعل من نفسه محورًا من محاور الحكاية، يدخل فيها ويحل في كل أزمنها وهي الأزمنة النحوية تارة، والأزمنة الفلسفية تارة، والأزمنة الموضوعية الدالة علي الحالة تارة أخرى.

هذا يعني أن الحكاية عند إيهاب الورداني ليست حكاية بالمعني التقليدي ويكفيها الحكاية الإشارية التي تمثل دلالة العلامات تمثيلا جماليًا لافتًا، يكفي أن يشير إلي الفعل الحكائي الممثل للزمان والمكان، ثم يتحول عنه ليدخل في حالة الاستبطان مجازية الدلالة، ثم يعود إليه مرة أخرى، أو ينتقل من حالة إلي حالة، فنراه في بداية فصل بعنوان:

 “لست في ضيق من راويّ أو رواتي”: (ويحك يا مجولي! ها أنا أبتكر لك حياتك، وأنت تحار في صمتك، كل شيء حولك كاذب ومتغير، بوسعك أن تعرف إذا ما تركت عنانك، تنهال صورك في تبدلاتها هكذا، تكاد تغمض الآن عينيك بعدما تغلغلت في كهف التفاصيل ورأيت وجهك الآخر).

هنا يتجلي السياق الذي يكونه الراوي ويفتح أوسع أبواب الدلالة التي أتحدث عنها في كل أعمال الكاتب إيهاب الورداني، محاولة تكوين السياق مفتوح الدلالة لدرجة أنك يمكن أن تضعه في أكثر من باب للتأويل – التأويل الصوفي، والتأويل المجازي، والتأويل الرمزي، والتأويل الموضوعي، وبالتالي يبقي النص الحكائي صورة من صور الحكاية غير المكتملة بقصد من الراوي ليحيل المتلقي إلي المسكوت عنه في الدلالة أو ليجعل المتلقي شريكًا للكاتب في تكملة الدلالة، وهذا يحيلنا إلي نظرية القراءة كما جاءت عند مؤسسيها “بارت” وغيره، حيث تتحول السلطة المركزية في النص من المؤلف للقارئ.

وفي حالة سياق رواية “نخلة الهيش” علي وجه الخصوص وكتابات إيهاب الورداني علي وجه العموم المؤلف يتشارك مع المتلقي في إنتاج المعني، فلا يمكن هنا أن نزيح المؤلف إزاحة تامة، لكن الحكاية تتحول إلي نوع من المنتوج الثقافي الذي تتحرك فيه الصورة وتتكامل فيه التأويلات وتتشابك الأفكار وتدخل في نسيج سردي واحد، فالراوي مغرم بمخاطبته ذاته في “علي باب ناعسة” وفي “الإرث” وفي “ثمة حارث يفزعه الوقت” وفي “نخلة الهيش” الراوي يخاطب نفسه، أو يجعل من ذاته ذاتًا أخرى تنفصل عنه، تجادله، تدخل فيه، يحل فيها، يتبادلان المواقع في الدلالة وفي اللغة وفي المفردات الحكائية، لن تستطيع عند إيهاب الورداني أن تمشي مع المفردات الحكائية من بدايتها إلي نهايتها، لكنك تستطيع أن تلمح أول الطريق، فتمشي فيه بنفسك، ثم تقف لتتأمل الكثبان الرملية التي يصنعها الراوي أو الترع التي حفرها أو الجبال التي نصبها، تدهشك الدلالة وتأخذك اللغة وتكلم نفسك كما تكلم الآخرين.

نحن أمام أصوات سردية متعددة، أمام أكثر من راو، وأمام أكثر من تأويل للموقف الحكائي أو للمنظور الذي يضيفه، تتحول اللغة إلى رموز، والرموز تتحول إلى أفكار، والأفكار بدورها تتحول إلى سياقات، وهذه سمة بارزة من سمات السرد الحكائي المجازي بصورة خاصة.

 النسيج الدلالي

الخطاب في القصة القصيرة عند الكاتب إيهاب الورداني لا يختلف كثيرًا عن خطاب الرواية لعدة أسباب منها أن المجموعات القصصية التي أصدرها وسبق الإشارة إليها، يضمها نسيج دلالي متقارب لدرجة أنه يمكن أن تضام لتصبح رواية، الأمر نفسه في الخطاب الروائي، فالعناوين التي وضعها للفصول يمكن أن يستقل المتلقي بأحدها، وتعطي في الوقت نفسه انطباع التكامل الدلالي الذي يطمح إليه الراوي، بالإضافة إلي السبب الرئيسي سالف الذكر، وهو أن الراوي يميل إلي اللغة المجازية الإشارية التي تصنع مستويات للقص، تُدركُ أحيانًا من الناحية الجمالية إدراكًا شعريًا أو كما تدرك القصيدة، هذه السمة البنائية تحيلنا إلى فكرة النسيج الدلالي الذي تتميز به الحكاية عند الورداني، فتراه يقدم الخطاب من منظورات تسير إلى جانب بعضها البعض، فنرى:

ـــــــ المنظور الذي تصنعه اللغة المجازية، ويمكن إدراكه كما تدرك القصيدة.

ـــــــ المنظور الإشاري الذي تصنعه الحكاية من خلال الشخصيات.

ـــــــ المنظور الدرامي وهو يظهر بصورة خافته لدرجة أنك أحيانًا لا تحس به وهو يسري في الخطاب سريان الماء في التراب.

ـــــــ المنظور المكاني وهو يطغي في أحايين كثيرة علي بقية المنظورات أو يقدم الراوي المنظورات سالفة الذكر من وجهه نظر المكان.

المنظور في الخطاب الروائي بشكل عام يختلف عن وجهة النظر، فالأخيرة فكرة في الدراسات السردية والنقدية تشير إلى ما يمكن أن يقدمه الراوي للحالة الحكائية، سواء اتصل بذاته – أي ذات الراوي – أو بالشخصيات الأخرى أو بالأحداث – وأنا أحب أن أسميها عند الكاتب إيهاب الورداني بالأفعال الحكائية – أو فيما يتصل بالمكان، أما المنظور فهو – من وجهة نظري – فكرة بلاغية أو يمكن أن تكون فكرة بلاغية في الحكاية، وقد فصلت القول عن هذا الموضوع في كتابي: البلاغة الجديدة والنص الشعري، والفكرة مأخوذة من الحكاية، وليست موجودة في النظرية السردية، كما هي معروفة، وهي مختلفة عن فكرة الفضاء، لأنها تحتوي في داخلها كل عناصر المكان والزمان، بالإضافة إلي تعدد مستوياتها من منظورات مادية، وحتى المنظورات المجازية، وهي قريبة في إدراكها من أداتين في الكتاب نفسه، الموقف السردي والصورة السردية، والكاتب إيهاب الورداني يُعطي للمنظور بمستواه المادي أهمية قصوى؛ لدرجة أن المكان أصبح عنده سواء في “نخلة الهيش” أو في المجموعات القصصية مُكونًا بنائيًا، ومن ثم يمكن وصفه “بالمكون البلاغي”، ومن خلال المفردات والتفاصيل الخاصة بالمنظور المكاني، ما يرفع من طموح القارئ لإدراك المكونات الجمالية التي تصبح هدفًا في ذاتها.

(يا إله السماوات!

أيهما ممدد الآن، جدي، أبي، أخي، أم أنا؟!

ثمة ريح تدخلني، تفوقني وتتجاوزني بزخم يصرعني، وكأني الممدد الآن، والخراطيم تتدلي من جسدي، كأني مضخة تفرغ ما بها أو اسطوانة يملؤونها بسوائل لها طعم المرض، ورائحة مزكمة، كأنها القادرة علي إعادة وعيي، أو إيقاظي وتوجيهي كما تشاء.

نظرة الرعب التي تلبسني تعافرها شقاوة “إبراهيم” التي اعتدتها، أظنه يدعي، أو يتوسل، أو يشفق علي أخيه الذي تنهشه حتمية الاحتمالات ونوعية الأجوبة وكيفية المواصلة. أحاسيس القلق والفجيعة التي ترافق نظرتي تتحطم علي صخرة نظرته إليّ، أغمض عيني، لا يمكن أن يفعلها ويموت! يموت، يا إله السماوات!

من يسندني، من يحمل وردي ويشاكسه، ويعلمه كيف يكون صلبًا وشامخًا ولا ينحني إلى غير الله؟)

المنولوج يطغي علي أدوات الحكاية طغيانًا يجعلك تحس أنك أمام قصيدة، البوح اللانهائي الذي يتحد بالراوي وبأفكاره وبأحلامه، وحتى بالحركات التي يؤديها النفسية منها علي وجه الخصوص، والمادية منها بصورة أقل، الظلال الدرامية تبدو فيه – كما يبدو الضباب – واتحاد الراوي بذاته ظاهر ظهور المجاز في اللغة، وهذا يجعلني:

ـــــــ أتحول من الصورة العامة للخطاب إلى الصورة الجزئية.

ـــــــ أبحث عن جماليات الكلمة وليس عن جماليات الفكرة.

ـــــــ أدرك الفصول بصورة منفصلة.

انظر إلى الراوي باعتباره مُحركًا للمنظور الحكائي، فمثلا في المجازات النفسية التي يقدمها بالإضافة إلى تمثيل المكان.

النسق اللغوي عند إيهاب الورداني     

يتميز إبداع السرد الحكائي عند الكاتب “إيهاب الورداني” بأنه ينتج نسقًا لغويًا خاصًا يتسم به، سواء تمثل ذلك في السرد الوصفي، أم تمثل في السرد الحواري، والاثنان يقدمان بناء النص علي أسس موضوعية نذكر منها:

ــ الحوار يدخل في تنمية الفعل الحكائي.

ــ يمثل الحوار الجزء الكاشف في النص.

ــ يستخدمه الراوي في استبطان جوانب سردية جديدة.

علي عكس الحوارات في الكثير من النصوص، نجد الحوار يغرد في وادٍ بعيدٍ عن بناء النص، أو علي الأقل يمثل عبئًا علي الحكاية لعدم الحاجة إليه، أو لاعتباره تزيينًا ثقيلا، من هذا المنطلق نجد الراوي يستخدم نسقه اللغوي مُعتمدًا علي عدد من آليات التفكير اللغوي:

ــ التجسيد البادي في التركيب السردي.

ــ تصفية الأسلوب بما يوحي للمتلقي بالتركيب الشعري.

ــ الانسجام بين الوصف والحوار حتى يبدو كأنهما تركيب واحد.

ــ المجاز المرتبط بالحكاية.

ــ المنظور الذي يقدم السياق في صورة مادية.

ففي نص “علامات” يبدو الطرح السابق مُكملا لفكرة السياق الخاص الذي يصنعه الراوي، بما في ذلك تحويل التناصات المكملة للدلالة إلى سياقات خاصة، تنتج أثرها المكمل لتشكيل الحكاية.

يقول الراوي في ثمة حارث يفزعه الوقت:

(الورقة أمامه بيضاء، القلم في يده يتأرجح، كائنات من الطيف تعدو، وكائنات علي باب القلب تجثم، يدق القلم علي الجبهة دقات خفيفة متوالية سرعان ما تشتد، فيحس وخز الضربات بشغاف القلب، تساقط نتف من حيث الدق: الأب ممدد، كثيرون حوله، ينظر كأنما يبحث عني، أداري نفسي، كيف أجرؤ علي النظر إليه عند رحيله؟

ولا حول لي ولا قوة لأثنيه أو حتى أقدر أن أعيده، تحضنه الأم، تتساقط أعضائي، تتبعثر في الجهات، من لي يعيدها، ولا إيزيس لي تجمعني فأبعث من جديد! ليل ونهار، وسماء مشرعة، كأنما هبطت منها فاطمة كملاك، قربت وجهها مني بحنو، صغير كحبة عنب، طازجة ومغرية، وأنا جائع وأحب الحلو، قالت: لِمَنْ تتركني؟!

كان صوتها هامسًا وضعيفًا، مسكت يدها ولثمتها، اجتاحتني رعشة، ضممتها، لم تقاوم، حمامتان صغيرتان حطتا علي صدري واستكانتا، أغمضت عيني، وفيما بين النوم والإفاقة، سمعتُ أصوات غريبة، وجلبة وصياحًا، وهم كثيرون، ملامحهم غريبة، مشوهة أو ممسوخة، يرتدون قبعات وأحذية ثقيلة، كأنما ــ انشقت الأرض عنهم ــ مدفوعون لحصاري، لا، مجبولون لحتفي، هاهم ينزعون قلبي، بعد أن طرحوني صارخين بلكنتهم الغريبة: لم تعد لك.

كانت بينهم، تلوك في فمها لبانة، تتثني وتتقصع، وقد رفعت براقع الحياء من علي وجهها، وكأنما لا تعرفني، أو أنا شيء، رغم كل ما فعلته معها أغيظها، أو اشتروها بمغرياتهم المتعددة، أو هكذا رأت فيهم أمانها، وي ربي، أستنفر قواي، لا ملجأ ولا منجي، لا دم في عروقي، أصفق عيني بسرعة، أقاوم ارتجافًا يقتلعني: لا يمكن أن أصدقَ أن “فاطمة” هكذا بسهولة تبيعني! ص93، 94

النص يطرح الكثير ــ كبنية نصوص الكاتب إيهاب الورداني ــ ولا يكف عن طرح الأسئلة، وفيه ما فيه من السياق اللغوي الذي يتيح لي أن أقدم مجموعة من انجازات هذا النص على المستوي ذاته:

أولا: تناصان، أحدهما: (كيف أجرؤ علي النظر إليه عند رحيله، ولا حول ولا قوة لأثنيه أو حتى أقدر أن أعيده، تحضنه الأم، تتساقط أعضائي، تتبعثر في الجهات، من لي يعيدها، ولا إيزيس لي تجمعني، فأبعث من جديد).

الحكاية لذات تترقب/ تتذكر، والفعلان محتملان في المعني رحيل الأب، والأم المكلومة، ثم اندياحه في عوالم لانهائية، بين كائنات غريبة، يتذكر الوحدة، والخيانة، ويقبع خلف شباكه ليلقي لنا بالمنظورات الحكائية المفتوحة، ليرقب الشارع، وليتسمع المكان، ليختار لنا ما يجعل النسق اللغوي/ المجازي مُرتبطًا بالحكاية.

والتناص الآخر: وهو بين النوم والإفاقة، يسمع أصوات غريبة وجلبة وصياحًا، وأناس غرباء الملامح مشوهة، ممسوخة، انشقت الأرض عنهم مدفوعون لحصاره ويقول: (هاهم ينزعون قلمي بعد أن طرحوني صارخين، بلكنتهم الغريبة: لم تعد لك). ص 49، وقبل التناص وبعده الراوي مشغول بسبك النسق اللغوي الدال علي تجسيد العالم، وترميز كل ما يمر به، وتفكيك الإحساس العام إلى مجموعة من دوال مرتبطة بعضها البعض مكونة عالم خاص من المجازات، حيث يُقررُ:

(هي وحدها ملامحك

تشكل فيك الروح إلى حيث تبدأ

لماذا إذن؟!

كلما أخلو إلى نفسي وأبص داخلي

أمد يدي، أتحسس بعضي

وأشم تذكارات جروحي

كأنني أنت، وكأنك أنا، كأننا معًا

لا أرى سواى.

أغمض عيني، وأزيح الورقة من أمامي، وأتدثر). ص 96

اللافت أن الكاتب “إيهاب الورداني” اختار شكلا كتابيًا؛ لهذا النسق هو الشكل الشعري، ممّا يجعل الافتراض السابق عن تشكيله النسق اللغوي عند الراوي، يميل إلي التمثيل المجازي، وبالأخص، ما يرتبط بالذات، والمنظور الحكائي الخاص بها، ففي نص “لا عاصم منهم غيري”، كان الرجلُ يرتعشُ وهو تحت وطأة الحرارة، وزوجته التي ترتجف خوفًا عليه يختارُ الراوي الكلمات كأنها قصيدة تتثني تحت وقع إحساس ضاف بالتحليق: (حدقت في السماء، فضاء لا نهائي مخنوق، امتدت يداك، لتفك زر جلبابك، لم تقدر، عادت عيناك جمرتين، انكمشت، حومت الخفافيش باتجاهك).

التشكيلُ في أغلب الأحيان لا يرتبط إلا بحركة الذات، والفضاء المجازي الذي تدورُ فيه، محلقة بأنفاس التخييل اللغوي المستند إلي ذاكرة سياقية مفتوحة التأويل.

السرد الحكائي

عند الكاتب “إيهاب الورداني” لا يمكن أن تُقدمَ حكاية مؤطرة بشكلها التقليدي، ولا يمكن أن تقعَ عينيك علي أحداث كبيرة، وإنما هي حالة من التحليق فوق الأطر الحكائية التقليدية، وأفعال حكائية بسيطة تليها في المرتبة أفعال بدنية تقوم مقام الأولي ــ أي مقام الأفعال الحكائية ــ وهذا من وجهة نظري يجعلنا أمام مجموعة من أدوات التجريب التي بدأها الراوي في مجموعة “الإرث” وأنضجها في “ثمة حارس يفزعه الوقت” علي نحو يجعلُ من السرد الحكائي مجرد تكئة فنية وفق مفردات سردية متعددة:

ـــ الحكاية مجرد ظلال سردية خالية من عناصر التقليدية الحكائية.

ـــ الوصف السردي دائمًا ما يكون مدفوعًا نحو الفضاء المجازي.

ـــ الراوي لا يقدم نفسه مستقلا.

ـــ الذوات مفردات تابعة للراوي.

ـــ الحوار جزء من الوصف.

ـــ الأحداث ما هي إلا أفعال بدنية تنمي الفكرة.

ـــ المجاز جزء من الحكاية.

ـــ الترميز للشخصية من أدوات بنائها.

وفي الكثير من النصوص التي تتشابه في تركيبها المجازي، لا نرى أية إشارات حكائية، وإنما أفق سردي تغيم فيه أفعال لا تنتمي إلي حكاية ما، وإنما تنتمي لأفق، أو فضاء مجازي/ رمزي يقوم الراوي بخفة كبيرة ليحوله إلي سرد سياقي يقوي به مركز النسق اللغوي الذي أشرت إليه، وهذا دأب الراوي في كل النصوص، وإنما يأتي الاختبار لنص ما، لأنه يمثل ذروة الحالة السردية عنده، وهذا يجعل النصوص منقسمة بين أربعة عناصر بنائية:

الأول: العنصر السياقي.

الثاني: العنصر المجازي.

الثالث: العنصر التشخيصي.

الرابع: المنظور النفسي.

واللافت أن هذه العناصر الأربعة توجد أحيانًا متحدة، بحيث يصعب الفصل بينها، وأحيانًا تأتي منفردة، ولكن غالب النصوص تضفر هذه العناصر تضفيرًا نسيجيًا؛ لأنها جزء من حالة سردية فريدة تتحقق في ذاكرة الراوي، بل تقدم الصورة الخافتة للحكاية، وبالتالي يمكن وضع هذه الترسيمة التي تمثل الحالة البنائية للنص عند “إيهاب الورداني”، واللافت أيضًا أن الدائرة الكبيرة تتصل بسابقتها من القمة، وهكذا بقية الدوائر، وأيضًا يمكن أن تتبادل هذه العناصر المواقع، وترتبط ببعضها البعض ارتباطًا قويًا، وهنا لا يمكن ذكر الحكاية إلا ما يتصل بالضمير الحاكي، الذي يتماهى هو الآخر في الوصف السردي القائم علي تفريغ الحكاية من الأفعال، وإذا وجدت ضمائر أخرى فهي خالية من الإشارات الحكائية، وإنما المزيد من تفعيل قوة المجاز الذي يقع تحت طائلة راو يشخص ولا يصف، يستنبط ولا يعدد، يتحول إلي جزء مميز من منظور السرد.

يقول الراوي في “نخب الجوع” من نص “المهادن”: (كانوا أمامي: القوام الفارغة ممصوصة الدم، الوجوه المحروقة مسحوبة على هياكلها، كائنات من عظم وجلد، تتدحرج في نحيب مكبوت، بفعل الريح، نحو قصاع الطعام وماء الخنوع، تئن الأرض، المستثارة، من جرجرة أقدامهم التي لم تعد لفرط إنهاكها، فيهرج تتواثب أعينهم، تشد شراشف الوصول إلى تخوم الشبع، وعندما رأت، ولم يكن لها سلطان على الاحتمال، تغمضت، ناخت الأقدام وتقرفصت، مثل القرود على نهر يابس، كأنها تصلي، أو تتداخل في أجنتها، “والقرداتي” مروضة شقراء، يلمع لحمها المكتنز تحت وهج الشمس، وبمغرفة من خشب تصب المرق في الصحاف البلاستيك، وعصاها مغروزة في الرمال، مضغتُ تبغ عجزي، وقلت للذي هاجمني أو هكذا استربت: نم. وتملكني الذعر).

وفي “مهادنة” من النص ذاته: (الفراغ غابة، ثمة أشباح على أشجارها تتغرغر: تخرج الجرذان من جحورها، تتقافز، تطل الثعابين وتنساب في ليونة مخادعة، على قارعات الطرق، ملتفعة ببراقع الغدر، والوطاويط في المحميات تتكاسر على لعق الدم، تتوافد بنات آوى، عاريات، في عين الشمس، تنصب فخاخها للذين لا يرون، كنتُ أراقبُ، أنا المهادن، على تلة فزعي: ماذا يدور فوقي ويحدث بين جنباتي؟ ولم؟!

أسراب من البوم تحط شباكها، في لحظة عواء، يمتزج بالسعال، مسوخ أشباح تظهر وتختفي، تشق الغيوم، لها رائحة الصنان ـــــ والعالم قد هيئوه لطينة أخرى مموهة بالأمم والشرعية والجوار ـــــ تتفتت الصرخة في الحلوق، تتناثر أشلاؤها في الفراغ، وحين تهبط للأرض تأخذ شكل بنايات تنهار، وجسور تتهاوى، يهرع الأهالي مذعورين في الطرقات، جثث تتساقط تلو جثث، تنفجر نوافير دخان، تغمض السماء عينيها، تتوالى صور لطيور نفقت، وعيون، قادرة، تسيل منها المساحيق أيها المهادن على تلة فزعك، هل تفهم؟!

دفست وجهي في راحتي، وكانت العاصفة قد هدأت، فككت أختام كتابي، نفضت الغبار، فتحت ورقة ودخلت، مدت لي يدها شهر زاد، وكانت تبكي، تنسل دموعها على كتفيها، وتنزلق للأرض فتخرق مكانها).

هل يمكن القول إن عالمًا مجانيًا يظهر ثم يختفي على ضفاف من خيال الراوي؟! وهل يمكن أن نقدم هذا العالم كنوع من الواقعية السحرية والتي تختلف عن هذا السرد قليلا في كون الأخيرة تقدم جُزْءًا من الواقع قبل أن يتحول الواقع إلى ما يشبه ما وراءه؟!

أما “إيهاب الورداني” فهو يبدأ النص بالعجائبي، ثم يربطه قليلا بالواقع المعيش مع إحالات ذاتية قليلة ونفسية كثيرة مِمَّا يجعلُ من النص:

ـــ تشكيلا في ما وراء الحواس.

ـــ منولوجًا شعريًا طويلا.

ـــ سرد محايد يخلو من الإشارات الحكائية.

ـــ تناصات تحول السرد في النهاية إلى شاطئ حكاية ما.

ـــ يرتبط الراوي في أول السرد وفي نهايته بذاته فقط.

ـــ العالم غائب تمامًا عن الراوي.

حتى في الحكايات النصوص التي يلجأ الراوي فيها لتفعيل مفردات حكائية حقيقية وليست مجرد ظلال كان يحولها إلى ديالوج ذاتي، يرمي فيه بإشارات الداخل، أكثر ما يرمي فيه بإشارات الحكاية، وكأنه يريد أن يخرج الحكاية من دورها الحركي إلى دور سكوني يمور تحته بركان، وكأنه أيضًا يُشيرُ إلى تفعيل الذاكرة التي تجعل من الحكاية ظلا شبحيًا يُمارسُ الراوي من خلال طقوس كينونته، ففي نص “بركان” يظهرُ الزمن مُكونًا بين عدد من عناصر الحكاية:

ـــ الراوي والسفرات الأخرى.

ـــ الأحداث الماضية وظلال القادمة.

ـــ النص الاستيطاني للذات.

ـــ ظلال واقعية أشبه بالمنولوج الذاتي.

وكأن الراوي يُشَفِّرُ الواقع، ويرمي الأحداث التي تقابله؛ ليحولها من إطارها الحكائي لإطار مجازي، يمكن أن يقدم صورة أعم من حياة مئات الناس الذين يمثلون الغالبية العظمى من شعوب الدنيا، الحياة التي تمرُّ مَرَّ الجبال على أسرة تكاد أن تأكلَ وتشرب وتقيم أود نفسها وأبنائها بقوة الحياة، وليس بقوة الذوات.

إن الراوي يُمثلُ الدفع الذاتي للحياة، ويُقدمُهَا في شكلها الرمزي الذي يُحولها من اختيار إلى ضرورة، ومن فعل إلى قدر، ومن ليونة إلى قوة قاهرة تدفعُ الملايين تحت وطأة واقع لا يعرفون منه إلا ما يأكلون منه وما يشربونه فيه وما ينامون عليه، يقول الراوي في نص “بركان”:

(فرشت عليه نظرتها والتصقت به: “محتاجه جنيه”.

تململُ في جلسته، كأنما يرفسُ ما ألقت عليه: “خير”.

“مسافرة”، قالتها باقتضاب واستعطاف.

تمادي في لا مبالاته وسخريته: “الجامعة”!

“لأ، عندنا اجتماع”، سريعة، خاطفة وقاطعة، كأنما لتنبهه بما لم تقله وتدوس علي سخريته “وجايز أقبض”، اعتدل، ورماها بنظرة كافية ليدرك هول ما فيها، تعرف أنه لا يملك، ويعرف أنها ـــــ علي قدر ما يمكنها ـــــ تُعينُهُ، قال بانكسار غلفه بضحكة: “تصرفي”.

سددت نظرتها إليه، كانت أشبه بقطة على مقربة من صحن سمك.

هل كانت في حاجة ليقولَ لها “تصرفي”؟!

انفجرت، تناثر غضبها شظايا، طالت حياتها وأولادها وعيشتها واليوم الذي رأت فيه دنيتها. قبل أن يعاندها ويسايرها في انفجارها، هبَّ واقفًا، تهدر جوانحه: لها الحق أن تنفجرَ، كما له الحق أن يسايرها، كم مضي علي زواجهما! عشرون عامًا، كثيرة هي السنون، دونما تقدم أو حتى تحقيق أبسط ما يرنو إليه، لكن انفجارهما في مَنْ! صمت وكز على أسنانه، فتقلصت شفتاه وارتعشت ذقنه، أب لولدين وبنتين ومدير في مصلحة حكومية، وزوج لأم تمحو أمية الكبار لا يملك جنيهًا واحدًا يُعطيه لها لتقضي مأموريتها!

ياه … لفحته نسمة هواء باردة فانتفض … شقَّ صدر الوسعاية … وانحرف عند السويقة … على ضريح سيدي نصر ركن جسده الثقيل.. ثمة نور خافت يتسلل من خصاص النافذة … ويرسمُ علي الأرض مربعات ومثلثات متداخلة … كان لا يزال في وقفته المحنية …

وما يشبه الارتجاجة تتابع فيه) ص21

معظم الشكل الكتابي يظهرُ بطريقة الشعر، وما تبقى تقوم الفواصل والنقاط التي يضعها مقام الشكل الشعري، حتى وإن

اختفت هذه العلامات، فإن كل جملة تذكرنا بالتركيب الإضافي الذي وضعه الراوي علي غلاف الكتاب “ديوان قصص”

مُحولا الحكاية إلى أفق شعري يضعُ عليه خبرة السرد التي مر بها في مدارات سياقية متعددة:

ـــ سياق المجازات الحكائية

ـــ سياق المجازات الشعرية

ـــ سياق المنظور الحكائي

ـــ عمليات الالتفات اللغوي

ـــ تنويع مصادر الدلالة وتضفيرها

ـــ تشكيلات حكائية يتحد فيها الدال والمدلول

ـــ الصور الحكائية المستقلة

ـــ السياقات الخارجية وعلاقتها داخل النص

ـــ الامتداد الزمني داخل الأفعال

ـــ المسافات بين حكاية الراوي وحكاية التداعيات

السمات الأسلوبية والجمالية

وهكذا تحملُ تجربة إيهاب الورداني السمات الأسلوبية والجمالية التي تتناسبُ وقضايا العصر المعرفية والجمالية، بالإضافة إلى ثقافة الكاتب النوعية التي ظهرت في كتاباته، فقد وازن بين فقه اللغة وفقه الحكاية، واقتربت الرؤيتان في الرواية والقصة القصيرة اقترابًا لافتًا، وقد اختط إيهاب الورداني لنفسه مكانًا مُهمًا بين أبناء جيله في القصة القصيرة، واستطاع أن يُقدمَ صوتًا سرديًا يتسمُ بالتجريب اللغوي والحكائي في أعماله التي قدمها، يدلُ على استيعابه لتاريخ النوع الأدبي من جهة، وطموحه الفني من جهة أخرى، فكان يُقدمُ اللعب السردي المشفوع بتحولات النص على أكثر من مستوى، الحكاية المفتوحة الدلالة، والأصوات التي تترك مساحة واسعة لاستجابة القارئ، ومن هنا جاءت مكانة الكاتب في عالم السرد مكانة متميزة ومهمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى