ولادة جديدة

هند خضر | سوريا

اللوحة للرسام الروسي فلادمير فولقوف

ليل خريفيّ يخجل أن يفرد جناحيه على أناس يُقتلون في الثّانية الواحدة آلاف المرّات ،في الخارج ريح تمدّ يدها لتعبث بكلّ شيء تصادفه في طريقها ،أوراق متطايرة هنا وهناك في تلك المدينة الهاربة من تفاصيل الذّكريات والقابعة خارج خطّ الزْمن ..
كلّ شيء يبدو غريباً وكئيباً ،أصوات تعلو لتملأ المكان وترافقها صرخة مدوّية منبعها روح شفّافة تشوّهت ملامحها وتسلّل الغبار إلى مساماتها كي تصل إلى مسامعنا وتبلغنا حكاية امرأة تخفي في أعماقها أنثى رقيقة لكنّ الحظّ لم يقف إلى جانبها و أوقعها ضحيّة بين براثن التّعنيف منذ دخلت بيت الزّوجيّة ..
رهف أنثى بداخلها إحساس لاينضب وحنان لايجفّ ،لطالما حلمت برجل يقدّر جمال روحها وصدق مشاعرها ،رسمت في مخيّلتها زوجاً لطيفاً يحبّها ويحترم رغباتها ولكن الحياة لم تعطيها ما رغبت به فتكسّرت أمانيها كالمرآة وتحوّلت إلى شظايا ..
أسدلت رهف السّتار على نافذتها الزّجاجيّة المطلّة على جيرانها الّتي بدأت تتهشّم يوماً تلو الآخر ظنّاً منها أنّها تستطيع إخفاء ملامح البؤس عن وجهها و الكدمات الزّرقاء تحت عينيها و قد غاب عن ذهنها أنّ للصّوت صدىً ..
يوميّاً يضاجع الحزن عقلها وقلبها ،تمضغ حزن مدينة ومن ثمّ تبتلعه ،تصحو و تنام على عبارات جارحة و ألفاظ نابية ، يُمارس عليها أبشع أنواع العنف الجسديّ والنّفسيّ ،فقط لأنّها امرأة …هذا ما كان يصرّح به زوجها عندما كانت تسأله عن سبب ظلمها ،جحيم لا يُطاق مع زوج كل معتقداته البالية وأفكاره المتعفّنة تشير إلى ضرورة ترهيب المرأة ومعاملتها بوحشيّة .. حاولت رهف أن تتمرّد على واقعها للخلاص من ذاك الزّوج الّذي يدّعي الرّجولة وهو بعيد كلّ البعد عن هذا المفهوم ولكن إنجابها لطفلتها الصّغيرة كان يردعها عن اتّخاذ قرار الانفصال ..
سعت لمحاورته بهدوء مراراً وتكراراً فباءت محاولاتها بالفشل وكان الصّبر سلاحها إلى أن قرّرت أن تُخرج الحرّيّة من رحم المعاناة و تشقّ خاصرة الألم ليكون وليدها الأمل ..
‏ذات صباح رفعت رهف السّتار عن النْافذة ،فهي منذ مدّة طويلة لم ترَ انعكاس الشّمس على نظرتها ،استنشقت الأوكسجين الممزوج برائحة أرغفة الخبز المباركة ،دندنت أغنية مسافرة في قوارير العطر،أمسكت طفلتها بيدها مغادرةً بيت أشبه بالسّجن بعد أن تركت له ورقة كتبت عليها :
‏أنا لن أعود إليك .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى