فنّية الحبك عند اختلاف المَشاهد.. قراءة في قصّة ” خلف نافذتي ” للأديبة ” هدى حجاجي “

بقلم: أ. محمد موس العويسات

قد يبطل الفقر الحبّ، إذا ما كان أحد طرفيه طامعا في مغانم ماديّة، فيكتشف أنّه لم يقع على حبيب ( المنفعة) الغنيّ ذي المال والمصالح، وهذا في الغالب الأعمّ يكون من طرف المرأة، وقليلا ما يكون من طرف الرجل، لأنّ الرجل ابتداء فيه مظنّة المنفعة والمال، أمّا المرأة فهي مظنّة الجمال، جمال القلب والروح والجسم، وغيرها. فقلّما تجد فيها المطمع الماديّ النّفعيّ، ولكنّ هذا يقع، وتنقله لنا الكاتبة القاصّة هدى حجاجي أحمد في قصّة (من خلف نافذتي). ففيما يشبه الحكاية، التي يغلب عليها حوار النّفس الدّاخليّ، ويقل حوارها الخارجيّ، وفي لغة بسيطة من صنف السّهل الممتنع، الذي لا يخلو من التّراكيب البليغة، والصّور الفنّيّة الجميلة، تتناول الكاتبة قضيّة من حياة عامّة، تتلخّص في بنت من أسرة فقيرة، أمضى أبوها حياته في شركة خاصّة مَدِينا، يستلف راتبه قبل أوانه، إلى أن توفّي وتركها وأمّها المريضة التي اضطرّت لبيع بعض أثاث البيت لسدّ حاجاتهما وتوفير الدّواء لها، والقصّة تبدأ بوقوعها في حبّ شاب يتردّد على مقهى جديد، كانت ترقبه من خلال نافذة بيتها التي تطلّ على المقهى، وكان هو أيضا ينشغل عن اللعب مع زملائه باستراق النظر إليه، فوقع في حبّها، ولمّا التقيا بعيدا من الحي الذي تسكنه، وجدته يعرف اسمها، وأخذ يسألها عن أسرتها أمّها وأبيها وإخوتها، وقد أبدى حبّه لها، ولكنّه لمّا أدرك أنّها فقيرة، تعذّر بالسّفر، ووعدها بالعودة في شتاء قادم، فتركها تعيش أحلاما ورديّة وترسم لحياة زوجيّة سعيدة، لم يتواصل معها ولم يعد إليها، وتختم الكاتبة قصّتها بتوصيف وقائع ليلة مطيرة شديدة الرّيح والبرق والرّعد والمطر، وسقف البيت يدلف ماء، ووالدتها في زاوية ما ترقب اتّساع الشّقّ في سقف البيت الذي ينزّ ماء… وقد نفد وقود المدفأة… وأخذ الماء يزداد في البيت، ولكنّ الفتاة نجحت في سدّ هذا الشّرخ في منتصف السّقف، وختمت الكاتبة القصّة بقولها: (لكنّ صفحة السّماء الملبّدة بالغيوم باتت تنبئ بليلة رعديّة قاسية) الناظر في القصّة يرى أنّ الكاتبة قد أبدعت في أن حبكت في القصّة أربع لوحات لا يشعر القارئ بأيّة فجوة أو انفصام بينها، لوحة الحبّ من خلال النّافذة، ولوحة الحديث عن فقر الأسرة وشقاء الأب وموته، لوحة اللقاء بالحبيب والتّعارف بينهما ومغادرته للمشهد، ولوحة اللّيلة المطيرة، وهذه اللّوحات الأربع تأتي في مساحات متناسقة، وكلّها تخدم الفكرة الرّئيسة التي تقوم عليها القصّة وتتلخّص في أنّ شابا أحبّ الفتاة وأحبّته ولمّا أدرك أنّها فقيرة تركها تعيش أحلاما بنتها لمستقبل جميل… كان للّوحة الرّابعة التي وصّفت فيها اللّيلة المطيرة بعد رمزيّ كبير، فكأنّ هذا البيت هو قلب هذه الفتاه، وكأنّ الحياة أو تلك التّجربة من الحبّ هي الرّعد والبرق والمطر الشّديد المفُسد، فتشقّق قلبها وراح ينزف، وساده البرد، بعد أن نفد وقود المدفأة، التي يقصد بها الحبّ أو قلب المحبّ، ولكنّ الفتاة استطاعت أن تسدّ هذا الشّقّ وتوقف الدّلف وتأمن فيضانا يغرق قلبها ونفسها، ولكنّ الآثار النّفسيّة لتلك التجربة ما زالت باقية، أوحت بها العبارة التي ختمت بها القصّة: (لكنّ صفحة السّماء الملبّدة بالغيوم باتت تنبئ بليلة رعديّة قاسية). وهكذا استطاعت الكاتبة أن تعبّر عن الحالة النّفسيّة التي اعترت الفتاة بهذه اللّوحة للّيلة المطيرة في بيت واهي واهن متشقّق السّقف، ورمزيّة هذه اللوحة لا تمنع أن تكون واقعيّة في بيت أسرة فقيرة بيتها متهلهل متشقّق، فكأنّك أمام شيء من التّورية، التي هي احتمال الكلمة لمعنيين، معنى قريب غير مقصود، ومعنى بعيد مقصود، وهذا جانب ماتع للقارئ الحاذق، وقد وقع في القصّة على شكل لوحة كاملة من الحدث والمكان والزّمان، أي ليس بمفهوم التورية المعهودة في البلاغة العربيّة… وما يميّز هذه القصّة أنّها لا تعتمد المباشرة، فقد أجادت الحبك بين اللّوحات الأربع، ولكنّها أجادت في استبعاد المباشرة، واعتماد الإيحاء الخفيّ. وممّا يلفت انتباه القارئ الممعن النّظر في القصّة، أنّ هناك شيئا من الرّشاقة في اللفظ والعبارة والحوار، وحديث النّفس، أضفى على القصّة الخفّة والإيجاز والتتابع السّريع. ويضاف إلى هذه الفنّيّة عنصر الفجوة، وهذا إيجاز يحترم العقل والذوق، إذ تترك الفجوات للقارئ أن يحلّق بخياله ليغطّي بعض المشاهد دون إخلال بالنصّ أو الفكرة. وأخيرا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الكاتبة قد وضعت إصبعها على موضع وجعين في حياة المجتمع وبخاصّة في شريحة الفقراء… فقر مدقع وحبّ ممضّ. ١٤/ ٩/ ٢٠٢١

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى