اللغة المخاتلة: أو مثقف “و لكن”
أحمد نسيم برقاوي | باريس
حين يجد المثقف نفسه وجهاً لوجه أمام التحولات الكبرى في تاريخ ينتمي إلىه ، التحولات التي تحدد المصير ، فإنه يتحول في كل أحواله إلى ذات مندرجة في هذا التاريخ العاصف المرتبط كما قلنا بفكرة المصير . ذات لا تملك إلا الكلام ، الكلام المعبر عن موقف ، هو في كل تعيناته مسؤول . بل إن أثره على حركة التاريخ ، سلباً كان هذا الأثر أم كان إيجاباً لا يقل فاعلية عن أثر المندرج عملياً في معمعمة الصراع المادي .
خطاب المثقف الحر : الشاعر ، القاص، الروائي ، الفنان ، الفيلسوف ، المفكر ، الصحفي المنتمي دون لَبْس إلى حركة التاريخ المؤسس للحرية خطاب واضح وصريح، خطاب مؤسس على موقف أخلاقي سامٍ وشجاع . وخطاب المثقف العبد المنتمي إلى الوسخ التاريخي وإلى الطاغية هو الآخر خطاب واضح وصريح ، خطاب مؤسس على انحطاط أخلاقي دنيء.
يمنح الوضوح و الموقف الصريح كلي الخطابين القدرة على الوصول المباشر الى المتلقي من حيث ماهيته . وصار قادرا على التمييز المباشر بين مثقف الثورة والحريّة ومثقف الوسخ التاريخي السلطوي والعبودية .
غير إن أسوأ أنواع الخطابات هو الخطاب المخاتل . و المخاتلة تعني المراوغة والمخادعة و المغافلة .
في الخطاب المخاتل نعثر على مثقف يخاف الظهور على صورة المثقف العبد ، ويبحث عن لغة يهرب فيها من عبوديته والظهور بمظهر الحر عبر حرف الإستدراك ” لكنْ” .
لكن – حرف الاستدراك هذا هو جسر للإنتقال إلى مكبوته بشكل واعٍ بلغة تتحفظ على خطاب الحر بحجة النقص والنسبية فيه .
مثقف ” و لكن” هذا لا يريد أن يظهر بمظهر المعادي للقيم الإنسانية الرفيعة المعبرة عن الحرية أساساً و ما يدور في عالمها من قيم ، لأنه إن فعل ذلك وقع فوراً في مستنقع العدوان على الإنسان عموماً وعلى الإنسان المكافح من أجل حريته الآن ، ولهذا تراه يركب لغة القيم هذه ثم يتوقف عند ” و لكن ” . تسمح له ” ولكن ” هذه أن يضعنا في اختيار أحد مستنقعين ، أو إحدى عبوديتين .فإما أصولية مدمرة أو دكتاتورية مدمرة ، وعليه يعلن مثقف ولكن حقيقة موقفه باختيار الدكتاتورية المدمرة .
ينتمي مثقف ” ولكن ” بالأصل إلى فضاء التحرر ، حين لم يكن الموقف من التحرر يتطلب الشجاعة في القول من جهة ، وحين كان الظهور عبر خطاب الحرية والتمرد عادياً ، أما وإنه وجد نفسه في لحظة الخيار الشجاع ، خيار الحرية ، خيار المسؤولية ، خيار الموقف من ثورة شعب ، فإنه لم يستطع إلا أن يعود إلى هويته المخفية عن عمد فاختار أن يكون مثقف ” ولكن ” . معتقداً بأنه عبر “ولكن ” لا يخسر ماضيه أو يحتفظ بماضيه وبصورته التي فضحتها ” ولكن ” .
ففي الوقت الذي يعلن فيه مثقف التمرد الكلي ، أو التمرد الميتافيزيقي ، الموقف الواضح والصريح ضد الأصولية القاتلة مهما كان مذهبها و الدكتاتورية القاتلة مهما كانت طبيعتها ، فإن مثقف ” ولكن ” يعلن بكل شجاعة زائفة وقوفه ضد نمط من الأصولية و يمجد أخرى . فيركب باسم وقوفه ضد نمط وحيد من الأصولوية ” و لكن ” ليعلن انتماءه الحقيقي للدكتاتورية .
و مثقف “ولكن ” لا يكتفي بالغرق في مستنقع الدكتانورية بل ويتحول إلى شتٰام لمثقف الوضوح و الإنتماء إلى الحرية والتحرر ، فترى الشاعر ” البكّاء ” الغاضب على العالم يتحول الى شاعر ” ولكن ” وشتٰاماً ، فتدرك من فورك إن هذا ” البكٰاء ” لم يكن يبكي إلا على وضعه الفردي الخاص ، لم يكن متمرداً إلا على وجوده الخاص . ولهذا ما أن وضع أمام خياري الموقف من حركة الحياة ، إما أن يكون مع روح الشعب ضد الدكتاتور والأصولية بك أنواعها ، أو مع الدكتاتور و أصولياته ، وقف مع الدكتاتور وأصولياته، باسم الوقوف ضد أصولية مجرمة هي الأخرى .
و لعمري لو لم يكن مثقف “‘ولكن ” بالأصل غارقاً في هويته الزائفة الضيقة لما كشفت الحياة انحطاطه الأخلاقي هذا .