حينَ خَلَعْتُ جَسَدِي

بقلم: معين شلبية

قالَ الرَّائِيُّ وَقَدْ مَسَّهُ وَحْيٌ مِنْ الإِلهام:
“لا تَصْرِفْ وجهَكَ عَنِ الحُبِّ التُّرابيِّ ما دامَ الحُبُّ التُّرابيُّ سيرفَعُكَ إِلى الحَقِّ”.
(عبد الرَّحمن الجاني).

شِتاءٌ خريفيُّ الشِّتاءِ
غِطاءُ الوِحْدَةِ يُرَتِّبُ فوضَى النِّداءِ
وعَتْمَةٌ كَوْنيَّةٌ تنحَني للبحرِ
حينَ ينقضُّ المَساءُ على المساءِ
لَوْ ذابَ فائِضُ الحُزنِ فِيْ داخِلي
لاحتشدتْ لذاكِرَتي السَّماءُ
فاذهبي أَيَّتُها الرَّغوةُ مِنْ دمي.. اذْهَبِي
لأَرَى كَمْ أَنايَ هُنا وَكَمْ أَنايَ هُناك.
للذَّاكرَةِ رَعشةُ الغِيابِ وسَطْوَةُ الحضورِ
هَذي الَّتي تُشعِلُني بلهفةٍ لا تنتهي
لامرأَةٍ كَسَتْهَا الأَزاهيرُ حُبَّاً، لامرأَةٍ مَسَّها الطِّيبُ
بأَقداسِهِ الماجِدَة
لامرأَةٍ مُسْتَعْذِبَة، تتعرَّى على مَهْلِهَا
بإِشراقةٍ واجِدَة.
وللشِّفاءِ مِنَ الذَّاكرةِ لا أَقولُ: أَيُّ شِفاءٍ
يَبْعَثُ المطرُ!
بلْ أَقولُ:
رُبَّ مُؤْتَمَنٍ يحفَظُ الذِّكرى
أَو كفاءَةِ الشَّوقِ على اشتقاقِ الاشتياقِ
يحرُسُ بوحَهَا الشَّهَوِيَّ
هذا الَّذي يحمِّصُني على متعةٍ لا تنتهي
يُنَقِّبُ عَنِ امرأَةٍ غشاها الحنينُ غموضاً
عَنِ امرأَةٍ ترفو عويلَ الحمامِ
إِذا ما استيقظتِ الحواسُ فِيْ لحظةٍ باهِظَة.
راعِشٌ سادِرٌ وحائِرٌ أَنا، كأَنَّي أَنا ولا أَنا
يختلطُ عليَّ الشَّكلُ والمعنى
أَمنحُ نَفْسِي مِنَ الإِسرافِ فِي الرَّمْزِ
ما شِئْتُ وما شاءَ ليَ الهَوَى
فاحْمِليني أَيَّتُها الرُّوْحُ كما حَمَلَتْكِ الخَواطِرُ
على شطحةٍ مارِقَة.
تَنْهَمِرُ الرُّوْحُ بعدمَا أَضاءَها الكَشْفُ
واشتعلتُ بها
لمْ أَخلعْ جسدِي بَعْـــدُ..
هُنا أَو هُناكَ نجمةٌ فِيْ ظَلامي
تُبْطِئُ الوقتَ فِيْ مَدارِي، تُقَشِّرُ وَحْشَةَ انتظارِي
تُزَمِّلُني بعَشْرِ زنابقٍ وتَمضِي طويلاً طويلاً
نحوَ الفُصولِ الأَربَعَة.
تَقْبْعُ فِيْ لوعَتِكَ الآنَ وحيداً
يُطارِدُكَ بَرْقُ الكلماتِ
وما تَحملُ الرِّيحُ مِنَ الشَّهواتِ
تَرى انعطافَ الانعطافِ
تَئِنُّ المَطالعُ، تَنِزُّ المواجِعُ
تَهْطُلُ الظِّلالُ ملامحَ امرأَةٍ تعتليكَ
امرأَةٍ كلَّما صادفتُهَا
فرَّتْ عَنِ الأَبصارِ.
تَفتحُ مِشكاةَ اللَّيلِ نافذةً للغُربةِ
تتجمهرُ الأَصواتُ، تَصطلي بلهيبِهَا
يَتَّكِئُ الخَيالُ عليكَ إِذْ غابَ الوصولُ
تَحْدُسُ بالنَّجمِ التَّبريزيِّ
تتداخلُ الأَشواقُ بالأَشواقِ
فتَرعَشُ حينَ ينتصفُ الطَّريقُ،
مُتْرَعَةً بالسَّعيِ موحِشَةً إِلَّا مِنْ نورِ الجُرْحِ
قد سَلاها العاشقُ المشغوفُ يوماً فقال:
هلْ تعودُ على غيمَةٍ عائِدَة؟
مِنْ أَيِّ مَجازٍ يَنبعِثُ العشقُ الأَبديُّ ويؤُوب
لِيَهْمِي فوقَ الأَعماقِ فَراشاً وقناديل؟
مِنْ أَيِّ غِيابٍ يأْتيْ ولا يَطَأُ الوُصول؟ قالَ:
«ما أَعظمَ النَّشْوَةَ فِيْ حَضرةِ المَحبوب»
لكنَّ العاشقَ تماهَى فِيْ مرآةِ صُوْرَتِهِ وحَلَّقَ فِي الغُروب.
يُدْرِكُكَ الزَّمَنُ الطَّارىءُ، يأْخُذُكَ الوَداعُ الأَخيرُ
لِهِجاجٍ وجَّعَتْهَا المنافي وسَقتها الجَواحيمُ كأْسَ الصَّدَى
يَنْقُضُكَ العَهْدُ، يَنْكُثُكَ الوَعْدُ، يَخْطِفُكَ الرَّدَى..
فتصرُخُ:
يا قُربانَ المَذبحِ الخشبيِّ، يا نُسْغَ الأَماني المُزمِنَة
يا وطنَ المَراثي العالِقَة
يا طَعْمَ الخريفِ وكُنْهَ المَجاهِلِ
يا الأَزرقَ الأَبديَّ، يا…
لكنَّ الهواجسَ واقدساهُ.. رحلتْ فِيْ صيحاتِهَا سُدَى.
مُستسلماً للتَّداعِي، حافياً كالحُلْمِ تُرْجِئُهُ شِعَابُ الدَّائِرَة
تُبلِّلُنِي الكِنَايَةُ فِي احْتقانِ الأَزمِنَة
تَقتحمُ أَنايَ رائِحَةُ الشَّوْقِ المُتشاوِفِ
فأَقْطَعُ اللَّيلَ إِذا أَسْدَفَ
يَنتابُني طقسٌ بهيمٌ يُؤَثِّثُ فِيْ طيَّاتهِ لونَ الإِياب
هو العَوْدُ يَعْلُو حَواكيرَ نَفْسِي ويَهْفُو فِي ارْتعاشِ المُنْحَنَى
فَلْتَأْذَنِ الرُّوْحُ لِيْ حتَّى أَصْمِتَ بالرُّؤَى
قَدْ تَخْمِشُ الكلماتُ حَدْسَاً مِنْ لَذَّةِ الأَلمِ.
كَزَهْوِ المــُجاهدِ على حافَّةِ الوَصْلِ
أَعفاهُ الوَجْدُ مِنَ الوُصول
أُعلِّقُ صَوتي على الرَّجْعِ الأَخير
ماذا يقولُ صدايَ لقلبي المُكبَّل:
يا أَكثرَ الأَبعادِ شُحُوباً! كيفَ يَكْتَمِلُ الرُّجُوع؟
يأْخُذُني القلبُ عميقاً لحُلومٍ أُكاشِفُهَا أَمامَ الرِّيحِ
أَوْ كَشَوْفٍ أُعَلِّقُهُ بِبَالِ الرُّوْحِ
كلَّما أَخَذَتْنِي إِلى عكا الرِّياحُ
فَهَلْ خابَ المُشْتَهَى يا عُوْلِيْسُ
أَمْ غُرابٌ يُحَوِّمُ مِلْءَ المَدَى.
كَتَمَلُّصِ اللَّازوردِ مِنْ غُرْبةِ الأَلوانِ
نِلْتُ نعيمَ المُشاهَدَة
رُبَّما أَنتِ أَمامي ها هُنا لكنَّكِ حَتْمَاً هُناك!
فاحرقيني الآنَ عشقاً كي أَرى ما لا يُرى
إِنَّ رسائِلَ الأَسرارِ فِي المَلكوتِ
تُبْعِدُ أَنكاسَ النُّكوصِ المُوجِعَة.
لا أَكثرَ مِنْ دَعْسَةِ ضُوءٍ يَبُسَتْ
فِي الأَرضِ البُوْرِ أَنا
لا اللاَّهوتُ ولا النَّاسوتُ أَنا
لكنِّي بِحُكْمِ الذَّاتِ سأَفنى عن فَنائِي
وما تَطابُقُ الرَّائِيُّ عن شَكٍّ
سِوَى غيبةٍ قَدْ تؤُوبُ.. قالها
واختفَى حينما وضعَ التَّأَملَ بينَ كفَّيهِ
وحاولَ أَنْ يَطير.
وما زالَ فِي العُمْرِ متَّسعٌ للتَّخيُّلِ
لحظةَ أُدركُ ما توارَى مِنْ حياتي
للتَّجلِّي صَبْوةٌ فِي العشقِ يُرويها اتِّقادِي
كلَّما أَوغلتُ بَحثاً فِيْ مَجاهيلِ السَّراب.
عَبَثَاً تُحَدِّقُ فِي البُعاد، عبثاً تُحدِّقُ
فافتحْ لِيَ الأَشواقَ كي نَشْفَى مِنَ العَطَشِ
المُغطَّى بالسَّحاب
لا شيءَ يَقُضُّ مهجَعَك
سِوَى نُورِ هذا الحَقِّ يَخترقُ الجَسَد
عَبَثَاً تُحَدِّقُ فِي البُعاد
ولِيْ تغريبةُ الحُلْمِ المُكابِرِ
مُذْ عادَ الدَّليلُ مِنَ الرَّحيلِ إِلى الخلاص.
حُلْمٌ أَقلُّ تَشْحَنُهُ جُسُورُ الذَّاكِرَة
كُلُّ شَطْحٍ يُثيرُ خَطْرَةَ الإِشراقِ فِيْ ذاكَ المَكان
كُلُّ كشفٍ لجوهرِ الأَشياءِ صِنْوٌ للزَّمان
لكنَّ المكانَ يفرُّ كالرُؤْيا ويَنهزمُ الزَّمان.
كهُيَامِ الصُّوفيِّ بالجَمالِ المُطلقِ
خَلَوْتُ أَنا مِنَ النَّاسوت
رهبةُ الإِدراكِ تَحمِلُني صَوْبَ الإِقلاع
كَشْفٌ هائِلٌ يُملي عليَّ سديمَهُ
قلَقٌ وفوضَى فِي الحَواس
دلائِلُ الهِجْرانِ تَبْزُغُ مِنَ الصَّحْوِ السَّبُوح
يَعُمُّ الجَهْرُ، تتَّحِدُ الأَلبابُ مِنْ سَطْوَةِ الذِّكْرِ
يَحِنُّ الحبيبُ إِلى الحبيبِ
أَفتحُ روحي، أَكتبُ مِنْ دمِهَا شِعري
مُفْعَمَةً تَنْبِسُ، تَهْجُسُ، تَشْرَقُ بالهَذَيان:
«يا كُلَّ كُـلِّي وكُلُّ الكُـلِّ مُلْتَبِسٌ
وكُلُّ كُـلِّكَ ملبوسٌ بمَعنائـِـي»
فعلامَ التَّلاشي فِيْ غيبوبةِ العشقِ يا رَعشةَ الحَيْران.
ويا حبيبُ، خُذِ المعاني خِفَّةً أَو خِلسةً
حتَّى أُطيلَ البحثَ فِيْ لغةِ النَّدى
ويا غريبُ خُذِ المنافي حينَ تصحو كلَّهَا
حتَّى أُشيِّعَ ظاهري عن باطني، ثمَّ أَعلو للمدَى.
ها أَنذا أَرحلُ فِيْ وَهْمي باحثاً عنِّي وعنكِ ما بينَ
ظَنِّيِ واليقين.
قلتُ: مَنْ أَنتِ؟
قالتْ: أَنتَ…
«وكانَ الفتحُ وانكشفَ الغِطاء»!
قالتْ: مَنْ أَنتَ؟
حدَّقتُ فِيْ رُوحي لأَسقفَ الإِغلاقَ بالتَّأْويلِ
وقلتُ: أَنا أَنتِ!
قالتْ: ما هذا الكلام؟
فقلتُ: سلامٌ عليكِ، عليكِ السَّلام
فقالتْ: يا إِلهي! ما أَنتَ إِلَّا أَنا، وما أَنا إِلَّاكَ
كيفَ تُمْتَحَنُ العَوام؟
فقلتُ: أَنتِ البدايةُ والحكايةُ والخِتام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى