في التحرر المعرفي: مساهمة أولية في تشكيل إطار تفكير فلسطيني

د. وليد سالم – جامعة القدس

اللوحة للفنان الإنجليزي: جيمس وارد

تهدف هذه المساهمة إلى إثارة موضوع التحرر المعرفي في حالة فلسطين الخاضعة للشرط الاستيطاني الاستعماري. وتنطلق الورقة من افتراض أن التحرر المعرفي من مفاهيم الاستعمار و” احتلال العقول ” كما أسماه فرانز فانون في ستينيات القرن الماضي هو أحد أشكال المقاومة الهامة للاستعمار، والذي يضاف لأساليب المقاومة الأخرى : المقاومة السياسية والدبلوماسية ، والمقاومة الكفاحية الميدانية ، والمقاومة الاقتصادية التنموية ، والمقاومة القانونية ، والمقاومة الإعلامية . بل إن التحرر المعرفي يقف في المقدمة لإطلاق تلك الأشكال الكفاحية الاخرى ، فكيف للمرء أن يكافح ميدانيا واقتصاديا وسياسيا وقانونيا واعلاميا إذا كان عقله / ها محتلا ؟ فالبداية إذن لكل أمر آخر هي تحرر العقول أولًا من استبطان  المفاهيم الاستعمارية تفكيرا ومناهج بحث والانفكاك عنها. يدور الحديث هنا عن التحرر من المفاهيم الاستعمارية كأعلوية العرق الأبيض والإنسان الغربي – الصهيوني ، وليس عن المفاهيم والقيم الإنسانية التي تجمع عليها البشرية والتي هي نتاج تراكم المعرفة البشرية. يناهض هذه الاخيرة  دعاة ما يطلق عليه اسم ” صدام الحضارات ” و ” الغزو الفكري ” الذي يقسمون العالم إلى فسطاطين لا رابط بينهما سوى حالة الحرب الدائمة.

تبدأ هذه المساهمة الموجزة بتأطير نظري تاريخي لموضوع التحرر المعرفي ، ثم تنطلق إلى الحالة الخاصة لفلسطين في هذا الإطار ، وفي النهاية تقدم بعض الاقتراحات لتطوير البحث العلمي الفلسطيني المتحرر من المفاهيم الاستعمارية والاستيطانية الاستعمارية.

الإطار النظري 

ظهرت مقاربة التحرر المعرفي أولا في الدراسات ما بعد الاستعمارية Post – Colonial Studies، وتطورت مضامين تعريفه والتوجهات البحثية بشأنه مع تطور هذه الدراسات .ويمكن العودة بداية إلى فرانز فانون في كتابه ” بشرة سوداء .. أقنعة بيضاء ” الذي صدر أول مرة عام ١٩٥٢، والذي طرح فيه كيف يستبطن السود اللغة والمفاهيم الاستيطانية الاستعمارية ونعوتها المعرفية ومفاهيمها النمطية ( stereotypes) في تعاملهم مع بعضهم البعض أثناء  وبعد زوال الاستعمار العسكري ، وكيف تنعكس هذه المفاهيم على الدراسات الاكاديمية التي تستعير الخطاب الاستعماري الغربي في دراسة مجتمعاتها.

وفي نفس الفترة كتب الباحث من جزر  المارتينيك ايمي سيزير كتابه ” الحوار حول الاستعمار Discourse on Colonialism ” عام ١٩٥٠. وحللت  هذه الدراسات أثار الاستعمار الراحل على المجتمعات ما بعد الاستعمارية سيما في المجالات الثقافية والمعرفية والاجتماعية . بشكل عام تبحث الدراسات ما بعد الاستعمارية في الكيفيات التي يحافظ من خلالها الاستعمار السابق على سيطرته على البلدان المستعمرة بعد رحيل قواته منها والوسائل التي يستخدمها بهذا الاتجاه من أعلام ، وأفكار ، وتمويل ، وتكنولوجيا ، وأطروحات تفوق إثني تقوم على سمو الإنسان الغربي المتحضر على الاعراق الاخرى التي ينظر اليها على أنها أقل تطورا ، أو أنها متخلفة ( under-developed ) قياسا بالدول المتقدمة ( Developed Countries).

بعد الدراسات الأولى في حقل الدراسات ما بعد الاستعمارية ، تطورت حقول فرعية في جنوب العالم الذي كان خاضعا للاستعمار ، وكذلك من قبل بقايا  الشعوب الأصلية والسود والمكسيكيين  في الولايات المتحدة التي خضعت لعملية استيطان استعماري أباد الغالبية العظمى من الشعوب الاصلية بدأت منذ قام كريستوفر كولمبوس باكتشافها عام ١٤٩٢. ففي عام ١٩٥٧ أطلق الأكاديمي – السياسي الجنوب أفريقي ليوبولد ماركوارد مصطلح (الاستعمار الداخلي Internal Colonialism) على نظام الابارتهايد الذي كان قائما في جنوب أفريقيا آنذاك ، مبينا كيف يقوم هذا النظام على الفصل السياسي والتمييز الاجتماعي والتمييز الاقتصادي والاخضاع المعرفي الثقافي  المستند إلى أيديولوجيا عرقية عنصرية.

وفي عام ١٩٦٥ استعمل الباحث الأمريكي اللاتيني بابلو غونزاليس كازانوفا مصطلح الاستعمار الداخلي لمعالجة حالة التبعية الاقتصادية و التطور اللامتكافئ في دول تلك القارة والمفاهيم النيوليبرالية التي طرحت لترويجها  فيها من قبل الدول الاستعمارية السابقة . ولكن الباحث الأمريكي روبرت بلاونر قد طرح المفهوم عام ١٩٧٣ للتعبير عن حالة تقوم فيها الاغلبية الحاكمة في الولايات المتحدة بفرض حالة احتلال ضد الاقلية السوداء داخلها، أما الباحث الامريكي من أصل مكسيكي رودلفو أكونا، فقد استعاد احتلال امريكا لمساحات واسعة من المكسيك في القرن التاسع عشر منها ولايتي تكساس وكاليفورنيا وغيرهما، وفي إطار ذلك نظر في كتابه ( أمريكا المحتلة ) لعام ١٩٨١ للمفهوم ذاته على أنه تعبير السيطرة على شعب آخر بعد احتلال أراضيه بالقوة بحيث يصبح هذا الشعب الآخر في حالة رعايا لا مواطنين خاضعين رغم إرادتهم للحكم الجديد ولسياسات الإبادة  العرقية والثقافية وقد درس اكونا حالة المكسيكيين والمكسيكيات (تشيكانو وتشيكانا) الذين أصبحوا خاضعين للحكم الأمريكي رغما عنهم /ن بعد احتلال أمريكا لتلك الأجزاء من بلادهم . وقد استعار الباحث الفلسطيني إيليا زريق مفهوم الاستعمار الداخلي لدراسة حالة فلسطينيي ١٩٤٨ وذلك في كتاب خاص عام ١٩٧٩ درس فيه حالة مصادرة أراضيهم وفرض الحكم العسكري عليهم حتى عام ١٩٦٦، واتباعهم للاقتصاد الإسرائيلي ، ومحاولة اسرلة هويتهم.

عوضا عن دراسات الاستعمار الداخلي ظهرت دراسات أخرى تحت عنوان النيوكولونيالية منذ أن ابتكر الزعيم الغاني كوامي نكروما هذا المصطلح عام ١٩٦٥، ليعبر  به عن حالة أن الاستعمار قد خرج من الباب منهيا بذلك احتلاله العسكري ، ولكنه عاد من الشباك بوسائل اقتصادية وتكنولوجية وثقافية مهيمنة،  ولا زال هذا الوصف صالحا حتى اليوم لحالة الدول التي كانت خاضعة للاستعمار المباشر حتى منتصف القرن الماضي.

وقد شهدت الدراسات ما بعد الاستعمارية نقلة نوعية بعد صدور كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق عام ١٩٧٨. شرح هذا الكتاب النظرة الغربية للشرق بوصفه الأرض العذراء التي يحن لها الغربيون من جهة، ولكن الذي يتمتع بوضع دوني عن العرب في نفس الوقت، لذلك فهو بحاجة للإنسان الغربي  ليقوم بتطويره وتحديثه. درس سعيد الأدب والفكر الاستشراقي الغربي وكشف هذه المضامين المعبر عنها فيه. وقد أطلق كتاب سعيد سيلا من الدراسات ما بعد الاستعمارية التي راحت تدرس الآثار الثقافية للاستعمار على القطاعات المهمشة من الشعوب التي كانت مستعمرة مثل دراسات المهمشين في الهند (Subaltern)، لسبيفاك وبهابها وغيرهما، ولاحقا دراسات الكولونياليتي (Coloniality) التي أطلقها الباحث البيروفي انيبال كويخانو عام ٢٠٠٠، واهتمت هذه الدراسات بمسألة تلازم المعرفة مع القوة ، والكيفية التي تنتج بها القوة المعرفة السائدة على حساب المعرفة التي يتم تهميشها واقصاؤها ، كما اهتم كويخانو بدراسة الطرز الثقافية والاجتماعية التي يخلفها الاستعمار في المستعمرات السابقة شاملة السرديات وأشكال  الهوية وطرق  التعبير عنها، والمفاهيم المعرفية المستعارة من الاستعمار والتي تستخدمها نخب الدول التي خضعت للاستعمار السابق في دراسة مجتمعاتها.

ولاحقا طور ميجنولو عام ٢٠٠٧ آفاقا بحثية تعالج كيفية التحرر من الكولونياليتي (De- Coloniality) والانفكاك عنها (De- Linking)، حيث ميز أيضا بين التحرر من الاستعمار  (liberation) وبين الانعتاق (emancipation) مبينا كيف أن الأحادية العالمية تركز على فرض الثاني بما هو تحرر للمرأة وتفكيك القيود الاجتماعية ونشر المفاهيم الليبرالية على حساب الأول ، فيما تركز التعددية العالمية المنطلقة من جنوب العالم على تلازم العمل على أجندة التحرر واجندة الانعتاق في آن معا وبدون تناقض بينهما.

تعود فكرة تلازم المعرفة مع القوة الى المفكر الفرنسي ميشيل فوكو ، الذي رفعها إلى مستوى القاعدة ” The rule of immenence “، وتشمل القوة هنا القوة الصلبة والقوة الناعمة سواء بسواء. يرمي الشكل الأول إلى استخدام القوة المباشرة لإحداث تغيير في الواقع يؤدي لإنتاج وعي جديد.

أما الشكل الثاني فإنه يستخدم الإعلام وإنتاج الأفكار والعلاقات الاقتصادية وتشويه الهوية والمواطنة وشراء النخب وتطويعها  وغيرها لجعل العالم يسير وفق قيم واحدة هي قيم الغرب  معبرا بذلك عن مركزانية غربية (Western- Centrism)، تهدف لفرض رؤاها العالمية الأحادية (Universalism) على العالم بديلا للرؤية العالمية التعددية ( Plura- Versalism ) التي تقول بتعدد الثقافات والقيم ومنهجيات المعرفة ، مع ما ينشأ عن ذلك من ضرورة تفاعل هذه التعدديات معا واعتراف كل منها بالأخرى بديلا عن فرض الاحادية الغربية كما طرح كويخانو وميجنولو .

في العالم العربي تظهر نتائج الكولونياليتي بوضوح على البحث العلمي، فقد أدت التقسيمات الاستعمارية واتفاقيات سايكس بيكو لعام ١٩١٦، إلى تقتيت المنطقة إلى كيانات وطنية بعضها نجح في إنشاء دول ومؤسسات وبعضها الآخر لا زال يعاني من فشل مزمن في تحقيق ذلك، ونجم عن هذه الترتيبات التي استخدمت القوة الصلبة لاحداثها، أطر معرفية وفكرية نتبنى خطاب التحديث الليبرالي، والاقتصادوية  النيوليبرالية، وأفكار الخضوع للغرب  والتفكير بتشكيل أطر مؤسسية شرق أوسطية ومتوسطية على حساب التفكير بكيفية تطوير الوحدة العربية على سبيل المثال.

فتح ذلك المجال للتفكير بمنطق “المصلحة الوطنية” على حساب القيم القومية الجمعية ، وبالتالي اصبح ممكنا اقامة  وتوثيق العلاقات مع إسرائيل طالما تطلبت ” المصلحة الوطنية ذلك “. هذا وقد عززت القوة الناعمة وافكارها المستخدمة في إطار العلاقات القائمة بين الدول العربية والغرب من هذه التوجهات، حيث تبنت هذه المفاهيم نخب عربية سياسية واقتصادية وفكرية  معولمة، تعزز التجزئة القطرية وهوياتها المبعثرة ومصالحها المفتتة والأطر الفكرية النيوليبرالية حول العالم والمنطقة .

أسس تصريح بلفور لعام ١٩١٧رسميا لنشوء دولة إسرائيل كامتداد غربي في المنطقة ، وفرضت القوة الغربية الصلبة تأسيس إسرائيل عام ١٩٤٨ كامتداد لها في المنطقة ، وفرض تلازم القوة والمعرفة الغربي على العرب التعامل مع الصهيونية منذ مؤتمر باريس للسلام عام ١٩١٣، حين طرح بعض العرب المشاركين في المؤتمر وبعده أن لليهود حقوقا تاريخية في فلسطين، وقدموا فكرة ” اتحاد الشعوب السامية بين العرب واليهود “، وهي الفكرة التي تطورت لاحقا من خلال مفاوضات الحركة الصهيونية مع العديد من القوى العربية في سوريا والعراق ومصر وذلك قبل قيام دولة إسرائيل كما درس محمود محارب في عدة كتب وأبحاث ، وكذلك وفق وثائق ومحاضر اللقاءات من قبل الصهيونية مع هذه القوى كما هي منشورة في مجلدات صدرت عن الجمعية الفلسطينية الأكاديمية لدراسة الشؤون الدولية (باسيا ).

فلسطين وحالة التغييب المعرفي

عالجت الدراسات ما بعد الاستعمارية بفروعها المختلفة حالات الدول التي تخلصت من الاستعمار العسكري المباشر وحصلت على الاستقلال ، بهذا المعنى فقد حللت هذه الدراسات الأثر الذي تركه الاستعمار بعد أن رحل، بما في ذلك استمرار احتلال الثقافة ومنهجيات وأدوات المعرفة . الموضوع مخالف في حالة فلسطين حيث الاستعمار لم يرحل بعد ولكنه على العكس من ذلك لا زال يتوطد ويتعزز، مستعملا أدوات معرفية أيضا من أجل تعزيزه ، جوهرها هو شطب فلسطين من دائرة المعرفة المهيمنة، وهو تغييب بدأ منذ القرن الثامن عشر حين نشطت في فلسطين جمعيات افنجليكانية توشحت بلبوس العلم ، مثل صندوق اكتشاف فلسطين وغيره ، حيث لم يكن لتلك الجمعيات من هم سوى اكتشاف المواقع المذكورة في التوراة فيها .

تعزز تغييب فلسطين رسميا من خلال تصريح بلفور عام ١٩١٧، والذي حصر الحقوق الوطنية الجماعية فيها على اليهود ، أما ” باقي الطوائف غير اليهودية ” كما تمت تسميتها في ذلك التصريح فقد تم حصر حقوقها في حقوق فردية ودينية . ولم يتم تغيير هذا الحال حتى اتفاق أوسلو الذي نص في ديباجته على ” الحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني “، ولكنه أبقاها في مستوى الابهام حيث لم يتم النص بوضوح على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. وجاء قانون الدولة القومية الإسرائيلي لعام ٢٠١٨، ليعيد تأكيد ما ورد في تصريح بلفور: حقوق جماعية حصرية ل ” شعب إسرائيل” على ” أرض إسرائيل “، فيما يكتفي بحقوق فردية ودينية لسواهم ، وجاءت صفقة القرن الامريكية في مطلع عام ٢٠٢٠ لتؤكد على ذات فحوى قانون الدولة القومية .

يعني ما تقدم أن الفلسطينيين كشعب قد وضعوا خارج إطار حق تقرير المصير والحق في بناء حداثتهم. وقد جاء أوسلو ليضع الفلسطينيين في دائرة احتمالية الحصول على حق تقرير المصير و ” في موقع الاحتمال الحداثي”( ناشف ، ٢٠١٠، ص.١٢) شارطا الانتقال اليها بنجاح المفاوضات في تحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام ١٩٦٧.  وبعد أوسلو ظل الفلسطينيون يتأرجحون بين تحقق الحداثة إذا ما تم بناء نظامهم السياسي والقانوني والاقتصادي في حال التوصل إلى تسوية سياسية متفق عليها، وبين البقاء في وضع الاحتمال الحداثي ، أو النزول عنه مجددا إلى حالة الشطب التام من الحق في الحداثة كما كان عليه الحال مع تصريح بلفور، ولا زالت حالة التأرجح هذه قائمة حتى اليوم . لا تعني هذه الخطط أنه تم قبولها من الشعب الفلسطيني فقد بقي يقاومها فارضا حداثته ومجتمعة المبني على المشاركة والتعددية والانتخابات (ابو لغد وآخرون، ١٩٩٣)، وفيما لم ينتصر الشعب الفلسطيني حتى اليوم ، إلا أنه في المقابل لم يهزم، مما يتيح المجال لتكرار المحاولات حتى النصر.

في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين تغطى المشروع الصهيوني بترسانة من المقولات التي سعى لتجسيدها على الأرض كمقولة العرق اليهودي المستمر في المنفى على مدى ألفي عام ، ذو الحق في نفي المنفى المتسم بأزلية اللاسامية وكره اليهود عبر العودة إلى ” أرض الميعاد ” المسماة ب ” أرض اسرائيل “، من أجل اقامة مجتمع حداثي فيها بعد إخراج  الغرباء الذين سيطروا عليها بعد نفي اليهود منها قبل ألفي عام ، واخضاع من يتبقى منهم لحكم اليهود بدون التساوي في الحقوق مع الآخيرين . في هذا الإطار روجت دعاية أن الحركة الصهيونية هي حركة تحرر وطني ، وأنها تميزت بالاخلاقية وبالتالي فقد بنت في المناطق الفارغة إلى جانب الفلسطينيين وليس على حسابهم، وانها اختارت أسلوب شراء الاراضي وليس الاستحواذ القسري عليها . وبناءا على ” اخلاقيتها ” المدعاة فقد توجهت الصهيونية لكل يهود العالم مطالبة إياهم بأن يعتنقوا الصهيونية  وبترك الدول التي يعيشون فيها والهجرة إلى ” أرض الميعاد “، من أجل الحصول على الملاذ الآمن وصنع الحداثة وصنع السلام القائم على الردع مع جيرانهم . وقد فكك الكاتب هذه الادعاءات علميا في ورقة أخرى قدمت في مؤتمر نقض الرواية الصهيونية الذي عقد في رام الله في نهاية حزيران ٢٠٢١، بترتيب من مفوضية حركة فتح بالتعاون مع جامعة القدس المفتوحة .

اتخذت  الكولونياليتية التي قدم مفهومها كويخانو وفق أعلاه ( Coloniality ) بعد نشوء دولة إسرائيل عام ١٩٤٨، شكل طرح الأسرلة  على فلسطينيي الداخل ، ولكن هذه الأسرلة لم تكن سوى مشروعا مستحيلا ، فالصهيونية لم يكن في نيتها أن يتحول الفلسطينيون إلى اسرائيليين ، فذاك الحق عندها مقصور على اليهود وحسب ، فيما أرادت من اطروحة الأسرلة ما لا يتعدى تشويه الهوية الفلسطينية لفلسطينيي الداخل ،  وخلق أوهام إمكانية تحقيق المساواة مع اليهود بين ظهرانيهم، وتكوين اذناب للاحزاب الصهيونية . ومن الجانب الفلسطيني في الداخل لم تؤد الأسرلة إلى تأسرل ، وذلك بفعل استمرار مصادرة الأراضي ، وهدم المنازل وعدم الاعتراف بالقرى العربية ومنع عودة المهجرين خارج قراهم ورفض عودة اللاجئين، هذا عدا قلة محدودة من الأعوان في أوائل سنوات عمر دولة اسرائيل الذين اكتسبوا اسم ” العربي الجيد ” (على غرار شخصية رشيد بك في رواية الأرض القديمة المتجددة: التنيولاند  لهرتسل)، بسبب وهمهم أن الانخراط والتعاون مع الأحزاب الصهيونية هو السبيل الوحيد  لتحقيق مطالب تحسين أوضاع باقي شعبهم في الداخل ، ولا زالت الأقلية المتوهمة بأنها استطاعت التأسرل موجودة حتى اليوم بين فلسطينيي الداخل.

بعد احتلال عام ١٩٦٧ تلفعت الطروحات الكولونياليتية بأردية جديدة مثل ” الاحتلال الخير”، صاحب الافضال والجالب للمنافع من تنمية وتعليم عال ، وتشغيل للعمال في إسرائيل. وبعد أوسلو ونشوء السلطة الوطنية الفلسطينية انتشرت أطروحات وكأن  الاحتلال قد انتهى ، وأن النزاع قد سلك طريقه للحل، وأن مرحلة ما بعد نزاع (Post – Conflict) قد بدأت تتمثل المهمة الرئيسية فيها ببناء مؤسسات دولة فلسطين تمهيدا للاستقلال . ساهمت أطروحات شمعون بيرس وحزب العمل حول الشرق أوسطية في الترويج لهذه الأطروحات ، كما عززتها أطروحات الدول المانحة حول بناء مؤسسات الحكم الرشيد وتعزيز المهنية ودعم تطور نخب مهنية محايدة وغير مسيسة.

ونشأ بناءا على ذلك حالة بدى منها أن حالة الكفاح من أجل التحرر الوطني يجب أن تتوقف لتحل محلها حالة البناء الوطني التي تم تكوين ترسانة نظرية كاملة لتسويغها سميت في أدبيات حل النزاع  باسم  “بناء السلام” قصد بها بناء مؤسسات الدولة السياسية والقانونية والاقتصادية من أسفل، على طريق ان تصبح الدولة حقيقة واقعة بعد نجاح المفاوضات في الوصول إليها .

أفكار بحثية

تقترح هذه الورقة إطلاق مسار بحثي يقوم على تحليل نقدي ابستمولوجي  معمق لكل ما سبق ذكره وتجلياته في حالة فلسطين التي لا زالت مسقطة من الخارطة الدولية منذ تصريح بلفور وحتى اليوم رغم كفاحات الشعب الفلسطيني الذي لم ينهزم. تتعلق الابستمولوجيا (نظرية المعرفة) ببحث السؤال: كيف نعرف ما نعرفه ؟ . أي ما هي الأطر المفاهيمية والفرضيات التي ننطلق منها من أجل معرفة ما نعرفه عن حالنا ؟. وللاجابة على هذا السؤال يمكن أن يتشكل فريق بحثي فلسطيني متعدد التخصصات في دراسة بعض الأسئلة المرتبطة ومنها :

أولا : في مجال الكولونياليتي :

  • ما هي الأطر النظرية الملائمة لدراسة إنتاج المعرفة في حالات البلدان التي تخلصت من الاستعمار، او التي لا زالت ترزح تحته؟
  • كيف نفهم حالة فلسطين تحت ثلاثية الاستيطان الاستعماري والابارتهايد والاحتلال العسكري؟.
  • كيف نرى تطبيقات هذه الثلاثية على كافة تجمعات الشعب الفلسطيني سواء داخل اسرائيل، او في الضفة والقطاع والقدس؟ وفي دول اللجوء ودول الشتات في كافة ارجاء الارض ؟
  • كيف تطورت الهوية الوطنية الفلسطينية؟ وما هي علاقاتها بالهويات العربية والاسلامية والمتوسطية وغيرها ؟
  • كيف نحلل الأدوات المعرفية التي استخدمها الاستعمار الاستيطاني الصهيوني أثناء تكون مشروعه الاستيطاني الاستعماري؟ وما هي آثارها في مراحل مختلفة قبل وبعد نشوء دولة إسرائيل ، وبعد احتلال عام ١٩٦٧؟
  • كيف نفهم سياسات الغرب والأطر المعرفية التي استخدمها من أجل تحقيق هيمنته على المنطقة؟ وكيف دعمت الحركات الافنجيلية الصهيونية منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر مرورا بتصريح بلفور وحتى اليوم؟ وما هي السياسات النيوليبرالية / الشرق اوسطية؟/ والمتوسطية وكيف انعكست هي ومفاهيمها على فلسطين مجتمعا ونخبا؟
  • كيف نفهم استبطان نخب عربية وفلسطينية للرواية الصهيونية، و/ أواعتناقها المفاهيم الاستعمارية الغربية في دراسة ومشاريع بناء مجتمعها؟

ثانيا : في مجال التحرر من الاستعمار ( De- Coloniality ):

  • كيف نفهم حالة حركة التحرر الوطني الفلسطيني بالمقارنة مع حالات أخرى خضعت للاستيطان الاستعماري كالجزائر وجنوب افريقيا وايرلندا؟
  • كيف نرى العلاقة بين التحرر الوطني والبناء الوطني؟
  • كيف نرى وحدة الشعب الفلسطيني في المقاومة، وما هي الأطر المفاهيمية والمؤسساتية لتحقيق ذلك تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني؟
  • كيف ندرس النتاجات الأكاديمية الفلسطينية في إطار استبطانها أو انفكاكها عن المقولات الاستعمارية ، والاستيطانية الاستعمارية ؟ وكذلك عن ” الإسرائيليات” في دراسة تاريخ فلسطين القديم؟
  • كيف عبرت الروايات والشعر والأدب والفن عن روح ومفاهيم وإرادة المقاومة، وكيف عكستها؟
  • كيف يمكن فهم المقاومة الفلسطينية الشاملة للشعب الفلسطيني بأسره، واشكالها وأدواتها في إطار العولمة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى