مقال

الوفاء

محسن جهاد الماجدي

     لعل الوفاء ميزة يمتاز فيها العربي عن غيره من الأجناس الأخرى، فكيف إذا امتاز الوفاء بالشّاعرية فكانتا مرتبطتين ارتباطا معا، فالجزيرة العربية فيها من الأحداث التي تمتاز بالشّعر لا سيما قبل أن ينتشر الدين الإسلامي، إذ يعتقد الناس أن الطّبيعة الجاهليّة المنتشرة آنذاك تخلو من الأخلاق السّاميّة، لكن ذلك عكس ما معروف عنه في هذه الحادثة المشهرة عن النَّعمان بن المنذر، إذ أنه كان يهوي الصَّيد حال كلِّ الأشراف من العرب في ذلك الحين، وكان لديه فرس اسمه اليحموم.. كان سريع العدو.. وفي أحد الأيام امتطي صهوة هذا الفرس طالبا الصَّيد. وهو بهذه الحالة رأي حمارا وحشيّا وأراد صيده. وكان هذا الحمار سريع الجري.. فتتبعه النّعمان بن المنذر حتي ضلَّ طريقه في الصَّحراء. فلم يستطع أن يرجع إلى قصره، ولا هو استطاع أن يصطاد الحمار، وأثناء حيرته لمح من بعيد خيمة في الصَّحراء، فاقترب منها، وشاهد في داخلها رجلا وامرأته. وأحس الرَّجل والمرأة بالقادم إلى الخيمة، عندما صهل الحصان الذي يركبه.

إذ كان رجلا مهيبا يدل منظره وملابسه على أنَّه إنسان مهم! ودخل النُّعمان بن المنذر الخباء، وكان علي وجهه أثر السَّفر، وبدا على وجهه الإجهاد.. لم يعرفاه أول الأمر، وطلبا منه أن يستريح، وكان الرَّجل يسمي حنظلة وهو من قبيلة طي، ولم يكن لديه سوى شاة وبعض اللَّبن، فقدما له الشاة بعد أن ذبحها الزَّوج، وقدَّمت المرأة له اللَّبن. وبات النُّعمان ليلته في هذا الخباء.. وفي الصَّباح أخذ طريقه إلى قصره، بعد أن دلَّه الرَّجل على الطَّريق إليه، إذ عرف أنَّه النُّعمان بن المنذر. قبل أن يغادر النعمان الخباء قال: عرفت أنني الملك النُّعمان فاطلب ما بدا لك جزاء ما قدَّمت لي. ورد عليه الرَّجل. أفعل هذا إن شاء الله. وبينما كان الملك يستعد للرحيل إذ أبصر رجاله الذين كانوا يبحثون عنه يتقدمون نحو الخباء، ثم ساروا مع الملك نحو قصوره في الحيرة! تمضي الأيام، ويشعر رجل طي بقسوتها. وأنَّه أصبح فقيرا معدما لا يملك قوت يومه. وقرّر بعد التشاور مع زوجته أن يتجه إلي ملك الحيرة، لعله يجد مخرجا لما هو فيه، وتذكر الأخبار أن النّعمان كان قد شرب الخمر حتى سكر في بعض الأيام، وله نديمان أحدهما اسمه خالد بن المضّلل، والآخر اسمه عمرو بن مسعود بن كلدة، فأمر بقتلهما، وعندما أفاق من سُكره، وعرف ما اقترفت يداه، حزن حُزنا شديدا، لأنَّه كان يحبهما حبا جما، فأمر بدفنهما، وأمر بأن يبني عليهما بناء طويلا عريضا سمّاه العزيين، وجعل لنفسه كلَّ عام يوم بؤس، ويوم نعيم، يجلس فيهما بين العزيين فذا جاءه شخص يوم نعيمه أكرمه. وإن جاءه يوم بؤسه قتله! وشاء حظ حنظلة القادم إليه من عمق الصَّحراء، أن يذهب إليه في يوم بؤسه، وعرفه النُّعمان، وحزن حزنا شديدا بأنَّ مصير هذا الرَّجل الذي أكرمه هو الموت. قال له النُّعمان: يا حنظلة هلا أتيت في غير هذا اليوم؟ قال حنظلة: أبيت اللعن لم يكن لي علم بما أنت فيه قال له النعمان بن المنذر: فاطلب حاجتك من الدنيا وسل ما بدا لك فإنك مقتول لا ريب!! قال له الإعرابي: أبيت اللعن وما أصنع بالدنيا بعد موتي؟ فأجلني حتي أعود إلي أهلي فأوصي إليهم وأقضي ما عليّ ثمّ انصرف إليك. قال له النُّعمان: فأقم لك كفيلا. فالتفت الطَّائي إلي شريك بن عمرو بن قيس الشَّيباني وكان يكنى أبا الحوفزان فقال:
يا شريكا يا ابن عمرو هل من الموت محالة
يا أخا كلِّ مصاب يا أخا من لا أخا له
يا أخا النُّعمان فيك اليوم عن شيخ كفالة
ابن شيبان كريم أنعم الرحمن باله
ولكن أبا شريك رفض أن يكفله، وكان بين الحاضرين قراد بن أجدع الكلبي فضمنه مضت الأيام.. وجاء موعد عودته وفي اليوم الذي يسبق ميعاد حضور رجل طي، استقدم النُّعمان قرادا وقال له: ما أراك إلا هالكا غدا فقال قراد: فإن يك صدر اليوم ولّي فإنَّ غدا لناظره قريب
وفي اليوم التَّالي ذهب النُّعمان بن المنذر إلى العزيَّين، وكان يريد قتل قراد حتي ينجو هذا الإعرابي الذي أكرم وفادته منذ سنين! وكان يتحسر أنَّ العذر ساق هذا الذي أكرمه في يوم نحسه لا يوم نعيمه. كان ينظر إلى النَّطع والسَّيّاف، ويتمني في قرارة نفسه ألّا يفي هذا الإعرابي بوعده، وألّا يعود، وأن يرتاح ضميره بأن يقتل من مد له يدَّ المساعدة في وقت كان في أشد الحاجة إلى هذا العون. فكيف يقتله جزاء إحسانه! وبينما أراد أن يشير إلى السَّيّاف بقتل قراده، إذ بشبح قادم من بعيد.. وكلما تقدم دقَّ قلب النّعمان ابن المنذر، وهو يتمني ألّا يكون هو، ولكن وضحت الحقيقة عندما جاء شيخ طي، وعلي وجهه يبدو عناء السَّفر واقترب من النُّعمان، وهو يقول:

ها أنا ذا قد أوفيت بالعهد
وعليك أن تفكّ وثاق قراد!
سأله النُّعمان: ما الذي أتى بك وقد أفلت من القتل؟ قال الرَّجل وهو يلهث من التعب: الوفاء. سأله: ما الذي دعاك لهذا الوفاء. قال: ديني. وما دينك؟ قال: النَّصرانية. وطلب من حنظلة الطَّائي أن يحدِّثه عن هذا الدّين، فلما أخبره به، أعلن دخوله النَّصرانية، وتبعه أهل الحيرة، وكان قبل ذلك على الوثنيّة. وأمر النُّعمان بهدم العزيَّين، وأمر بالعفو عن قراد وعن الرّجل الذي كفله، والذي أصبح الشَّطر الثاني من البيت من الشعر الذي قاله مثلا.. يضربه الناس في مختلف العصور. (فإنَّ غدا لناظره قريب) وقال النُّعمان بن المنذر: ما أدري أيكما أكرم وأوفي.. أهذا الذّي نجا من السيف فعاد إليه أم هذا الذي ضمنه، وأنا لا أكون ألأم الثَّلاثة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى