يوتوبيا إيجابية أم سلبية

أميرة عبد العزيز | فنانة تشكيلية مصرية

حسناً يمكننا القول بأن هناك سعادة وسعادة..!

قد نرتاب في الدستور الأمريكي الذي نص على أن كل إنسان من حقه أن يسعى نحو السعادة pursuit of happiness لقد كانت أولى وصايا المسيح تتلخصُ في حُب الغير، كما أن من أهم مبادئ الإسلام حب لأخيك ما تحب لنفسك وكلاهما “الإسلام والمسيحية” ينبعان من نهر الحب والتسامح ويصبان في بوتقة واحدة ألا وهي السعي وراء إرضاء الله  عزَّ و جلَّ.

عندما يتسم العالم كله بالإستقرار ستسعد البشرية،لكن هل تشعر وقتها بالسمو؟ أعني السمو النفسي والروحي.

إن السمو في حد ذاته نتاج لألم شديد يعتصر الإنسان لِيُخرِج أجمل إما فيه فيسمو الإنسان بفكره وقلبه وروحه أو يحدث عكس ذلك، فالمناخ الإجتماعي الذي يتسم بالتوتر وعدم الإستقرار قد يكون في مجتمع ما، بل هو وارد أن يحدث ذلك بالفعل في كل المجتمعات حتى نستطيع فهم ما يحدث حولنا من مآسٍ، وإدراك وكيفية قيام الحروب ولماذا؟ وماهي الدوافع التي قد تجعل دولة تحتل دولة أخرى..؟

إذن الاستقرار في بعض الأحيان قد يكون تربة غير صالحة لبلوغ السعادة المنشودة في سمو الروح إذا كنت تبحث بالفعل عنها عليك الشعور بالغير ومعالجة آلامه ومساعدته على تجاوزها عندئذٍ سوف تسمو وتعرف المعنى الحقيقي للسعادة، حال ذلك الشعوب التي تمد يدها لمساندة ومساعدة الشعوب التي تتعرض للحروب وتقع بين رحى فَكي المحتل، كيف يمكن لشعب أن يشعر بسعادة واستقرار وهو يرى ويدرك أن هناك شعب يتعرض للجوع والمرض والإحتلال..!؟كيف له أن يشعر بالحرية ويتنفسها وشعب آخر يتجرع مرارة الاحتلال بكل ظلمه ومساوئه..!؟

لقد شغلت البشرية عامة والفلاسفة والكُتاب والأدباء خاصة فكرة ما هو أفضل وأجمل للعالم.. إن المجتمع الإنجليزي بطبعه مُحِب للإنضباط والنظام دائماً يتطلع لما هو أفضل، من هنا كان من أهم سمات الأدب الإنجليزي هو وجود فكر تَخيُلي لِما يَجب أن تكون عليه الأوضاع في صورتها المُثلى.. ربما يكون الحُلم فكرة أو مكان لا وجود له على أرض الواقع، قد يُصبِح الحُلم أو المكان بعد ذلك حقيقة ملموسة حتى وإن إصطدما بعد ذلك بأرض الواقع الفعلي.

الخيال كثيراً ما يتحول إلى واقع، وما هو الواقع إلا غير أفكار وتصورات سعت البشرية – من علماء وفنانين وكُتاب وفلاسفة و…. – إلى تحقيقها، فجميع الإختراعات ما هي إلا فكرة وتَصَور تَمَّ تحقيقه بعد ذلك على أرض الواقع.

إن الفكرة التي لم تُولَد بعد والحُلم والتخيُل والتصور والمكان الغير موجود جميعها مُختَصَرة في كلمة يوتوبيا، لقد كان فيلسوف الحب والجمال أفلاطون يفكر في صورة لمدينة فاضلة جميلة تسودها الجمال وتملَؤها الفضيلة فكانت يوتوبيا Utopia التي كان هدف أفلاطون المنشود منها وجود جمهورية تتحقق فيها السعادة للجميع، إنها فكرة وتصور كان يَحْلُم به أفلاطون ويريد تحقيقه على أرض الواقع.. هي الفكرة الإيجابية عن المكان اللاموجود.

وقد تكون يوتوبيا سلبية تُعَبِرُ أيضا عن فكرة غير موجودة واحتمال وجودها وارد وبالمعطيات التي يكون عليها الواقع تستطيع أن تستخلص النتائج بعدها، وقتها قد ترى أن ظاهِرُها يبدو خيرا باعِثُ على الحب والسعادة ولكن باطنها هو عكس ذلك تماماً، وهذا ما قدمه الكاتب والروائي الإنجليزي توماس مور Thomas More  في روايته Ou tops عام 1516 أي بلد لا وجود له، حيثُ كانت إنجلترا في هذه الحِقبة من الزمن تعاني من تزايد عدد السكان وتبحث جاهدة عن حل لهذه المشكلة، فَنَجِدهم يستأجِرون المُرتَزَقة للدفاعِ عن جزيرتهم ولا يُفَكِرون في إلغاءِ العبودية.. هكذا يُصْبِح ُ الإستعمار سياسة لها شرعيتها هدفها تحقيق السعادة لسكان مدينة يوتوبيا من أجل التوسع وبالتالي يسود الخير وتَعٌم الفضيلة.

نعم إنه كان تصور توماس مور عن يوتوبيا روايته التي يُصَورُ فيها العالم بصورة مُثْلَى ظاهِرياً وفي حقيقتها وباطنها إنما هي صورة ساخِرة من الأوضاع التي كانت عليها إنجلترا وقتئذٍ.. ومنذُ ذلك الحين كانت رواية توماس مور لها أثر عميق وبعيد على الأدب الإنجليزي بشكل خاص والأدب العالمي بشكل عام وأصبحت يوتوبيا التي يقصِدٌها توماس مور شكلاً ومضموناً لوناً أدبياً قائماً بذاته.

لقد أضحى من الطبيعي أن تكون لليوتوبيا صورة تَكشِف الأوضاع التي قد يكون عليها مجتَمَعِ ما فتكون جميلة مرة أو غيرُ ذلك تارة أخرى، بمعنى تكون سلبية عكسية يوتوبيا سوداء على خِلاف اليوتوبيا الإيجابية التي كان يقصِدٌها أفلاطون.

اليوتوبيا سواء كانت إيجابية فاضلة تسعى للخير وتغيير الواقع للأفضل، أو اليوتوبيا السلبية كلاهما ينطلقان من نقطة واحدة ألا وهو الواقع السلبي السيئ الذي يريد الكاتب أو الأديب والمُفَكِر توضيحه للبشرية إما من خلال صورة جميلة مُشْرِقة فاضلة كالتي يبتغيها ويَنشُدها أفلاطون “الصورة الإيجابية ” أو من خلال الواقع المرير والمبالغة في إبراز مساوئ الحال الذي آل عليه الواقع بطريقة ساخِرة كما هو الحال في رواية توماس مور.

وللحديث بقية..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى