اكتشاف الحب : أوراق من مدونتي الشخصية (11)

مروان ياسين الدليمي | العراق

أقرب ماتكون إليه

بَدَت في دهشتها التي استيقظت على وجهها الشاحب، كما لو أنها طفلة تكتشف الأشياء لأول مرة، بينما كانت تتابع الفضاء الشاسع الذي يمتد بلا نهاية أمام عينيها، في أول رحلة لها بالطائرة، فارتسمت على وجهها بهجة، مثل شعاع ينبثق من داخلها، كانت كافية لأن تبدد التعاسة التي كنا نرزح تحتها منذ عدة أيام وتمنح من يراها شعورا قويا بالطمأنينة بأن الحياة تستحق الاحتفاء بها، رغم ما نمر فيها أحيانا من انتكاسات حادة، حتى أنها قالت متعجبة إن بإمكانها أن تلمس الغيم بأصابعها، لولا النافذة الزجاجية التي كانت تحول دون ذلك. فما كانت تتخيل في يوم ما أن تتأمل مشهدا كهذا بتلك المساحة الهائلة من البياض الناصع ، فحسدت نفسها لأن الفرصة واتتها لتعيش مثل هذه التجربة بكل سحرها، خاصة وأنها كانت معلقة على ذاك الارتفاع الذي جعلها تشعر كما لو أنها اقرب ماتكون إلى الله ، وقد تبدى لها وجهه، بنوره الآسر في يقظة تلك الآيات التي كان بصرها يقتنصها، بكل ماتحمله من صفاء مبهر تجلى بحضوره النادر في زاوية قصية من هذا الكون.

دائما ما كانت أمالها تنأى بها بعيدا عن هوس البشر في المشهد الارضي بكل ما يحمله من توحش غرائزي،وتمضي بكل جوارحها الى حكايات غامضة مرتبطة بالسماء وما يقف ورائها من قوة خفية تمسك بأسرار هذا الكون،ودفاعا عن نفسها عندما كنت اوجِّهُ انتقادا لها باختيارها الهروب من الحقائق الواقعية الملموسة بالالتجاء الى الغيبيات،كان جوابها الذي تعيده على مسامعي مرارا وتحتفظ  في محتواه بكل مالديها من اصرار،بان موقفها يعبر عن ايمانها،وعن احساس عميق لديها لاتستطيع ان تتجاهله،وهو اقوى بالنسبة لها مما تراه وتلمسه في الحياة من صور وظواهر اعتبرها انا ادلة مادية ومنطقية،وهذا ما يدفعها الى ان تبني امالها بعيدا عن اضطرابات النفس الانسانية ونوازعها وهوسها بما هو حسي وملموس.

شرود عن العالم

لم يكن هذا الموقف قد تولد في داخلها بعد ان مرت بتجربة مرض الروماتزم الذي انهكها منذ العام 1999 ولا بعد ان دخلت تجربة سرطان الثدي، اظن بان انفتاحها على هذا العالم المشبع بصمت السماء وغموضها يعود الى سني طفولتها الاولى والى المحيط الاجتماعي الذي شحذ خيالاتها بماهو ابعد من الواقع،فهي لم تكن تأبه بالفرص التي يمكن ان تضعها في طريقها خيارات الدنيا بكل مافيها من مغريات ومباهج،وهنا تحديدا يكمن جانب مهم من الافتراق بيني وبينها،فأنا لا احب التحليق بعيدا عن المحسوسات،بينما هي في كل عمل تُقدِم عليه كانت تبحث عن ممر روحي يفصلها عن الواقع املا في ان تشعر بالاطمئنان الداخلي.فكثيرا ما تنفرد مع نفسها في حالة من الشرود والتيه عما حولها،وتمضي على هذه الحال ساعة من الزمن،تبتعد فيها عن ذاتها لتقترب منها اكثر،وهي غارقة في حالة من التوحد معها،وحينما اجدها على هذه الصورة بعد كل صلاة تؤديها،اغض النظر عنها،ولا احاول ان اثير اي جلبة في البيت،حتى لو كنت اود ان استفسر منها عن شيء ما لحاجتي الماسة اليه.فأنا لست معنيا بما يؤمن به الاخرون،ولااسمح لنفسي ان اشتبك في جدل معهم حول ما إذا كانوا يلوذون بمكان صحيح أو خطأ، فالمهم بالنسبة لي في ما يتعلق بقناعات البشرأن يشعروا باطمئنان داخلي في خياراتهم الذاتية،طالما لايتسببون لي وللاخرين باذى،واكثر ما يشعرني بعدم الاطمئنان عندما اجد من يحاول استنساخ الاخرين على هوى ما يطئمن هو إليه من قناعات، خاصة عندما يغلفها باطر عقائدية،ولم اصل الى هذه الدرجة من الاستيعاب الا بعد تجارب مريرة مع اخرين، وحتى اصل الى ماوصلت اليه من فهم استغرقتُ وقتا طويلا.

مصدر الأسرار

مذ كانت طفلة في مرحلة الدراسة الابتدائية لاتتذكر ابدا انها قد تخلفت عن ان ترفع نظرها نحوها الاعلى في الاوقات الخمسة للصلاة،هذا ماسبق ان قالته لي،لانها كانت ترى مصدر الالهام والاسرار لكل ما هو موجود على الارض يكمن هناك،فإذا ما شاء الانسان ان ينأى بنفسه عن الموجودات التي تحيط به في حياته المادية والتي عادة ما تاكل من جرف روحه ينبغي عليه ان يتوجه بوجدانه الى حيث ما يكون الله حاضرا،وإذا ما شعر بالقهر والجور قد لحقا به فلابد من ان يمد يديه نحوه طالبا منه العدل والانصاف وليس من غيره،وإذا ما نال مبتغاه فلاينبغي ان يتردد في ان يعبَّر له عن شعوره بالامتنان.

“اشعر بنبضي يتسارع كما لو أن قلبي سيطفر من مكانه”

هذا ما قالته وهي ترحل بعيدا في نظرها من خلف زجاج النافذة،كما لو ان المسافة بينها وبين الله باتت اقرب مما كانت تحلم به،ولفرط سعادتها بدأت تردد ادعية وصلوات وتسابيح مع نفسها،واسرّت لي بانها لم تكن تحتفظ في قلبها في تلك اللحظات الا بمطلب واحد “ان ألمس اشارة في روحي تجعلني أطمئن من ان الله راض عني” . هذا ما افصحت عنه لما سألتها بماذا كانت تهمس بينها وبين نفسها.

“ربما لديكِ هذا الشعور لانك اول مرة تركبين الطائرة وتكوني على هذا المستوى من الارتفاع “

بهذه الجملة حاولتُ ان اخرجها من هذا الافراط في التخيل والتحليق بعيدا عن الواقع،وان تتعامل مع ماتراه ليس باعتباره تجربة خارقة لن تتكرر،وذكَّرتها بان هناك ملايين من البشر مثلها ربما يكونوا الان على نفس الارتفاع لكنهم لايجدون انفسهم قد اصبحوا اقرب مسافة الى الله ، ولايعدون ما يمرون به تجربة روحية،انما هو مجرد انتقال في المكان مثلما يركبون سيارة او قطار او باخرة اثناء سفرهم من مكان إلى آخر، فلماذا هذا التوغل العميق في التخيل بما لايستحق كل هذا الجنوح والشطط في الافكار والتأملات التي ابعد من ان تكون منطقية  ! ؟

” احتفظ بآرائك لنفسك ،لأن إيمانك ضعيف أصلاً ”  

كنت مدركا من ان اجابتها ستكون بهذا المعنى،ولم يكن ممكنا ان انجح في اقناعها ابدا ،فالمسافة التي نختلف فيها كانت تبدو واضحة بيننا طيلة الاعوام التي عشناها معا ،فكيف بها ونحن على مثل ذاك الارتفاع الشاهق الذي كنا عليه،وغالبا ما كانت علاقتنا تشهد عواصف من الجدل خاصة إذا ما نشأ نقاش حول هذه الموضوعات،ولهذا كنتُ اتحاشى اي محاولة لتقليص المسافة الفكرية بيننا،لانني على يقين من ان المهمة ستكون مستحيلة،لانها من غير الممكن ان  تغير موضعها للدفاع عن قناعتها، وستبقى تتمسك بما لديها من ثوابت لاتقبل ان يصل الجدل الى حدودها،بل لديها الاستعداد في ان تفرط باي شيء بما في ذلك علاقتنا الزوجية ولا تتخلى عما تؤمن به ،فالعلاقة بينها وبين الله لاتقبل النقاش باي صورة،ولن تقبل في ان نُدخِلَها في النقاش تحت عناوين مثل حرية الرأي وتبادل الافكار وتحت اي ظرف، فهذه منطقة محرمة،وغير مسموح بالوصول اليها من وجهة نظرها، ولاعلاقة يمكن ان تجمعها باي حوار مهما كانت صيغته،ثقافية او دينية،او اي محاولة للفهم عبر فك طلاسمها،بل تعد الخوض فيها يحمل معنى  الاستعداد للتأرجح مابين الايمان والكفر،والخروج من دائرة الرضا والقبول الى دوامة من الشعور بالفراغ الروحي والسقوط في هاوية الشك،فالمسالة إذن بالنسبة لها أشبه بالسؤال الشكسبيري الذي جاء على لسان هاملت”ان تكون او لاتكون تلك هي المسألة ” فإما ان تكون مؤمنا دون نقاش ودون الدخول في معمعة الاسئلة او انك ستضع نفسك في حاضنة اللاإيمان مهما كانت نواياك طيبة،فهي  شخصيا قد وجدت نفسها بوقت مبكر في المكان الذي تبحث عنه،دون ان تتعب عقلها بالتقصي عن حقيقة وجوده من عدمه،انه مكان اكتملت فيه الحقيقة طالما وجدت نفسها فيه مستيقظة بعقلها وحواسها،ولن تفلح مراوغات الدنيا بنعمتها ونعومتها وسحرها من تخديرها والنأي بها عنه،فكانت متصلبة جدا خلف قناع من الافكار التي تستلهم منها حقيقة وجودها،وهي مكتفية بها،ولاني بطبيعتي لااقف طويلا امام هذه الموضوعات ولا انشغل بمثل هذا الجدل الفلسفي ،ليس لاني لااملك قدرة على فهمها واستيعابها انما لاني لاأجد في استمرار النقاش فيها اي جدوى،لهذا لم يحصل ان تدهورت علاقتنا بسبب اختلافنا،بل لاننا احتفظنا بهذه المسافة بيننا واضحة وآمنة،تمكنَّا من ان نبعد التصدع عن  حياتنا الزوجية .

التقطتُ لها عددا من الصور بجهاز الهاتف دون ان تنتبه وكانت تبدو بغاية السعادة وهي تنظر من خلف النافذة وتضع كفها على فمها وعيناها مفتوحتان على وسعهما علامة على ماتشعر به من ارتباك وامتنان امام آية من ايات الخلق في هذا الكون العجيب،ثم تهز راسها يمينا وشمالا بحركة موضعية خفيفة تعبيرا عن هذا الشعور الذي كان يتلبسها،ولما انتبَهتْ الى انني كنت التقط صورا لها،ارتسمت  ابتسامة عريضة على وجنتيها عكست شعورا عميقا بالفرح لم اره يتجلى فيها منذ ان شخَّص الطبيب اصابتها وخيم القلق والحزن علينا ثلاثتنا.  

 

هذه ليست بيروت

وصلنا مطار رفيق الحريري في تمام الساعة السابعة والنصف مساء ،وتفاجأت بانه مطار صغير جدا مقارنة بمطار اتاتورك في اسطنبول الذي سبق ان مررت به مرتين .  

بعد ان انتهينا من اتمام اجراءات الوصول،استأجرنا سيارة تاكسي لتوصِلنا الى فندق “كوين سويت” الذي يقع في شارع الحمراء وعلى بعد مسافة لاتتجاوز خمس دقائق عن مستشفى الجامعة الاميركية .

صُدمت من كثافة العمران في بيروت،حتى انني وجدتها مدينة موحشة، واعترف بانها خلَّفت في داخلي شعورا بالخوف منها،ولم استطع ان استبعد الاحساس بان ما فيها من حيوات كانت تئن تحت وطأة الازدحام الكثيف بالابنية والعمارات الى حد الاختناق وفي مساحات ضيقة جدا، انها مدينة ليس فيها فضاءات مفتوحة تبعث على الشعور بالهدوء والاستقرار، كان مظهرها القاسي مفاجأ ً لي،لم ار سوى مدينة تذبل فيها المشاعر الانسانية امام هذه الشراسة في البنيان،وميلا مفضوحا الى تدمير اي فرصة للتخيل وذلك بجعل الانسان ينزوي  محشورا وراء كتل كونكريتة لا تعبّر عن ميل للتباهي بالثراء فقط ،بقدر ما تعكس جشعا طبقيا يتعاظم حضوره في سلوك ومواقف اصحابه،مثل امرأة لاتكتفي بجمالها الذي خُلقت عليه فتصر على ان تمشي عارية لتستعرضه امام  الملأ .

بيروت المدينة، لم تعد تصلح ان تكون ملاذا للروح الهائمة بالتحليق في فضاء الحرية،ومن تسنى له فرصة العيش فيها فهذا يعني انه قادر على ان يسحق عظام من  يقف امامه،انها اشبه بحلبة دموية يتصارع فيها المتنافسون بكل ضراوة وعبثية حتى يعيش احدهما من بعد ان يموت الآخر، فلامكان فيها للضعفاء الذين يتحاشون اللعب مع الموت،وعلى الرغم من انها تبدو رقيقة في الصور المتخيلة التي ترسمها الاغاني الا انها في حقيقتها الواقعية غليظة وخشنة في ملمسها،انها نموذج للعواصم العربية الكبرى التي اختفت منها المدنيّة،مثل بغداد وصنعاء وطرابلس ودمشق والقاهرة،فتحولت الى كيانات عشوائية لم تعد تنبعث  منها رائحة الازهار بعد ان تلوث هوائها بضغائن تجارالسياسة .

هي مدينة ضاقت الحياة فيها بابنائها،من الشعراء والفلاسفة والادباء والفنانين،ولم تعد تمد ذراعيها لهم لتحتويهم . فهل بيروت اليوم هي ذاتها التي كانت قبل نصف قرن وهي تحمل رائحة المراكب والسفن التي كانت تأتي اليها وتنطلق منها الى كل جهات الارض ؟

لم اجدها تلك المدينة المعبأة بالتفرد الحضاري،كما كانت في مخيلتي،ولم تمنحني الاحساس بانها مثل حورية البحر،وهذا الشعور تولد في داخلي بينما كنت اصغي لسائق التاكسي الشاب،وهو يوجز لي تاريخ الاماكن التي كنا نمر بها والشخصيات التي كانت جزءا من ذاكرتها،وما إن انتبهت الى وجه حسن نصرالله موشوما على ساعده الايسر،لم اعد معنيا بما يقوله،والتزمت الصمت،وتركت له فرصة الاستمتاع لوحده بالحديث ،مكتفيا بتوزيع نظري على جانبي الطريق .  

وبينما كنت اتطلع من خلال السيارة الى المدينة التي كانت في يوم ما غاية ما كنت احلم بالوصول اليه،تساءلت مع نفسي: إين الجمال في مثل هذه المدينة ؟  وكيف يحتمل الناس العيش فيها !  انها تعبير صارخ عن حقيقة المدن العصرية التي تسلب من الانسان شعوره بالحرية ،وتقذف به الى لحظة زمنية من الاهتياج والتوتر،كما لو انه يعود الى الغابة،بكل الوحشة التي تصاحبه فيهاعندما يكون بداخلها،فصمت الغابة معادل لضجيج وزعيق الاصوات في مدينة مثل بيروت،وذهبت مخيلتي  بعيدا عنها الى مدينتي العراقية التي ولدتُ فيها واجريت مقارنة بينهما،بينما كان السائق مايزال يثرثر بالتاريخ من وجهة نظره،واحتفظت بيني وبين نفسي بافضلية ما تفيض به مدينتي من مجازات طويلة يتردد فيها صوت الحياة،مثلما يجري ماء دجلة في شرايين شوارعها وفصولها من غير ان يحدث فيها ضجيجا،وبامكانك وانت الغريب ان تعثر على الراحة فيها،ولن تتأخر هي ايضا في ان تشعرك بالدفء والحنين اليها اذا ما ابتعدت عنها،مع انها مدينة ليس لها تاريخ سري في المتعة مثل بيروت،وايقاع حياتها ينضبط على توقيتات الاذان  .

انطباع آخر مختلف

السفر يسبب الارهاق،حتى لو استغرقت الرحلة زمنا قصيرا،ولهذا ما ان وصلنا الى الفندق حتى اغتسلنا،وتمددنا على السرير لنستريح، لكننا وبسبب التعب دخلنا في نوم عميق،ولم نصحو منه الا بعد ساعتين.

اتصلت عبر الهاتف بموظف الاستقبال وطلبت منه  ان يرسل لنا وجبة عشاء خفيفة.واثناء ماكنا ننتظر وصول عامل الخدمة،تقدمتُ نحو نافذة المطبخ المطلة على الشارع الجانبي الذي يقع فيه الفندق . كان الليل قد اسدل ستارة خفيفة من العتمة على المدينة ولم يكن ينفذ منها الا خيوطا من الضوء تصدر من مصابيح معلقة على اعمدة الكهرباء ومن نوافذ الشقق السكنية في عمارات متلاصقة الى بعضها البعض حد الاختناق،ولم يأسرني في تفاصيل هذا المشهد سوى  حالة الهدوء التي كانت  تعم ارجاء المكان ،باستثناء أصوات رجالية كانت تخترقه قادمة من كشك صغير يقع مقابل باب الفندق،يقدم للزبائن اكلات لبنانية خفيفة مثل بابا غنوج،فتة،حمص بطحينة،كبة محشية. ولم يكن في الكشك سوى عاملين يقدمان الطلبات لثلاثة او اربعة زبائن يجلسون حول منضدتين صغيرتين.

بقيت اتأمل المنظر من الاعلى،ووجدته يعكس وجها اخر للمدينة التي كنت قد شعرت بالنفورمنها قبل ساعات،حيث كانت تبدو حميمية من خلاله، ولا اشك في ان مثل هذه اللحظات غالبا ما تبعث فيّ شعورا بالتواصل والألفة مع المكان حتى لو كان اجنبيا،ولايتوغل التوجس بيننا اذا ما وجدتني فيه لاول مرة،حتى انني اشعر بان الزمن في مثل هذه الاماكن يبدو الاقرب الى الحياة ببساطتها ويتخلى عن اقنعته التي يرتديها في الاماكن الاخرى التي تنحجب فيها الرؤية ويسودها العمى،بفعل الضوء الساطع المنعكس على واجهات مبانيها الشاهقة، بينما هنا،عند هذا الكشك يميل الزمن الى ان يطوق بذراعيه  كل الحيوات الموجودة ويبعث فيها دفئا،لتكتسب حضورا انسانيا اليفا يستيقظ  منها بهدوء،وهو ينساب في ملامح من يشكلون تفاصيل المشهد الانساني.ومثل هذه الامكنة التي تكتب حضورها ببساطتها تشبه ماكنا قد تآلفنا معه من لذائذ العيش البسيط في بيوتنا وازقتنا وشوارعنا واسواقنا في الموصل القديمة والتي اجهزت عليها حرب التحرير في ما بعد ،لان السيناريو المُعَد مُسبقا كان يقتضي ان ترصد عدسات الفضائيات محوها من الوجود،وقطع ظفيرة الشعر الطويلة التي كانت تنسدل على ظهور فتيات المدينة وهن يفتحن اذرعهن لنسمات الربيع،واحتضار الشقوق في الجدران التي تآخى الزمن معها وغفا عند عتبات بيوتها، لتنسل منها الاغاني صامتة ولترقد تحت الاحجار رقدتها الاخيرة .

كان ممكنا ان ابقى هناك في ما كنت غارقا فيه من تأمل لولا الطرقة الخفيفة على باب الغرفة . فتحت الباب واستلمت وجبة العشاء من عامل الخدمة.

يتبع ….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى