الأثر النفسي لمنهج التفكيكية في شعر ما بعد الحداثة (1 – 3)

ثناء حاج صالح | شاعرة وناقدة سورية تقيم  بألمانيا

ظهرت فلسفة (ما بعد الحداثة) في العالم الغربي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مع ظهور مسرح اللامعقول، وظهور الفلسفات العدمية واللاعقلانية واللاشعورية كالعبثية والسريالية والوجودية.

وقد مثلت (التفكيكية) نقطة الانعطاف التاريخية، التي حصل فيها الانقلاب الكامل على فلسفة الحداثة، للتحول إلى الفلسفة المضادة في مرحلة ما بعد الحداثة والتي حملت رايتها عند العرب قصيدة النثر .

لقد حدث هذا الانقلاب في المرحلة التي بدأت فيها قصيدة التفعيلة في ما سمي بالشعر (الحر) بالاستقرار والرسوخ في الذائقة العربية ، لكن على الرغم مما وفرته هذه القصيدة من حريات الكتابة من حيث الشكل الإيقاعي والمضمون، فإنه لم يغن عن المطالبة بالمزيد من الحرية . تلك الحرية التي انقلبت إلى انفلات معنوي فلسفي خطير، لم يشهد له الشعر العربي مثيلا قبل أن يشهد عصر قصيدة النثر في مرحلة ما بعد الحداثة .

ويسعى هذا المقال للتنبيه إلى تجارب الأزمات النفسية العديدة المحتملة ، التي خلّفها التأثر بفلسفة المنهج التفكيكي عند شعراء قصيدة النثر .

المنهج التفكيكي أسسه عام (1960م) الفيلسوف اليهودي الجزائري/ الفرنسي جاك دريدا(مولود عام 1930م)، ردا على الفلسفة البنيوية (البنائية) التي كانت سائدة في الخمسينيات من القرن العشرين في فرنسا . لكن على الرغم من أن التفكيكية هي في الأصل منهج فلسفي نقدي إلّا أنها تعدّت عند تطبيقها وظيفة النقد في قراءة النص، لتتدخل في صميم إنشاء النص من حيث هي فلسفة ، وأصبح النص التفكيكي الممثل (بقصيدة) النثر أقرب ما يكون إلى سيل من الهذيان، يشبه الأعراض التعبيرية اللغوية المرافقة لأمراض نفسية مزمنة كالهستريا والعصاب .

وقد تفاقمت تلك الأعراض المرضية مع الوقت بسبب التمسك بها والاستغراق فيها، إلى درجة لا يطيقها بعض ذوي الذائقة المعتدلة من القراء.

 

مؤاخذة الحداثة بجريرة ما بعد الحداثة

من المؤكد أن قسما كبيرا من الشعر العربي الذي سمّاه النقاد عموما بالشعر الحديث أو (المعاصر) والذي كتبه وبشر به كل من أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال وبول شاوول وشوقي أبو شقرا وجبرا إبراهيم جبرا وسواهم، من خلال مجلة شعر عام(1957)، إنما ينتمي بشكله ومضمونه ومفاهيمه إلى المرحلة (ما بعد الحداثية)، وإلى أطروحات المنهج التفكيكي على وجه الخصوص .

يقول الناقد د. ناصر سليمان الغامدي في مقدمة كتابه (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها) إنه بعد النظر في كتب أهل الأدب الحديث، تبين له أن:” أكثرهم يطلقون لفظ المعاصرة و(الأدب المعاصر) على أدب الحداثة”(1)

لكن الغامدي نفسه استعرض في هذا الكتاب عددا كبيرا من عناوين مؤلفات عربية في النقد ، عالجت كلها تأثيراتٍ تنجم في حقيقتها عن فلسفات مرحلة (ما بعد الحداثة) في الشعر والنقد، مستخدما مصطلح (الحداثة ) ،وليس (ما بعد الحداثة) ( 1)

إذن، فثمة شبه توافق على الدمج بين مصطلحي الحداثة وما بعد الحداثة، وثمة عدم انتباه إلى ضرورة التمييز بينهما . ولا ريب أن هذا الدمج هو السبب في تشويش فهم المتلقي لوجهات نظر الشعراء والنقاد، فيما يتعلق بقبول، أو رفض بعض الشعر الحداثي (الحديث)، الذي ما كان ليشار إليه بأصابع الاتهام ، لولا المثالب التي ألصقها به الشعر التفكيكي ما بعد الحداثي،بسبب التباس المصطلحين .

وربما يعود سبب الالتباس بين المصطلحين ( من وجهة نظري ) إلى أنه على الرغم من نشوء المنهج التفكيكي متأخرا (عام 1960)، إلاّ أنه قد وصل إلى مختبر التجربة الشعرية العربية ،في المرحلة نفسها التي نشأ فيها شعر التفعيلة الحر ذو الأصل العربي ، والذي مثّل بالفعل المفهوم الحداثي في الشعر العربي. فلم يكن من المبرَر في ذلك الوقت الفصل بين المفهومين. خاصة وأن الغرب الذي استوردنا منه شعر ما بعد الحداثة ،كان ما يزال يخوض افتتاح تجربة (قصيدة النثر)

 

إبداع العرب في اتباع الغرب

كانت الفرنسية سوزان برنار قد أصدرت الطبعة الأولى، من كتابها (قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن) عام(1959م) في باريس كرسالة لنيل درجة الدكتوراه ، فاكتشفه أدونيس بعد شهور فقط من صدوره، وترجمه إلى العربية , و كتب على إثر ذلك مقالا بعنوان (في قصيدة النثر)، نشره في مجلة «شعر» عام(1960م). فسجّل له التاريخ أنه هو أول من أطلق على هذا النوع من الكتابة تسمية (قصيدة)، تيمناً بسوزان برنار. وقد تبنى عدد من شعراء مجلة شعر كل ما نظَّـرته سوزان برنار في كتابها، وبدؤوا بكتابة ونشر قصائد النثر، والتبشير بها، في مجلة (شعر) التي أسسها خليل حاوي (1957) لتكون منبرا للشعر الحديث ، تيمنا أيضا بمجلة شعر الأمريكية ، وكان أكثرهم حماسا أنسي الحاج وأدونيس وخليل حاوي وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم.ثم جاءت ترجمة الشعر الأجنبي بإشراف مجلة شعر أيضا ، لتقدم النماذج المختلفة من الشعر الحداثي ، و ما بعد الحداثي في الوقت نفسه، تحت عنوان واحد (القصيدة الجديدة).

 

الحداثة المضادة والانقلاب على ما بعد الحداثة

ويبدو أن الجدل الطويل الذي ثار منذ أواخر القرن العشرين، حول (الحداثة) ، إنما كان يدور في مجمله وفي حقيقته حول مفهوم (ما بعد الحداثة )، في جانبها التفكيكي على وجه الخصوص.

وهذا ما يفسر لنا كيف يمكن لشعراء حداثيين رواد في شعر الحداثة، مثل نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وأمل دنقل، ونزار قباني، ومحمود درويش، وهم يكتبون الشعر الحر (التفعيلي) الحديث، أن يصرِّحوا بمواقفهم المضادة للقصيدة الحديثة (الحداثة المضادة ).فلا بد أنهم إذن كانوا يعنون بالقصيدة الحديثة القصيدة (ما بعد الحداثية أو القصيدة التفكيكية )

ولم يتوقف رفض القصيدة التفكيكية على الشعراء التفعيليين ، بل إن روّاد قصيدة النثر أنفسهم والذين هم أول من بشّر بها، وأول من اقترحها بديلا قويا منافسا للشعر التقليدي، هم أنفسهم قد انقلبوا عليها ووقفوا ضدها، ولكن بعد ثلاثين عاما من تبشيرهم بها .

وهذا أدونيس واضع المصطلح بالعربية يتراجع عنه ، عند تقييمه لتجربته الشخصية في كتابة قصيدة النثر، في العام 1983 مؤكدا توقفه عن هذه الكتابة التي لا يعدّها (قصائد) بقوله: ” ربما كان ذلك في أساس ما دفعني إلى أن أطوِّر نظرتي لكتابة الشعر نثرا. فقد توقفت عن هذه الكتابة باستثناء (المزامير)في (أغاني مهيارالدمشقي) حتى سنة 1965 ولا أعدها (قصائد) ، ورأيت أن علينا أن نعيد النظر في ما قلناه ومارسناه ، مما يتصل بما سميناه ” قصيدة النثر “(2)

وكان أدونيس قد شنَّ هجوما على دعاة التجديد بقوله: ” نستطيع أن نعدد مآخذ كثيرة على النتاج الشعري الجديد : إن فيه تضخما ، يرافقه ضجيج فارغ . وفيه انسحار بالطرافة لذاتها ، ويبحث عنها بمختلف الوسائل . وفيه إلى ذلك زيف كثير بأشكال مختلفة. ” وميّز أدونيس بين التجديد الحقيقي والتجديد المزيف بقوله: ” إن الكثير من هذا المزعوم تجديدا يخلو من أية طاقة خلاقة ،وتعوزه حتى معرفة أبسط أدوات الشاعر : الكلمة والإيقاع. “(2)

أما جبرا إبراهيم جبرا فقد نسف تاريخا من التجربة الشعرية، ووصف عملية التحديث الشعري بالانفلات ،حين قال : ” بعد ثلاثين سنة من بدايتنا في عملية التحديث الشعري تحقق الكثير. لكنه في تحققه انفلت. كان للشعر العربي نوع من القدسية ، الآن فقد الشعر العربي هذه القدسية. لقد حضّرنا ثلاثين سنة، حتى أصبح قول مثل هذه القصائد ممكنا، ولكن يخيّل إلي أحيانا أننا أخطأنا بذلك التحضير ، لأننا مهدنا لهذا النوع من الشعر .”(2)

لكن ما يلفت الانتباه أكثر،هو اعتراف روّاد قصيدة النثر بالجانب النفسي المضطرب والمتأزم الذي تميّز به شعراؤها .

وأنا هنا لا أتكلم عن المرض النفسي (العصاب والنرجسية )، الذي قد يرتبط بطبيعة الشاعر بوصفه فنانا. وهو ما ذهب إليه الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه ( التفسير النفسي للأدب)(3) نقلا عن ترلنج Trilling الذي قال : ” أول شيء تشخَّص به حالة الفنان الصحية أنه عصابي neurotic ، وقد ذهبت محاولات التحليل النفسي المبكرة لتناول الفن، إلى أنه ما دام الفنان عصابيا فإن محتوى عمله الفني عصابي كذلك. “

لا يتكلم هذا المقال عن الطبيعة النفسية القلقة والمشتركة بين جميع الشعراء، إنما يتكلم عن الأثر المرضي الذي أضافته الثقافة التفكيكية على وجه الخصوص، إلى الطبيعة العصابية الأصلية للشعراء ما بعد الحداثيين.

يقول أنسي الحاج مبشَّراً بقصيدة النثر في مقدمة ديوانه (لن)(4) مادحاً لا هاجياً: “يجب أن أقول أيضا: إن قصيدة النثر- وهذا إيمان شخصي قد يبدو اعتباطيا- عمل شاعر (ملعون). الملعون في جسده ووجدانه، الملعون يضيق بعالم نقي. إنه لا يضطجع على أرث الماضي. إنه غازٍ. وحاجته إلى الحرية تفوق حاجة أي كان إلى الحرية. إنه يستبيح كل المحرمات ليتحرر. لكن قصيدة “النثر” التي هي نتاج ملاعين، لا تنحصر به أهميتها أنها تتسع لجميع الآخرين، بين مبارك ومعافى. الجميع يعبرون على ظهر ملعون.

نحن في زمن السرطان. هذا ما أقوله ويضحك الجميع. نحن في زمن السرطان: هنا، وفي الداخل. الفن إما يجاري أو يموت. لقد جارى والمصابون هم الذين خلقوا عالم الشعر الجديد: حين نقول رمبو نشير إلى عائلة من المرضى. (قصيدة النثر بنت هذه العائلة)…”(4)انتهى كلام ـنسي الحاج.

هذا السرطان الذي يتحدث عنه أنسي الحاج ،هو منبع الأزمات النفسية والذهنية ، التي تعمل على تدمير كل القيم المعنوية المؤدية إلى الاستقرار والتوازن النفسي عند شاعرقصيدة النثر وفقا لمنهج التفكيكية ، عن طريق التشكيك بالقيم والمبادئ المعرفية والأخلاقية ، والبحث عن أية أسباب تقود إلى رفضها، والتمرد عليها، من أجل أن تستمر أزمات الرفض و التمرد والاغتراب إلى الأبد، ما دام استمرار هذه الأزمات يعني استمرار الشاعر نفسه ، وبتوقفها يجفُّ مداده . لذلك تجد الشاعر فيهم قد تمسك بمعاناته وقلقه تمسكا يصل إلى حد الفخر والمزايدة عليهما، واستغرق فيهما استغراقا يطمح إلى زيادة الرصيد منهما، حتى انقلب الزيف في تقمص الشعور عنده إلى حقيقة ماثلة في النص النثري الذي يصرّ مؤلفه على تسميته (شعرا).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى