طباخ السم

شرين خليل | المنصورة – مصر

اللوحة للفنان دييغو فيلاثكيت

بدأت حكايتي منذ اليوم الذي أنهيت فيه حياتي الجامعية وكنت أعتقد أنني سوف أبدأ حياتي العملية بالشكل الذي تمنيته ورسمته في خيالي .
هذا اليوم كان بمثابة نقطة تحول في حياتي ..كنت إنسان قبل التخرج .. وأصبحت إنسان آخر بعد التخرج ..
تحطمت آمالي وطموحي .. وتحولت أحلامي إلى سراب .. وبين عشية وضحاها .. إنتهي كل شيء ..
في يوم كان من المفترض أن يكون يوم فرح وسعادة ..لكنه إنقلب إلي يوم عاصف وملئ بالصدمات ..
أستيقظت علي صوت أمي وهي تنادي علي:

-سعيد….سعيد ..
إصحي ياسعيد ..فوزي صاحبك إتصل وبيقول إنك نجحت .
-بجد ياأمي؟؟ أنا نجحت …خلاص إتخرجت …وحلم حياتي هيتحقق …
– ألف مبروك ياحبيبي علي النجاح .. إنت طول عمرك متفوق ..
إقتربت أمي وهي تبتسم وتضع يدها على كتفي .. ثم همست بكلمات وهي تضغط على كل حرف من حروفها :
– بس الحلم اللي في دماغك دا.. هيفضل حلم ياسعيد …
إنت لازم تاخد مكان ابوك .. هتشتغل مكانه ..أبوك كبر وتعب ..
-لايا أمي ..شغل أبويا لا …أنا عمري ما هاشتغل الشغلانه دي أبدا ..إستحالة.
إشتعلت أمي غضبا وإتسعت عيناها وإزداد إحمرار وجهها وقالت لي بلهجة فيها شئ من التهديد :
– هو إيه اللي إستحالة.. هتشتغل ياسعيد …ولو ماسمعتش الكلام …لا إنت إبني ولا أعرفك .. ومن دلوقتي هتبدأ الشغل .. صبرنا عليك سنين أنا وأبوك إستحملنا بحجة إنك بتدرس .. والحمد لله خلصت .. وجه اليوم اللي تريحنا فيه وتشيل الحمل عن أبوك .. ولا عاوز عمك يأخذ الشغلانة والجمل بما حمل .. ده أبوك يموت فيها ، وإنت شايف أبوك مريض ومش هايستحمل صدمات وخصوصا منك ..
-إستني بس نتفاهم يا أمي …ليه بتعملي فيا كده؟؟ إزاي هشتغل شغلانة مش فاهمها ؟؟ ولا مقتنع بيها أصلا ..
– يابني الموضوع سهل وبسيط ،محتاج شوية ذكاء .إنت بتصلح بين الناس وبتحل مشاكلهم بالطريقة اللي هما عاوزينها وهي دي الطريقة اللي بتريحهم وبيقتنعوا بيها وكلها مشاكل سهلة وبسيطة بس الناس بتبقي محتارة ومحتاجة اللي يساعدها ويطبطب عليها ويحس بمشاكلها ويقف جنبها يعني إنت بتعمل خير ياسعيد .
شوف يا إبني أنا تعليمي متوسط، لكن خبرتي في الحياة أكثر منك بكتير .. الحياة علمتني ،الحياة مدرسة كبيرة جدا ، .. وانا طورت من نفسي .. درست وقريت كتب كتير جدا ، وخبرتي مع الناس زادت بالشغل مع ابوك ..
وبعدين أنا هدخلك الأوضة اللي أبوك حاطط فيها الكتب اللي هتخليك تقدر تواجه كل المشاكل اللي عندك وتتعلم منها ..طول ما أنا جنبك ومعاك متقلقش أبدا يابني ..دا أنا اللي بعمل كل حاجه لأبوك ..ولولا وجودي جنبه مكنش بقي مشهور والناس بتيجي له من آخر الدنيا ..يابني بلاش تضيع الخير اللي إحنا فيه والنعمة اللي عايشين فيها ..

-يا أمي ..أنا طول عمري رافض شغل أبويا دا خالص ومستني اليوم اللي أخلص كلية وأشتغل وأعتمد علي نفسي ..
أنا مقدرش أعمل حاجة مش مقتنع بيها ،،يا أمي أنا بعيش معاناة بسبب شغل أبويا .. وخصوصا في الكلية كل زمايلي كانوا بيضحكوا علي ويستهزءوا بي .. كنت بخجل أقول أبويا بيشتغل أيه …أقول أيه ..أبويا دجال ..دجال يا أمي ..عارفة كان في زمايل ليا لما يشوفوني جاي من بعيد يتهامسوا عليا ويقولوا أبو العفاريت جه ولو بتكلم معاهم يقولوا بلاش تعصبوه أصل عفاريته هتطلع علينا ..كلام جارح ونظراتهم كانت بتقتلني …واللي يقولي قول لوالدك يساعدنا ويحضر لنا جن يجيب لنا فلوس أو يخلينا نسافر ،وكلام كتير ونظرات صعبة ..

-بيهزروا معاك يابني ،،إنت اللي بتاخد كل حاجة علي أعصابك وبتكبر الأمور..

– لايا أمي ..أنا بعرف أفرق كويس بين الهزار والجد …

-شوف ياسعيد كل دا كلام فاضي بكره لما تشتغل والفلوس تجري في إيدك هاتلاقي أصحابك أول ناس حواليك ونفسهم يبقوا زيك ومش بس كده دا ممكن يطلبوا منك تشغلهم معاك ،،،هو في حد لاقي شغل دلوقتي ياسعيد إنت في نعمة مش حاسس بيها ..

-أنا عندي حلم وعاوز أحققة ودخلت كلية الزراعة عشان أحقق حلمي ويبقي عندي مشتل ورد ويبقي عندي مصنع عطور ..أنا حلمي بسيط وهقدر أنا وهدي نحققة ..مش عاوزين من الدنيا غير إننا نكون سوا … وهدي هتكون جنبي ونبدأ حياتنا مع بعض حتي ولو هنبدأ من تحت الصفر ..من أول يوم في الكلية وأنا وهدي مع بعض متفقين علي كل حاجة ..هدي الوحيدة اللي حاسة بيا وفهماني …ليه يا أمي عاوزه تحرميني من حلم عمري؟؟؟؟

-وهم .. كل ده وهم ..اللي أنت عايش فيه دا يابني أحلام .. والواقع حاجة تانيه خالص ،،لازم تفوق ،،اللي أنت بتقوله دا وعايش فيه خيال مش بيأكل عيش.. وهدي دي بكره تزهق وتلاقيها راحت لغيرك اللي هايسهلها الدنيا ،،إيه اللي يجبرها تعيش معاك حياة صعبة ومتعبة ؟

-الحب يا أمي ،، هدي بتحبني ..

-الحب مابيأكلش عيش يابني ..إنت مش في الدنيا ولا أيه …

إستمر الحوار مع أمي لساعات.. أمي تلتف حولي من كل الجهات وأنا غير قادر علي إقناعها بل شعرت أنها هي التي إنتصرت في إقناعي ولكن هل أتنازل عن حلم عمري ؟؟ هل أنا حقا أعيش في وهم؟؟ طريقة أمي في الكلام ساحرة تستطيع جذبك وإقناعك بسهولة ولديها إجابة مقنعة ورد قاطع لكل سؤال ..حقا فأمي بارعة ولديها مهارة في التأثير وأنا علي الرغم من قدرتها الفائقة علي السيطرة ،مازلت أقاوم من أجل حبي ومن أجل حلمي ..طلبت منها ،وكأني طفل صغير يحتاج إلي العطف والحنان ، أن تتركني لكي أفكر وأستطيع أن أتخذ هذا القرار المصيري..ولكن :

-فجأة سمعنا صوت فوضي وصوت مثل صوت أبي يصرخ في غرفته بذعر ويقول :

إلحقوني …
إلحقني ياسعيد ..

خرجت مسرعا إلي غرفة أبي لأجده ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى