ضلالة هداية (٤)

رضا راشد | الأزهر الشريف


من العجائب، والعجائب جمة، أن يتمادى بإنسان غروره، ويتماهى به كبره، حتى تسول له أوهام العبقرية أن الله عز وجل قد جعله في كفة وجعل الأمة كلها :(سلفا وخلفا) ، بل البشرية كلها:(علماءها، ومفكريها، وأدباءها)، بكل ما حوت عقولهم من علوم مختلفة في كفة، وأن الله عز وجل قد آتاه من العلم والفكر والأدب وعميق النظر ما حُرِمَتْ منه البشريةُ كلها ممن هم في الكفة الأخرى.

عجب أيما عجب أن يتوهم امرؤ بنفسه علما ليس له أب، وأن علمه بين العلوم كعيسى بين البشر أو كآدم أبي البشر؛ ليس له اصل من البشر يتنسب إليه، بل أودعه الله من لدنه علما، وقال له: كن فلانا، فكان فلانا العبقري؛ فريد عصره، ووحيد دهره، لا بل فريد الدنيا كلها في عمرها كله: بما انقضى من زمانها ومالم ينقض، وما سوف يأتي في المستقبل.، وكأن علماء البشرية عامة وعلماء الأمة خاصة من قبله كانوا يتلاعبون بالعقول ويتعابثون بالأفكار تعابث الصبيان بالأوحال.

رويدا رويدا ..
فمن أي الناس أنت؟ ومن تكون؟
أوَحي بعد النبوة؟ أوَنبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!!حاشا وكلا؛ فلا علم لَدُنِّيًا يؤتاه المرء بلا اجتهاد منه ولا تأسيس على من سبقه.

إن العلم الذي ليس له جذور كالولد اللقيط الزنيم لا يعرف له أب؛ ولهذا كتب الناس قديما وحديثا في تراجم العلماء وسير أعلام الأدباء والنبلاء، فكان من أهم ما عُنُوا ببيانه من ترجمة العالم ذكرُ شيوخه وتلاميذه؛ عمن روى من الشيوخ؟ وعمن عنه روى من التلاميذ؟ وكأن مرادهم بذلك أن يدلونا على سلسلة العلم: خلفا بسلف، ولاحقا بسابق، فكل عالم له شيوخه الذين أخذ عنهم العلم حتى أجازوه، وهؤلاء هم سلفه وجذوره الذين يستمد منهم ماء علمه وحياة عقله.

ولم يكتف العلماء من العالم بقراءة أسفار من سبقه، بل أوجبوا اللقاء بهم، والسماع منهم، ومشافهتهم، وأخذهم الشك في من يكتفي من تحصيل العلم بمطالعة كتب العلماء ، فحذروا من التعلم على يديه؛ إذ لا يوثق -والحالة هذه- بنظره ولا يوقن بصحة علمه وفكره، فقالوا:
“لا تأخذ القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي”. [والمصحفي: هو من يعتمد في حفظه للقرآن على النظر في المصحف دون تلقيه عن الشيوخ القراء فلا يؤمن عليه الغلط=والصحفي هو الذي يعتمد في تحصيل علمه على مطالعة الكتب والصحف دون التتلمذ على يد العلماء والسماع منهم ]، وعدوا من أدوات العلم صحبة الأستاذ، فقال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
أخي لن تنال العلم إلا بستة
سأنبيك عن تأويلها ببيان
ذكاء، وحرص، واجتهاد، وبلغة،
وصحبة أستاذ، وطول زمان

وليس معنى هذا أن يظل العالِم أسيرَ فكر شيوخه وقيد آرائهم؛ (فلا عاقل يقول بهذا ) ، بل له أن يخالفهم وأن ينتهج نهجا مخالفا لنهجهم، وإلا فكيف يتطور العلم ويتقدم= وإنما المراد أن يكون لعلمه أصل من علومهم؛ فيبدأ من حيث انتهوا، وينطلق من حيث وقفوا، ويستل من أفكارهم وآرائهم خيوطا من نور يسكب عليها من زيت فكره وروحه حتى تغدو فجرا مستطيرا ونورا مستطيلا.

أما أن يأتي كائن في أخرة من الزمان، فيضرب بجرة قلم على علوم أفنى فيها الأوائل أعمارهم، وتوالت عليها طبقاتهم طبقة بعد طبقة وجيلا تلو جيل؛ليقول بكل كبر: لا تسمعوا لهذه العلوم والغوا فيها لعلكم تتعلمون،واعقدوا أسماعكم بلساني أنا، وقيدوا عيونكم بقلمي أنا؛ فما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد
فإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
فها أنذا العالم فاسمعونى..وهاأنذا الجهبذ فاعرفوني!!
فقد سمعناك فهل سمعناك إلا مثرثرا، لاغيا، متنفجا، بثوب الزور متشبعا؟!
وقد عرفناك فهل عرفناك إلا موسوسا ممرورا؟!
وقد بلوناك فهل بلوناك إلا زائغا عن الحق متكبرا مغرورا؟!
من الجائز أن تخالف بعض العلماء في بعض ما قالوه، ولكن ليس مقبولا، ولا ممكنا، بل ولا معقولا أن تخالف كل العلماء في كل ما قالوه.

ولا يذهبن بك الوهم -أخي القارئ- بعيدا فتظن بي سوءا أننى متجنٍّ على هداية فيما قلت ، لا والله ، بل ما جاوزت الحقيقة في حرف مما قلته قيد أنملة؛ فحسبك منه -مثالا على ما قلت – اعتماده في إنكاره للسنة النبوية الشريفة(وكفى بذلك بلوى) على أنها تنوقلت من خلال رجال، رووها عن رجال، والذين عدلوا وجرحوا الرجال رجال وسموا ذلك علم الرجال!!!

وحسبك منه عدم اعتماده على كلام المؤرخين بحجة ان هذا الذي يزعم انه باطل ورد في كتب التاريخ حيث يباع الكتاب منها بتلاتة تعريفة(بحسب كلامه).

أرأيتم كيف يتخذ الباطل سبيلا لإنكار الحق وكيف يتوسل بالهزل والعبث لتدمير دين الله عز وجل في الأمة،ولا حول ولا قوة إلا بالله..

ألم أقل لك يا عزيزى إننا نعيش الآن زمن العحائب،والعجائب جمة؟!!

ولكن:

يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .فالله المستعان على ضلالة(هداية) وعلى كل بلية .
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى