يا قلبُ ماذا تريد..؟!

أميرة عبد العزيز | فنانة تشكيلية مصرية


هُناكَ ثِمةُ فرق بين الشئ المعنوي والشئ الحسي، فرق بين ما تلمسه بيدكَ وما تَشعُر به، ربما يكون بإمكانك أن تصف ما تلمسه يدك أو يصعُب عليك وصفه وشرحه، لكن ليس كل ما نشعر به تستطيع شرحه ووصفه بالكلمات من قوتها تبكي أعيُننا عندما نتذكرها وأمام هذا الإحساس يكون القلب غير قادر على تَحمُل مشاعر جارفة عاصفة بِإمكانِها العصف به وبصاحب هذا القلب.
يا لهذا الشئ الذي يستوطن داخل صدرك..! إنه ليس مجرد شرايين ومضخة عضلية تُوَزِعُ الدم على سائر أنحاء الجسد وحسب، كما يؤكده العلم والطب، بل هو أكثَرُ من ذلك إنه يشعر ويحس وينبض ويدق بشدة، إن أحببت تتضاعف دقاته ونبضاته فتظن أنه سوف يخرج من بين أضلُعك كطائر يريد الخروج والطيران من القفص المحبوس بداخله مُحلِقاً صوبَ من يحب إلى أن يلتقي به فيستقر بين أحضانه، أوتجده ينقبض إذا أصابتك حالة من الإكتئاب والحزن أو إذا هاجرت أوهاجر هو من يحب، إنه يشعر ويحس ويحزن ويتألم ويبكي وينشطر نصفين أحياناً، وأحياناً أخرى يتمزق وربما إن أخطأت يغوصُ في أعماق أعماقك كأنه يغرق في ظُلُماتِ بحرٍ لا نهاية له.
لا تعتقد فقط أنه كُمِثري الشكل وحسب كما يصفه ويقول عنه أطباء القلب إن بداخله عالم ملئ بأحاسيس ومشاعر بإمكانها أن ترفع صاحبها عالياً للسماء وتشعره أنه طائر يُحلِق فيها من فرط شعوره بالسعادة أو تَجعَلُكَ في غمضة عين قابِعاً في باطن الأرض من هولِ ما تشعر به من أحزان.
لكن ما الذي يجعله يتقلب ويتغير هكذا..، هل هو مزاجي غير ثابت على حال..؟! قد يبدو أحياناً هادئاً وأحياناً أخرى ثائراً غاضِباً، قد يفرح الآن وبعد قليل يحزن ويغضب..!
لا تُسيئُوا الظن بقُلوبِكم فهي معذورة تريدُ أن تستقر، إنها تبحث عن الأمان والإطمئنان، إن ثارت وغضبت وتحولت فليس إلا لِأجل الإستقرار لا تَتعجَبُ إن قلت لك أن لقلبِكَ عين ترى أكثرَ وضوحاً ترى بالإحساس والشعور، ترى بالنور الإلهي..!
لو نظرتُ إلى القرآن الكريم لوجدت من بين أنواره الساطعة وآياته الكريمة المنيرة ضوء مسلط على قلبك، نور يوجد في صورة الأنعام، فقد كان قلبُ إبراهيم قبل عقله
يأبى ويرفض عبادة الأصنام التي كانت منتشرة آنذاك في عصره، عندما أقبلَ الليل عليه نظرَ إلى السماء لعله يجدُ فيها ما لم يجده علي الأرض فرأى كوكبا وقال هذا ربي لكنه سرعان ما اختفى ثم رأى القمر ينير السماء في ظُلمة الليل فظن أنه ربه فلما أفل كما فعل الكوكب لم يهدأ قلبه وقال لا إنه ليس ذلك ربي، وعندما أشرقت الشمس وعمَّ نورها أرجاء الأرض فقال هذا ربي لأنها أكبر فلما غابت هي الأخرى قال يا قوم لا أُحِبُ الآفلين إني برئ مما تُشرِكون إني وَجهتُ وجهي للذي فطرَ السماواتِ والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، من هنا نجد أن إبراهيم عليه السلام ينفي صفة الشرك عن نفسه ويُبرِئُها من كل ما يعبد قومه ورغم كل ذلك لم يشعر قلبه بالطمأنينة، وهذا ربما يحدث لمعظم البشر.. كلٌ منا قد تأتي عليه فترات يسأل وينتظر الإجابة، يغضب ويفرح، يثور ويهدأ.. كل هذا ليحصل على هدفه، على النتيجة التي يرجوها.. على الطمأنينة.
ظل خليل الله إبراهيم يسأل ليزداد يقيناً واطمئناناً وفي سورة البقرة نجِدُ ضوءاً ساطعاً ينبع من قلبٍ صادق قد وجه وجهه وكل حواسه للواحد الأحد ليهدأ ويطمئن (وإذ قال إبراهيم ربي أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)، إنه يريدُ أن يعرف كيفية إحياء الموتى، وفي الحقيقة لم يكن يريدها فقط لذاته فهو من أتاه الوحي المبين لكنه كان يشعر بما يدور في نفوس قومه ممن حوله وما يعبَثُ في أذهانهم، إنه شَعُرَ بحاجاتهم لمزيد من اليقين والمعرفة ولكنهم كانوا يُخفون ذلك، بينما كان إبراهيم عليه السلام واضحاً صريحاً في طلبه لم يُخفي شيئاً، كان فقط يريد يعرف لا لشك أو لعدم يقين أو إيمان وإنما ليطمئن قلبه، قال الله عز وجل: (أو لم تؤمن) فأجاب إبراهيم سريعاً (بلى ولكن ليطمئن قلبي).
لا توجد مشكلة إذا كان قلبك قلِق غير مطمئن لشئ ما ولكن المشكلة أن تُخفي شئ وتُظهِر شيئُ آخر، لقد أراد إبراهيم الإطمئنان فطلبه ولم يوارى ما بداخِله.
من هنا نجد أن المواجهة أسلم شئ لحل أي مشكلة حتى لو كانت مستعصية على الحل، إنما المشكلة في حد ذاتها إن تُرِكت دون مواجهة وتغاضى الناس عنها ذلك سوف يؤدي إلى أن تتفاقم وتتحول بالفعل لشئ قد يَصعُب حله، التجاهل ليس حلاً إنما الإقتحام والمواجهة أقوى عنصر من عناصر حل المشكلة، إن التجاهل نتيجته كارثية وعدم الطمأنينة بإمكانها أن تنهش في قلبك وربما تصل إلى عقلك ولا تعتقدُ أن فترة سكونها على السطح أنها لم ولن تتفاعل في داخلك..! لا إنها قد تنفَجِرُ لاحِقاً في سلوك ورد فعل مفاجئ وقد يؤدي انفجارها بأن تتعطل معها كل المشاعر فيعتريها الضعف والفتور واللامبالاه، في حين أنها يجب دائماً أن تَضج بالحيوية والتدفق والقوة..
واجه المشكلة ولا تتردد، إقتحم ولا تهرب من عدم طمأنينة إلى طمأنينة مزيفة حتى لا يكبر الأمر ويأكل قلبك، فالقلب يبحثُ عن المأوى والأمان والحب.
والآن إسأل قلبك: ماذا تفعل ياقلبي عندما لا تطمئن..؟! إقتحم هيا.. إبحث عن حل سريعاً.. هل وجدته..؟ إن الله جل جلاله يُعلِنُها أمامك في هذه الآية الكريمة..(ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، بلى يا أكرم الأكرمين بذكرك باللسان وكل الجوارح لفظاً وتكراراً من خلال التسبيح والإستغفار والإبحار في أعماق آياتك الكريمة التي كلما أبحرنا فيها كلما نجونا من غرق الظلمات إلى نور الحقيقية ومن ثَمَّ الطمأنينة، هذا هو ما فعله إبراهيم بالتعامل مع الأشياء بكل وضوح وليس بالتغافل والتجاهل عن كل ما يطلبه ويحتاجه قلبه من طمأنينه.
لا تُصَدِق كل من يقول لك تجاهل، تغافل.. أو تظن أن ذلك يُريحُ قلبك..؟! لم يخلُقُكَ الله لتتغافل وتدعي التجاهل..! لا تُبقي شيئاً داخل قلبك فيزيدُ أضعافاً مضاعفة وينمو فيه آلام وظنون رُبما لا تكون لها أساس من الصحة، إن القلب الغير مطمئن يشعر دائماً بقلق يدق بداخله جرس إنذار يثيرُ بداخله آليات معينه كسلك الكهرباء العاري الذي قد تُصعَقُ منه بمجرد أن تلمسه يدك.. فَلِمَ تُبقي هذا السلكٌ عارياً، لِمَ تتقلبُ رأساً على عَقِب وفي مقدورِكَ أن تبحث عن جِهة أكثرُ أماناً واستقراراً..!.
إن القلب الساكن الذي لا يُبالي ولا يشعُر بالقلق إنما هو في الحقيقة قَلبُ ، قد يبدو لك للوهلة الأولى من شدة استقراره أنه مُطمَئِن والعكس صحيح إن عدم الطمأنينة تدل على الحيوية وعمق المشاعر وتدفقها، تلك هي ميزة قد منَّ الله بها على الإنسان وميزه عن بقية سائر المخلوقات بها حتى عن الملائكة أنفسهم.
لو كانت الملائكة أنفسهم هم من يسيرون على الأرض لأنزلَ الله عليهم من السماء مَلَكَاً رسولاً.
هل لاحظتم هنا كلمة ” لو..” وما مغزاها، ما معناها.. وما المقصود بها هنا..؟
يقول الله جلَّ جلاله: (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء مَلَكاً رسولاً).
أيها الإنسان.. إن عدم الإطمئنان هي ميزة ميزك الله بها عن باقي المخلوقات حتى عن جنس الملائكة وأمرهم بالسجود لآدم عليه السلام، ولو عرفت ماهية وقيمة عدم التجاهل والتغافل لكنت عند الله أعظم من الملائكة، لم يَخلُقَكَ الله لتتجاهل ولكن لتهتم وتقتحم وتحاول.. أنت خُلِقت بيدِ الله ونفَخَ فيك من روحه هل تعرف ما مدى قوتك وقدر التكريم الإلهي لك..؟!
البشر هم من يمشون على الأرض هم من يحمِلون الأمانة حقاً وصدقاً (لقد خلقنا الإنسان في كَبد)، لكن عليك السعي والتعب عندما يشعر قلبك بشئٍ ما في داخله وتأكد إنك إن تغافلت وتجاهلته فأنت الذي سيخسَرُ كثيراً.
لو أنَّ هذا القلب طيراً داخل قفص لأراد أن يطير نحو السماء حيث الحرية، لو كان هذا القلب إنساناً لكان يريد أن يُصلِحَ حاله ويُغَيرُه للأفضل، لو كان مُشَرَداً بلا مأوى لا جدران تأويه ولا سقف يحميه من تقلُبات الجو لكان يدور بين الطرقات والدروب يسير بين القرى والمدن باحثاً عن ما يبثُ إلى قلبه شئ من الطمأنينة.
لو كان قلبك مثل الأرض ولونها يمتلكُ خصوبتها لزرعتُ فيه الأمل وشيدتُ فيه المدن وبنيت وعمرت ثم رويته بالحب الذي يبعثٌ على الطُمأنينة إلى أن يُزهِرُ الأمل فتجني وتحصد ثمار مازرعت وتملأ ورودك الكون عبيراً.
لو كان قلبك في عصرٍ ما وزمن ما سُرِقَ وصارَ عبداً بعد أن كان حُراً وتم بيعه على يدِ لصوص في سوق النخاسة عنئذٍ سوف يظهَرُ معدنه إما أن يتجاهل ويتغافل ويصمت أو يجاهد ليمتلك حريته في وقت وزمن لاحق.
لو كان قلبك طفلاً اختُطِفَ من أمه لظل يبحث عنها وتبحَثُ عنه إلى أن يَجتَمِعا سوياً حتى لو كان تحت المطر دونما مِعطف أو مظلة لن يهدأ إلا أن يلتقيان.
لو أن قلبك إنساناً صغيراً مراهقاً أو كبيراً ناضجاً حكيماً لن يمنعه ذلك من النظر إلى السماء وهي تُمطِرُ متمنياً أن يحتضن ماؤها بكل جوارحه، راجياً في لحظة ما أن يعيش الحب ويتذوقه وكأنه لا يتعدى العقد الثاني من عمره حتى لو كان حكيماً كبيراً قد بَلَغَ من العمر ما بلغَ.
لو كان قلبك طيراً لكان مع شروق الشمس كل صباح يسبح بحمد الله ويُغَرِدُ من فرط سعادته بحريته.
لو كان قلبك بحراً لسمعت صوت أمواجه مرة هادِئة وثائرة مرات عديدة.
قولوا لقلوبكم لا تتوقف ولا تتجاهل، ابحثوا عن الترياق عن الطمأنينة لتجدوا الحقيقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى