مفاتيح القصيدة السير ذاتية في شعر قيس لفته مراد

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

منحت النظريات الحديثة منطقة البصر في القراءة,دورا لا يقل أهمية عن المنطقة الذهنية ,ولم تعد الأخيرة المرجع القرائي الحاسم في تقرير مصير القراءة فبدخول القراءة عصرا جديدا على وفق النظريات الحديثة ولاسيما السيميائية والتلقي ,أصبحت لمنطقة البصر فاعليتها المتميزة مستحوذة على بطاقة سفر بالالى طبقات النص وحرية التحرك فيها وذلك من اجل التعرف السليم على حيواته واستكناه معانيه ودلالاته [1],فللنص سطح ظاهري وباطن عميق,فضلا عن عتبات تسيجه,تعد بمثابة مفاتيح أو موجهات تقود القارئ المتلقي وتأخذ بيده للدخول ومن ثم التعايش في فضاء النص,فليس النص في نهاية الأمر إلا جسم مدرك بالحاسة البصرية أولا ومن ثم بالحاسة الذهنية [2],وبذلك لم يعد الذهن العامل الحاسم في تقرير مصير القراءة ,وصوغ نتائجها بتقنية تبدو نهائية من دون استفزازها أو أثارتها أو صدمها بأسئلة تقع خارج النسق الممتد من سواد الكتابة إلى بؤرة الاستلام الذهني[3]  وهذا يقودنا إلى القول أن القراءة البصرية تتمتع بشعرية لا تقل أهمية وشانا عن القراءة الذهنية , ولم تعد حكرا على القنوات الكلامية إذ أخذت مفاهيمها تتسع لمجمل الإنتاج الثقافي المعبر عن انفعالات الإنسان وتأثراته واهتزازاته الوجدانية يمتد من الشعر المنظوم على وفق أوزان الخليل ليشمل بعد ذلك كل الفنون الكلامية ,والسمعية, والبصرية فالشعرية التي تستوطن الشعر يمكن تستوطن الموسيقى أو اللوحة[4] ومن النقاد من يذهب إلى ابعد من ذلك عندما يرى أن الشعرية لا تتجلى فقط في المادة الثقافية المنتجة فنيا كالقصيدة المنشودة أو اللوحة المعروضة للجمهور بل يمكن أن يتسم السلوك الإنساني بهما أيضا فيحدث أن نسم هذا الفعل أو ذاك بأنه فعل شعري ,أو موقف شعري [5], إن النص الشعري هو أكثر النصوص الأدبية المطالبة بالتنظيم,وذلك لأنه نص يتطلب منه أن يظل مشغلا لتوليد الدلالة,وبالطبع هذا المشغل لا يمكن أن يتحصل على أدواته من الموهبة لوحدها,فالموهبة هبة لوحدها كثيرا ما تسقط مالكها في البناء العشوائي ,فنحصل منه على نص منفتح على مديات من حدائق التأويل أخرى على نص لا تطل مكوناته على شيء,ومرد ذلك لانفلات الموهبة دون رقيب يتمثل نمو الكتابة[6],وقد تجسدت الموهبة الشعرية المنفلتة عند شاعرنا قيس لفته مراد , فنراه يقول :

تعبان .. احمل عشقها وحدي

فتزيدني جهدا على جهدي

وتظل تمنعني00وتمنحني

شتان بين المنع والرفد

نبع بأعماقي مصادره

لكنه الري الذي يصدي

أني لأعرفه على ظمأ

وأعيبه وقا على وقد

لو ريح  هذا الليل تحملني

فتذرني في كل منعطف

وترشني في السهل والنجد[7]

أذن النص الشعري عند الشاعر قيس لفته مراد  يستلزم موهبة منفلتة ,ومتعالية على سياقات التحديد شرط أن تتمتع بأداة بناء تشتغل باستمرار على تقعيد بنية النص الشعري ,ومما هو بائن ومؤكد أن هذا التقعيد ليس تعقيدا فيزيائيا أنما هو تنظيم لوجه المعنى مرايا التلقي والتأويل ,بمعنى آخر الوصول بقارئه إلى الانحراف عن المعنى الجاهز للنص ,لان النص الحقيقي هو الذي يلاعب القارئ أو يتلاعب معه [8],وهنا في شعر قيس لفته مراد نجد هذه الموهبة وهذه الأداة , أي إننا نجد الانفلات المعقلن,فنحن لا نريد أداء ميكانيكا للنص ولا صوغا فوضويا غير موجه بعيون ثاقبة تعي وتتفحص [9],فنراه يقول :

زقاق من أزقتنا عريق

تضيق به الدروب ولا يضيق

يحاذر أن يراوده غروب

ويخجل أن يمر به شروق

زقاق معتم00 الا بقايا

كوى عمقت بجبهتها الشقو

فيفلت شاحبا منها البريق

زقاق دون ذاكرة 000 تمر

الليالي فيه سكرى ما تفيق [10]

هنا ثمة تلاق بين مختلف الفنون  كاللوحة الشعر/ كما الشعر والموسيقى تقوم على مدى قدرتها في أثارة المتلقي وشده بما تثيره من رؤى ومشاعر,تتخلق في المدهش ,وتخترق قشرة الحياة لتعريها,لتحرر الذات الإنسانية من أصفادها هذه الذات العاثرة القلقة,في عالم متغير ونسبي وخادع ومزيف [11],أن الشعرية التي تطرحها اللوحة الشعرية  لا تقل شانا عن طرح غيرها من الفنون الإبداعية,لان مدركات الإنسان ليست مقيدة بأعضاء الإدراك,كما أن للفنان الشاعر رؤيا خالقة يتمثل الواقع ويعيد صياغته في لوحة أو قصيدة0 و تشغل الذاكرة عند الشاعر قيس لفته مراد حيزا بالغ الأهمية في فعاليات الإنسان الجوهرية ,والأساسية ,وتكاد تهيمن هيمنة شبه كلية على معظم نشاطاته الحيوية على الأصعدة اللسانية ,والشعورية كافة إذ أن الإنسان ينفق الجزء الأعظم من وقته متمثلا فضاء الذاكرة ومستوحيا طاقاتها الوجدانية وماكثا في منزلها,لأن الذاكرة على وفق هذا المنظور تعاين بوصفها [12],مستودعا أو مخزنا يختزن فيه الفرد جميع الصور الاجتماعية ,والعقلية التي تمر أمام مخيلته خلال حياته في هذا العالم المتطور سريعا نحو النمو والارتقاء [13], لكنها لا تتوقف بأية حال من الأحوال عند حدود الحفظ ,والأرشفة والخزن ,بل تتجاوز ذلك إلى تفجير إمكانات موجوداتها,عبر فتح آلية الحفظ على حركة الحواس,وتفعيل العلاقات المتجاورة ,والمتناوبة,بين غياب الصورة في المحسوس وتحريض آليات الذاكرة على استعادة الشعور بها ذهنيا ,ونلحظ ذلك عند شاعرنا قيس لفته مراد  عندما يتحاور مع امرأة جميلة لم تجده بالهيئة المحببة عند النساء , ولم تصدق بشعرية هذا الشاعر الفقير الذي يرتدي الملابس القديمة  ,فنراه يقول:-

تقولين يحكي الناس انك شاعر

وشكلك لا يوحي بأنك شاعر

ولابد من أمرين أن يخطئ الورى

بما زعموا أو أن تخون المظاهر

ترين ثيابي أو رثاثة مظهري

وما المرء إلا حسه والمشاعر

اجل لم أكن  يوما وسيما وليس لي

أناقة شكل ترتضيها النواظر

ملامح صاغتها الكآبة والأسى

وجسم تداعى فهو تعبان خائر

إذا وزنوه ذات يوم بكفة

وفي الكفة الأخرى الثياب السواتر

لشال وحطت كفة الثوب دونه

فقد شفه داء عياء مخامر

لكن في جنبيه تحيا رهافة

     احد من الحد الذي هو باتر [14]

  اعتمد الشاعر قيس لفته مراد  على القوة التي تقوم بحفظ صور المحسوسات والمعاني الجزئية المدركة منها,وتستعيدها في الشعور عند غياب المحسوسات ,والذاكرة وظيفة سيكولوجية مركبة تشترك في القيام بها جميع الحواس الباطنة تقريبا وهذا ما يراه الدكتور محمد عثمان [15],وتأخذ كل حاسة نصيبها من الفعل والتأثير والتأليف حسب حاجة الشعور المستدعى وصلته التشكيلية بجوهر هذه الحاسة ,تنفتح حركة الذاكرة بعد ذلك على نهر الزمن لتحرر صفتها  الماضوية من فكرة الغياب مؤكدة حضورها الباهر في المستقبل,ولتبعث في مخزوناتها ألق الحياة القابل للتجديد والاستمرار[16] فشاعرنا قيس لفته مراد يسرد لنا الزمن الماضي عبر حركة شعرية متميزة من خلال حديثه مع حبيبته التي رد عليها بقوله :-

تشكين أني شاعر وقصائدي

مزامير عشق ما حوتها المزاهر

انأ ابن ارق المفردات وأعذب الـــ

القوافي واني إذ اغنيك ساحر

أجوب بك الدنيا عوالم من رؤى

وكرم خيال كم تمناه عاصر

وقد ألهمتني الجن احلي غنائها

فبيني وبين الجن ثم أواصر

أحس بها في كل ليل تحيط بي

فتنثال منها ملء قلبي الخواطر

واشعر أيديها تلامس جبهتي

كما مس قطر من ندى الصبح عاطر

تشاركني لما أنام وسادتي

وفي حلمي الطيف الذي هو عابر[17]

  فالذاكرة عند الشاعر قيس لفته مراد كائن انتقالي لذا يجب تعريفها بالصورة بناء على وجهيها فهي من جهة تقدم لنا لوحة عن بقايا الماضي وآثاره,كما تقدم لنا من جهة أخرى وفي هذه اللوحة نفسها معالم المستقبل ,نظرا لن الذاكرة تبتدع بحد ذاتها مستقبلها الخاص وهذا ما يراه اريك فروم [18],  وربما كانت الذاكرة الشعرية هي الذاكرة الإبداعية الأعمق والأكثر فاعلية في إيقاد شرارة الإبداع في صلب هذا المخزون الثر,ولا شك في أن حركة الحداثة الشعرية بالذات ابتكرت مساحات جديدة لعمل الذاكرة وتفعيل آلياتها وتثمير طاقاتها الخلاقة ,في الطريق إلى انجاز قصيدة جديدة تتنكب أدوات الحداثة وتستشرف آفاقها الحرة ,وهو ما يراه الدكتور محمد صابر عبيد [19], استطاع شاعرنا قيس لفته مراد كتابة القصيدة ,والملحمة ,والمسرحية , وكل أنواع الشعر في مجاميع شعرية مخطوطة ,ومطبوعة وكانت نهاية فلسفته تقول :

مــــا خـــــلد المبــــدع تمثـــاله

أو حجــــر يعـــــــلى علـــى قبــــره

أو كاتـــــب يســـــرد تاريخـه

أو ناقــــد يكتـــــــب عـــن شعــــره

يخلد المبدع إبداعه في عصره

أو فــــــــي ســــــــوى عصـــــــر

^^^^

المراجع:

[1] المغامرة الجمالية للنص الشعري :102 0

[2] نظرية النص :30 0

[3] المغامرة الجمالية للنص الشعري :30 0

[4] قصيدة السير ذاتية :97 0

[5] في شعرية الضوء :15 0

[6] الدراويش والمرايا :83 0

[7] العودة إلى مدينة الطفولة :28 0

[8] السيمياء العامة وسيمياء الأدب :170 0

[9] ينظر الدراويش والمرايا :84 0

[10] العودة الى مدينة الطفولة :44 0

[11] في شعرية الخط :82 0

[12] صوت الشاعر الحديث :179 0

[13] الذاكرة عرض وتقديم : 5 0

[14] من شعر قيس لفته مراد :17 0

[15] التدارك الحسي عند ابن سينا:183 0

[16] صوت الشاعر الحديث :180 0

[17] من شعر قيس لفته مراد :18 0

[18] اللغة المنسية :87 0

[19] صوت الشاعر الحديث :181 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى