قصيدة السيرة الذاتية في شعر قيس لفته مراد

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

صار من المألوف عند الشاعر قيس لفته مراد  أن يكتب نصوص سيرته الذاتية التي تصور أحاسيس شخصيته, وانفعالاته في أثناء عرضه لتاريخها الماضي ,والتبس الأمر أكثر عندما راح الشعراء يدونون مذكراتهم ,وسيرهم الذاتية المتخيلة شعرا في بناء فني تتداخل فيه الأجناس الأدبية [1] ,وشكل حضور فن السيرة في المدونة الإبداعية الحديثة مسارا جديدا لمعاينة الأجناس الأدبية وفنون الكلام الإبداعي , ونتيجة لصلتها الحميمة بــ(أنا) الشاعر في تجربة الحياة والكتابة وهمومها وشؤونها وشجونها وشواغلها, فقد حظي هذا الفن باهتمام متميز من طرف مجتمع القراءة , وصار الفن الأدبي الأكثر مقروئية تقريبا ,وقد أسهم هذا أسهاما إجرائيا حقيقيا في تطور الأنواع السيرية وانفتاحها الحر على ما هو متاح من الفنون المجاورة ,تغذيها وتتغذى منها في آن معا ,وقادت في الوقت نفسه إلى انفتاح الرؤية النقدية الحديثة نحو التركيز على هذا التطور, وفحص مقوماته داخل النصوص, على النحو الذي أنتج مصطلحا جديدا مهجنا هو مصطلح القصيدة السير ذاتية [2],وفي ابسط مفهوم لقصيدة السيرة الذاتية يرى حاتم الصكر أنها تقديم رواية الحياة منظومة شعرا بناء على تشغيل الذاكرة بأقصى طاقتها [3],وهذا المفهوم لا يعطي لهذا النوع الأدبي سوى أن القصيدة السير ذاتية تكتب شعرا كما أنها لا تشير على نحو صريح إلى انتمائها زمنيا إلى الماضي بوصفها قصة استعادية , والإشارة إلى الذاكرة في التعريف لا يعني بالضرورة الماضي لان الذاكرة تعني انسياب حركة الزمن الماضي إلى الحاضر الذي سيتوغل مع المستقبل عبر جدلية التطور وديناميكية التفاعل على صعيد الحياة والأدب [4],والشاعر قيس لفته مراد العراقي المظلوم الذي لم تسلط عليه الأضواء الإعلامية لأنه بسيط , ومتواضع , فهو يسرد لنا معاناته  العاطفية بريشته الفنية , ويتحدث لنا عن جذوره بمدينته الناصرية فنراه يقول :-

أنا من أور من بقايا حنين

حين تسترجع الطفولة أور

أنا بقيا العشاق والشعراء

ادخرتها من الليالي الدهور

وسأحكي لديك أحلى الحكايا

أنا عندي منها الكثير الكثير

في ضلوعي أحزان كل الليالي

ولانت الحزن المضاف الأخير [5]

ولأن التخلص من الحاضر لحظة كتابة السيرة ليس إلا وهما والكاتب ألسيري مهما فعل لا يستطيع التخلص من الحاضر الذي يكتب فيه ليلتحم بالماضي الذي يرويه [6] ,وكأن فن السيرة لا يقوم إلا على هذه الاستعادة الزمنية من منطلق الحاضر وليس من سبيل لتلقيها كفن مستقل إلا عبر فهمها كاستعادة بوساطة الذاكرة التي تعني بداهة أن فعل التذكر يتم من الحاضر ذهابا إلى الماضي بطريقة الانتقاء والاختيار[7], والشاعر قيس لفته مراد مزج بين الماضي ,والحاضر عبر الزمن الخيالي الطليق ليتحدث عن حبيبته عادلة عبر تسلسل الزمن العمري لها ,فنراه يقول :

كان اسمها عادلة

صبية شاحبة الاهاب

كأنها صيغت من الضباب

وكان بين بيتنا وبيتهم

اقل من عشر من الأبواب

تركتها صغيرة تلعب بالحصى وبالتراب

مر بي الصبا

ومر بي الشباب

وعشت فترة طويلة من اغتراب

ثم التقيتها وهي تؤدي دورها الصغير

وصيفة حسناء من وصائف الأميرة

في مسرحية كتبتها قديمة

تجمع بين واقع التاريخ والأسطورة [8]

 كما أن هذا المفهوم يغفل أيضا مسالة مهمة لابد من توافرها في أي نص سير ذاتي هو التطابق  المفترض بين أنا المؤلف , وأنا السارد ,وأنا الشخصية المركزية ,التي أكد عليها لوجون في تعريفه للسيرة الذاتية بأنها قصة استعادية نثرية يروي فيها شخص حقيقي قصة وجوده الخاص, شخصيته بالخصوص [9], وتمنى الشاعر قيس لفته مراد أمنية لو تحققت له, وهي الرحيل عن هذه الدنيا التعيسة  ,فنراه يقول :

 عشت عشرين إلف يوم وليل

لم أذق راحة بها أو سلاما 

كيف قاومت عبء تلك الليالي

والليالي اعبأ وها تتنامـــى 

كل ليـــل يأتــي أقــول لنفسـي

ليت ليلي هذا يكون الختاما  [10]     

 ولهذا تصبح التجربة المرآوية لفن السيرة الذاتية تجربة تنطلق منها الذات لتجوب العالم ,والآخرين ,ولكن لتراهم من خلال الأنا,فهناك ارتداد باستمرار إلى الأنا ,ووعي بأن الآخر الذي نبحث عنه ليس سوى الأنا الذي يمارس التجربة ,وبذلك يصبح الآخر أشبه بصورة مرآوية للأنا تتحقق من خلال الكتابة,ومن هنا تستطيع مرآة السيرة أن تقدم صورة حقيقية للذات لا تقتصر على مظهرها الخارجي فحسب ,وإنما تتعدى ذلك لتصل إلى داخلية النفس الإنسانية بما يغمرها من مشاعر وأحاسيس , وما يحيط بها من حالات ,فتعكس خيبة الأمل , والإحباط ,والضعف ,مثلما تعكس الفرح ,والأمل والثقة [11] , ويرتبط مفهوم السيرة الذاتية عند قيس لفته مراد عموما بمفهوم تأمل الذات فقد تناول الشاعر جوانب كبيرة من سيرته الذاتية في دواوينه الشعرية ,وقد تجسدت السيرة الذاتية عنده من خلال النص الشعري الذي أصيب به بالضعف ,والإحباط ,فنراه يقول :-

كلانا شاحبان على هزال

أحزنك مثل حزني في الليالي

وهل عانيت ما عانيت منها

سواء في صباي أو اكتهالي

وعشت مخاض ليلي 00 كل ليل

إذا آل النهار إلى الزوال

ورهبة كل مفردة ورائي

تطاردني ومفردتي انفعالي

أقلبها يمينا أو شمالا

فتأبى أو تطيع على دلال

كلانا شاحبان انحن بقيا

لأبناء المجاعات الخوالي [12]

و تشغل الذاكرة عند الشاعر قيس لفته مراد حيزا بالغ الأهمية في فعاليات الإنسان الجوهرية ,والأساسية ,وتكاد تهيمن هيمنة شبه كلية على معظم نشاطاته الحيوية على الأصعدة اللسانية ,والشعورية كافة إذ أن الإنسان ينفق الجزء الأعظم من وقته متمثلا فضاء الذاكرة ومستوحيا طاقاتها الوجدانية وماكثا في منزلها,لأن الذاكرة على وفق هذا المنظور تعاين بوصفها [13],مستودعا أو مخزنا يختزن فيه الفرد جميع الصور الاجتماعية والعرفانية والعقلية التي تمر أمام مخيلته خلال حياته في هذا العالم المتطور سريعا نحو النمو والارتقاء [14], لكنها لا تتوقف بأية حال من الأحوال عند حدود الحفظ والأرشفة والخزن ,بل تتجاوز ذلك إلى تفجير إمكانات موجوداتها,عبر فتح آلية الحفظ على حركة الحواس,وتفعيل العلاقات المتجاورة ,والمتناوبة,بين غياب الصورة في المحسوس وتحريض آليات الذاكرة على استعادة الشعور بها ذهنيا ,ونلحظ ذلك عند شاعرنا قيس لفته مراد  عندما يتحاور مع امرأة جميلة لم تجده بالهيئة المحببة عند النساء , ولم تصدق بشعرية هذا الشاعر الفقير الذي يرتدي الملابس القديمة  ,فنراه يقول:-

تقولين يحكي الناس انك شاعر

وشكلك لا يوحي بأنك شاعر

ولابد من أمرين أن يخطئ الورى

بما زعموا أو أن تخون المظاهر

ترين ثيابي أو رثاثة مظهري

وما المرء إلا حسه والمشاعر

اجل لم أكن  يوما وسيما وليس لي

أناقة شكل ترتضيها النواظر

ملامح صاغتها الكآبة والأسى

وجسم تداعى فهو تعبان خائر

إذا وزنوه ذات يوم بكفة

وفي الكفة الأخرى الثياب السواتر

لشال وحطت كفة الثوب دونه

فقد شفه داء عياء مخامر

لكن في جنبيه تحيا رهافة

أحد من الحد الذي هو باتر [15]

  اعتمد الشاعرقيس لفته مراد  على القوة التي تقوم بحفظ صور المحسوسات والمعاني الجزئية المدركة منها,وتستعيدها في الشعور عند غياب المحسوسات ,والذاكرة وظيفة سيكولوجية مركبة تشترك في القيام بها جميع الحواس الباطنة تقريبا وهذا ما يراه الدكتور محمد عثمان [16],وتأخذ كل حاسة نصيبها من الفعل والتأثير والتأليف حسب حاجة الشعور المستدعى وصلته التشكيلية بجوهر هذه الحاسة ,تنفتح حركة الذاكرة بعد ذلك على نهر الزمن لتحرر صفتها الماضوية من فكرة الغياب مؤكدة حضورها الباهر في المستقبل,ولتبعث في مخزوناتها ألق الحياة القابل للتجديد والاستمرار[17] فشاعرنا قيس لفته مراد يسرد لنا الزمن الماضي عبر حركة شعرية متميزة من خلال حديثه مع حبيبته التي رد عليها بقوله :-

تشكين أني شاعر وقصائدي

مزامير عشق ما حوتها المزاهر

انأ ابن ارق المفردات وأعذب الـــ

القوافي واني إذ اغنيك ساحر

أجوب بك الدنيا عوالم من رؤى

وكرم خيال كم تمناه عاصر

وقد ألهمتني الجن احلي غنائها

فبيني وبين الجن ثم أواصر

أحس بها في كل ليل تحيط بي

فتنثال منها ملء قلبي الخواطر

واشعر أيديها تلامس جبهتي

كما مس قطر من ندى الصبح عاطر

تشاركني لما أنام وسادتي

وفي حلمي الطيف الذي هو عابر[18]

    فالذاكرة عند الشاعر قيس لفته مراد كائن انتقالي لذا يجب تعريفها بالصورة بناء على وجهيها فهي من جهة تقدم لنا لوحة عن بقايا الماضي وآثاره,كما تقدم لنا من جهة أخرى وفي هذه اللوحة نفسها معالم المستقبل ,نظرا لن الذاكرة تبتدع بحد ذاتها مستقبلها الخاص وهذا مايراه اريك فروم [19],  وربما كانت الذاكرة الشعرية هي الذاكرة الإبداعية الأعمق والأكثر فاعلية في إيقاد شرارة الإبداع في صلب هذا المخزون الثر,ولا شك في أن حركة الحداثة الشعرية بالذات ابتكرت مساحات جديدة لعمل الذاكرة وتفعيل آلياتها وتثمير طاقاتها الخلاقة ,في الطريق إلى انجاز قصيدة جديدة تتنكب أدوات الحداثة وتستشرف آفاقها الحرة ,وهو ما يراه الدكتور محمد صابر عبيد [20], استطاع شاعرنا قيس لفته مراد كتابة القصيدة ,والملحمة ,والمسرحية, وكل أنواع الشعر في مجاميع شعرية مخطوطة ,ومطبوعة وكانت نهاية فلسفته تقول :

مــــا خـــــلد المبــــدع تمثـــاله

أو حجــــر يعـــــــلى علـــى قبــــره

أو كاتـــــب يســـــرد تاريخـه

أو ناقــــد يكتـــــــب عـــن شعــــره

يخلد المبدع إبداعه في عصره

أو فــــــــي ســــــــوى عصـــــــره[21]

المراجع:

[1] التناص في شعر الرواد :112 0

[2] القصيدة السير ذاتية بنية النص وتشكيل الخطاب :د0 خليل شكري هياس :1 0

[3] مرايا نرسيس :حاتم الصكر :140 0

[4] في الذاكرة الشعرية : قيس كاظم الجنابي :16 0

[5] من شعر قيس لفته مراد :49 0

[6] السيرة الذاتية :94 0

[7] مرايا نرسيس :144 0

[8] من شعر قيس لفته مراد :63 0

[9] السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الأدبي  :22 0

[10] ديوان من شعر قيس لفته مراد :88 0

[11] الأنا في شعر محمود درويش :119 0

[12] من شعر قيس لفته مراد :95 0

[13] صوت الشاعر الحديث :179 0

[14] الذاكرة عرض وتقديم : 5 0

[15] من شعر قيس لفته مراد :17 0

[16] التدارك الحسي عند ابن سينا:183 0

[17] صوت الشاعر الحديث :180 0

[18] من شعر قيس لفته مراد :18 0

[19] اللغة المنسية :87 0

[20] صوت الشاعر الحديث :181 0

[21] من شعر قيس لفته مراد :33 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى