أدب

تأملات في قصيدة آدم الأخير

أوركسترا الشعر في سيمفونية القصيدة للشاعر د. عارف الساعدي

بقلم: ناظم ناصر القريشي
طالما أغرتنا الملاحم في بدايتها ومنحت ابطالها المجد ولوحت للأساطير كثيراً، لكنها لم تذكر النهايات ، لكن الشاعر عارف الساعديفي قصيدة (آدم الأخير) التي ابتكرها على شكل ملحمة او معلقة بخيال تأملي إبداعي، يأخذنا فيها الى المستقبل، إلى تخوم بعيدة، هناك حيث تتجلى الرؤيا، بإستنطاقه الشعري للكلمات، فنحن هناك وكلنا أدم الأخير، رغم أن وقعنا الحالي يتكلم بنفس اللغة وفكرة الشاعر، لان القصيدة تنتمي إلى الحياة نفسها،فهذا النص لا مواقيت لصيرورة إبداعه في الزمان، يكمن جماله في أنه نشأ بعيداً عن سلطة الزمن أنه هناك في المستقبل ، رغم أنه يعتبر نص موازي لحياتنا الحالية، وهذه هي شفرة الإبداع عند الشاعر عارف الساعدي في أنه دون ملحمة، إمتداد لملحمة كلكامش، وهذا يجعلنا نتساءل ماذا لو نقشت فوق ألواح الطين أوالحجربالخط المسماري…؟


والقصيدهرغم انها على شكل منودراما برؤية بصرية تعاقبية، لكن ابطالها المدينة،والفراغ، والأصدقاء الذين ذهبوا كثيرا في البياض، والشاعر يدفعها إلى أقصى الحدود لتعبر عن أفكاره ورؤاه بشكل كاملوحر، فجعل فكرة الشعر في طورها الأكثر تقدماً على اعتبارها واقع متحقق وملموس،تعبير في الرؤيا بتجاه الزمن المستقبل

قراءة سينمائية

الفعل السينمائي في المشهد الشعري

ينفتح المشهد في القصيده بصريا وسمعيا على أسئلة وجودية، تتناسل في موقف رهيبومهيب،تحضر فيها قوة الشعر في التلاحم الحقيقي للشاعر مع لحظته الشعرية، عبر رؤية نافذة للعمق، فهو رائياً، مستبصراًباعثاً نظرة استشرافية للمستقبل، لا تخلو من لمحة شجية حزينة، والتي تقدم بشكل أو بآخر تشريحا للنفس الإنسانية،فيضعنا في حيز القلق، كننا امام لوحة تكعيبية، بفكره واحده تتعاكس حولها أفكار كثيرة،حيث تقيس مرايا الفزع، فراغ آدم الأخير، فيدهشته المريرة، وبوجهه الشاحب كالموتى وعيونه المتعبه،وهو يدون الحيره في متاهته على مقامات الوهم، متجاوزاً قلق الإنسان الراغب في فهم كينونته فيقول الشاعر في مفتتح قصيدته :
ما الذي يفعلُه آدم في هذا الفراغ المرِ
ماذا يسمع الآنَ
ومن يسمعُه في لحظة الغيب النهائيِ
وعن ماذا يقولُ
هدأ العالمُ من ضجِته الكبرى
وفزَتْ بين عينيه الطلولُ
آدمُ المنسيُ في خاصرة الوقت
وحيداً كالبدايات
ومنسيِاً كبيتٍ لم يُقل يوماً
وملقىً في تراب العمر
عافته الخيولُ

أن الاتجاه إلى المشهد السينمائي في الصورة الشعرية، هو اتجاه يدل علىعمق الرؤية في المشهد الشعري،فإن الإدراك البصري الذي يمتد في عمقالمشاهد العديدة التي أستحضرها الشاعر في قصيدته المرئية عن آدم الأخير،ووظفها بالقصد الشعري السينمائي،واعتماد على قدراته التعبيريةلاقتراح الحركةفي تشكيللقطات ذات إيقاع حركي سينمائيمتوتر، فهي متدفقة،ومتلاحقة، ووجيزة، ومتداخلة برشاقة، ومجازيةكالحياة ذاتها، حيث تبدو المشاهد وكأنها تطوي مسافة الزمن وهي تدور في المنطقة الفاصلة بين الواقع والخيال ،فلكل مقطع في القصيدة معناها الشعري الخاص،والذي يمر عبر زمن القصيدة بلغة الصور الحيةوالمرئية و المتحركة، عبر لوحات ومتسعات شعرية متواجدة في القصيده، فأدم الذي تدنو له الأرض، وهو وريثها وحيداً، غريباً، منفياً كأدمنا الأول، في صمته ، وفي حيرته في العبث الذيتصوره القصيده ، أفكاره مبعثرة، فهو يمتحن ذاتك الانسانية.
آدمٌ يخرجُ من بيتٍ لبيتْ
آدمٌ تدنو له الأرضُ
البناياتُ
البيوتُ
القممُ العاليةُ
النبعُ
البحيراتُ
السفوحُ
وحده يملُكها الآن
وينساها جميعاً
آدمُ الآن وريثُ الأرض
لا يشركه شيءٌ
ولا تفهمُ منفاه الشروحُ
ضيَعته المدنُ الخرساءُ
واغتالت أغانيه الفتوحُ

قراءة موسيقية
الموسيقى في مقام الرؤيا

تستيقظ روح الموسيقى في جسد القصيدة، في سرها الأوحد، وتتوحد مع سرها، موسيقى آخاذه وآسره باشتراطات سينمائية، عبراستعراضاتها المشهدية، فسيناريو القصيدة يتحرك ضمن العمل السيمفوني الذي يقوده الشاعر عبر أوركسترا الكلمات وكورال المعاني، فالقدر يضغط على آدم الأخير، فيتصاعد اللحن حتى يبلغ ذروة وافرة من القوة،ويتحول الى غيوم بيضاء في أفق القصيدة:
وحدَه يصرخُ في ليل المحطات استفيقوا
أيُها الناسُ القديمون استفيقوا
أيُها الموتى اسمعوني
واستفيقوا
ما الذي يفعله آدمُ
والناسُ من المعنى أُريقوا

التفعيلة تمكننا بشكل مباشر من تتبع أثر الموسيقىالنابضة في لحظتها الأثيره، وتأملهافي انتظامها في القصيدة، ودمج مساراتها المنغمة في وهج القافية الموسيقية، وموازنة أصوات الكلمات إضافة الى الصور الشعرية ببنيتها البصرية والحيوية الممتعة والمؤثرة، والمشحونة بالجمال والمعرفة، عبر اللغة الباهره، وهذا يجعلناً نتساءل هل الصور الشعرية هي اصوات بفترات محسوبة زمنيا…؟ ، فهي موسيقى، كأنما الشاعر يستنبط لحناً سيمفونياً من آفاق أخرى يفتح مقام للحضور، في النهايات العظيمه، حيث ترتفع الموسيقى وتنخفض، كموج البحر في هذه الافتتاحيةالواسعة، التي تفيض تفاصيلها في المدى فكرا وتأويلا،في وحشة الزمان والمكان، لنجد أن لا أحد أكثر شعوراً بالوحدة من الشاعر نفسه وكلماته تدل على نغمة ناي حزينة ووحيده مرسومة بدهشه في فراغ هائل ومر، ثم لا شيء، وهذا ما منحنا خبرة السؤال ما لون القلق …؟ وهل يشبه المتاهه…؟، وهل هما نظائر على الفراغ …؟:
لم يصدقْ
أنَ ما يجري على الناس جرى
لم يصدق ــ أوَل الأمر ــ الحقيقة
ربَما كانت دعابة
أنْ يموتَ الناسُ قبل الموت
ما إنْ يُدفنوا
حتَى يقوموا هازئين
لم يصدقْ
أنَ ما يجري جرى
ولهذا كتب النهرَ
قريباً من أغانيهم
ولكنَ القرى
أسلمتْ أشجارها للموت
باعت سكَر الحزنِ
الذي يُؤكلُ يومياً
وباعتْ
فاشترى

قراءة تشكيلية
تكوينات تشكيليه بلغة شعريه

في الفن التشكيل رسم ادورد هوبر العزلة مجسده عبر الألوان بحضور شخصياته فيها،و جسدإدفارد مونكبألمرعبه الوجودي بشكل إبداعي ومؤثر، ناثراً بكثافهمشاعر الكآبة، والقلق، والرعب، عبر اثير لوحته الصرخة، كأن كل شي يحوم حول الشخصية الرئيسية، في مجال مغناطيسي متماوج عبر إيقاع تجريدي لتدرجات الألوان، ورسم ارنولد بوكلين برمزية عالية لوحة جزيرة الموتى والتي استلهم منها الموسيقار رحمانينوف إحدى سيمفونياته المشهورة وأطلق عليها نفس اسم اللوحة.
والشاعر عارف الساعدي جسد كل هذه اللوحات، بتكويناتها التشكيلية والبصرية المدهشة والأخاذة، وإحياءها ووفر اتصالاً مرئياً بها من خلال لغة الشعر، بحضور آدم الأخير المشحون بالملاحم، والمأخوذ ببريقها الاسطوري وتناغم معها بشكل مخيف في القصيدة، فالقوة الرائعة لفكرة التشكيل في القصيدة ،تبتكر مجازاتلها قيمتها الجمالية،في تكثيف الحاله النفسية، وإبراز التداعيات الذاتية لآدم عبر مونولوجات داخلية، وهذا يعبر عن القيمة الأدائية والمرئيه للكلمات في الصوره الشعريه:
آدمٌ تجرحُه الوحشةُ
في هذا الفضاء الواسع الممتدِ
من أقصى المحيطات
إلى آخر ظلٍ في الزمنْ
من تُرى يملكُ من؟
الفراغُ الموحشُ الممتدُ
أم آدمُ مَنْ يملكُ
لكنْ دون أنْ….؟

في حديث للناقد كينت جونز عن فلم “شجرة الحياة” يقول أنه (ينبض، مثل كائن حي عظيم)، وهذه القصيدة كذلك، هي ايضاً تنبض مثل كائن حي، فهي تشبه شجرة الحياة في نشوئها وتكوينها، هذا ما أخذنا اليه الشاعر عارف الساعدي بقصيدته (آدم الأخير) عبر دهشة اللغة وأعجوبة الكتابة الشعرية، عبر أوركسترا الكلمات وكورال المعاني،وفي خلفية المشهد في البعيد قداس غير مسموع لكنه يلامس الروح، وفي لحظة الحيرة تنبثق موسيقى الة الفلوت من بين ضجيج الآلات، عبر تدرجاتها الصوتيهخلال أوكتافاتها الثلاثه، دون أن تنتظر استرجاعات البيانو على اثير الكمانات في المدى،لتعطي معنى للرغبه في البقاء ، فهذه السمفونية القصيدة هي انتصارا للشعر في تجلياته الخلاقة ، وهي ما يمكن أن نطلق عليه “تحفة شعرية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى