“الطاقة” شبح العلم

أ.د. ناصر يوسف مصطفى عبد المولى – كلية العلوم– جامعة قناة السويس وجامعة الطائف

الطاقة كلمة تستخدم يوميا عشرات المرات فى الحياة العامة، وندفع قيمتها نقودا عند شحن الجوال وعند تموين السيارة وعند دفع فاتورة الكهرباء، وتؤثر فى كل لحظة من حياة الإنسان منذ الميلاد وحتى الممات، وتقوم الحروب بين الدول للسيطرة على مصادرها الطبيعية المختلفة، ويقوم العلماء والباحثين فى مختلف المراكز البحثية والجامعات والشركات ببذل جهود مضنية للسيطرة عليها وتحويلها من صورة إلى أخرى وتطوير وسائل لتخزينها.

ومع كثرة استخدام كلمة “طاقة” أصبحنا نشعر بأننا نعرفها كما نعرف أسماءنا، ولكنها كمفهوم علمي تعد من أكثر المفاهيم صعوبة فى التعريف بشكل يستوعبة العامة بل والخاصة فى بعض الاحيان، وذلك لأن الطاقة ليست شيئا مادي ملموس في حد ذاته، بل هى صفة من صفات الكون الفيزيائى تلازم الأجسام المادية والإشعاع الكهرومغناطيسي، ولا يمكن رصدها أو تقدير كميتها مباشرتا، ولكن يتم ذلك فقط بشكل غير مباشر أثناء انتقالها من جسم إلى آخر أو من جسم إلى إشعاع كهرومغناطيسى أو العكس. وإذا حاولنا تعريفها ومعرفه كينونتها جيدا سوف نصاب بالإحباط، حتى، وإن استنجدنا بكتب ومراجع الفيزياء للبحث عن تعريف لها يدل على كينونتها فلن تجد. ولكن معرفة التسلسل التاريخي لنشأة مفهوم الطاقة سيجعلك تدرك أن الطاقة ما هي إلا الشبح الذي يحرك الكون فى كل برهة زمنية حولنا. فقد أدرك الإنسان منذ بدء الخليقة أن الكون يتألف من المادة، ولكنه فقط منذ 160 عاما بدأ يدرك ويقيس المكون الأخر للكون وهو الطاقة المسئولة عن الحركة والنشاط. فمن المستحيل فيزيائيا أن يكون الكون بلا طاقة، وبالتالي بلا حركة ونشاط، ولفهم الغموض الذي يحيط بمفهوم وكينونة الطاقة، فإننا نستدعى مقولة عالم الفيزياء الشهير ريتشارد فايمان الحاصل على جائزة نوبل فى الفيزياء “إن العلم حتى اليوم لا يستطيع أن يقول ما هي كينونة الطاقة”.

ريتشارد فايمان

فكيف لا نعرف كينونتها، ونحن ندرس للطلاب قياس الطاقة وتحولاتها من صورة إلى أخرى. ولاستيعاب المفهوم الأساسى “للطاقة”، يجب فهم التطور التاريخى لهذا المفهوم العلمى المجرد.

التطور التاريخى لمفهوم الطاقة

كان اكتشاف الإنسان للمفهوم العلمي للطاقة بطيئا جدا على الرغم من استخدام الكلمة منذ ألاف السنين للتعبير عن القدرة على الفعل المادي أو الفعل الحسي؛ فقبل 1802 ميلاديا، لم يكن مصطلح “الطاقة” يستخدم في المجال العلمي، فقد كان من الشائع استخدام بعض المصطلحات التي قد نراها غريبة في زمننا هذا مثل القوة الحية (live force) والقوة الميتة (dead force) وذلك للتعبير عن طاقة الحركة (kinetic energy) وطاقة الوضع (potential energy) المعروفة لنا الآن، وهى الطاقة عندما تظهر نفسها على شكل حركة وعندما لا تظهر نفسها مطلقا، وتعبير “حية” و “ميتة” يعطى انطباعا بكينونة الطاقة غير المعروفة، مثلها مثل الروح التى نعتقد أنها المسببة لوجود الحياة، وحتى أكثر صور الطاقة استشعارا بحواس الإنسان وهى الحرارة، كان هناك خلاف حول إذا ما كانت عبارة عن مائع ينتشر خلال المادة ويكسبها الصفات الحرارية أم أنها كمية فيزيائية مجردة. وليس هناك دليل على قدم استخدام كلمة “طاقة” فى جميع الحضارات، خير من معرفة أصل الكلمة المستمد من كتابات الفليسوف ارسطو (Aristotle) باللغة اليونانية القديمة(energeia)  والتى كانت تعبر عن الفعل أو النشاط المادى أو الحسي، فقد كانت الأدبيات تزخر بتعبيرات مثل “الطاقة الروحيه” و “طاقة السعادة” و “الطاقة الإيجابية او السلبية”.

اريسطو

ويجدر هنا ذكر أن كلمة الطاقة قد وردت فى القران الكريم فى مواضعين وهما “قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ” (البقرة: 289) و ” رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ (البقرة: 286)، وفى الآيتين “لا طاقة” بمعنى عدم القدرة أو عدم الاستطاعة لفعل الشيء، والمثير للدهشة عند مقارنة السابق بالتعريف الدارج والبسيط للطاقة فى جميع الكتب الدراسية الحديثة وهو “القدرة على بذل شغل، أي التحريك” ندرك أنه لا يضيف جديدا، ولكن السؤال الآن، ما هى طبيعة وكينونة ذلك الشيء القادر على إحداث التحريك؟ …. لا أحد يعرف! فالعلاقة بين الطاقة والشغل أو التحريك هو علاقة سببية بمعنى أن وجود الطاقة يسبب الحركة، فالطاقة هى السبب والحركة هى النتيجة، ولهذا يلاقى تعريف الطاقة السابق العديد من الانتقادات من العلماء، إذ كيف يعرف السبب (الطاقة) بالنتيجة (الشغل)، فالطاقة هى المحرك الباعث على النشاط والحركة لأى شئ فى هذا الكون.  

في عام 1807، كان توماس يونج أول من استخدم مصطلح “الطاقة” بدلا من “القوة الحية”، وباختراع المحرك البخار وتذوق الإنسان ثمرة تحويل الحرارة إلى حركة، مما ألهم المجتمع العلمي لكشف القوانين التي تحكم تحويل الحرارة إلى شغل أو العكس وأثمرت جهود الكثير من العلماء عن كشف حقيقة أن الحرارة والشغل هما فقط شكلين مختلفين تداعب به الطاقة حواسنا، وفى عام 1847 ، وضع العالم هيلمهولتز أهم مبدأ تبنى عليه جميع العلوم الحديثة وهو مبدأ بقاء الطاقة والذى أصبح يعرف باسم القانون الأول للديناميكا الحرارية، ومنذ ذلك التاريخ استقر علميا بان الطاقة لها كينونة مجردة تختلف تماما عن كل من المادة والمجالات الكهرومغناطيسية على الرغم من أن الإنسان لم يستطع رصد الطاقة إلا وهى ملازمة لهما، وهذا لان “الطاقة” تبقى طاقة مجردة منفصلة عن الجسيمات أو المجالات الكهرومغناطيسية ولا تختلف بنقلها من جسم إلى أخر أو من جسم إلى مجال كهرومغناطيسية أوالعكس، فمثلا نقول عند انطلاق السيارة بسرعة 100 كم لكل ساعة بأن هنالك طاقة حركية تلازم كتلة السيارة تساوى نصف الكتلة في مربع السرعة (1/2mV2)  ولإيقاف هذه السيارة فيجب أن تتخلص من هذه الطاقة وذلك بشد مكابح السيارة فتنتقل هذة الكمية من الطاقة من جسم السيارة الى مادة كل من مكابح السيارة والإطارات والإسفلت بالطريق وتظهر هذه الطاقة كطاقة حرارية في  ذراتها. والآن لتخيل صعوبة تصور الكينونة المجردة للطاقة عليك أن تتخيل ما هو الشىء الذي انتقل من كل جسم السيارة الى ذرات المكابح والإطارات والإسفلت، وهذا ما لا يستطيع أحد الإجابة عليه حتى الآن، ولكن أى طالب ملم بقواعد وحيل حسابات الطاقة يستطيع حساب كمية الطاقة الحركية بالسيارة قبل التوقف، وكذلك حساب كمية الطاقة الحرارية المكتسبة بالمكابح والإطارات وسيستنتج انهما متساويتان وهذا ما يعرف بقانون بقاء الطاقة. والآن عزيزى القارئ إذا اجبت عن هذا السؤال فاعلم أنك قد استوعبت مفهوم “الطاقة”

السؤال: إذا وزنت بطارية التليفون الجوال وهى فارغة ثم وزنتها بعد الشحن، هل يختلف الوزن؟

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أرى أن المقال جيد و قد ألم بشكل شبه كامل بمفهوم الطاقة من وجهة نظر الفيزياء التقليدية ، و لكنه أغفل تماما وجهة نظر الفيزياء النسبية و التى قد يكتمل النقاش حول مفهوم الطاقة بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى