من أجل شفاء سيدة الحكايات النبيلة، رجاء بسيسو

د. إيهاب بسيسو | فلسطين

أمي …

هكذا هي كما أعرفها دوماً …

المعلمة، الصلبة، المُلهمة القادرة على انتزاع ابتسامة من أشد الأوقات حلكة وصعوبة …

أمي، رجاء بسيسو معلمة الرياضيات في مدرسة غزة الابتدائية المشتركة، صاحبة الحضور والإرادة والصبر الأسطوري في أشد سنوات الحياة قسوة وإيلاماً، تقاوم اليوم بكل إصرار فيروس كورونا اللعين بجسد هش غير أنه الأكثر صلابة في إرادة الحياة وتحدي المرض …

يأتي صوتها قوياً رغم وهن الجسد أو هكذا أسمعه وهي تهتف بثقة: سأراك قريباً يا أمي

فأهتف: سنلتقي قريباً يا أمي …

أهمل وجع الانتظار المزمن وغياب تصاريح المرور الغامض وكل تلك الوعود الضبابية على مر سنوات من تعب عبر زجاج النوافذ المعتمة بأن المسافة المعلنة في بطاقة الهوية بين رام الله وغزة هي أقل تواضعاً من حلم عادي في حياة عادية بلا حواجز …

غير أنها المسافة الأكثر اتساعاً ووحشية على أرض الواقع وهي أكثر الكوابيس اشتعالاً في رأسي قلقاً وغضباً وحياة مؤقتة في وقت مرتبك ومؤقت وبلا ملامح واضحة …

أمي تناضل على طريقتها الخاصة كل يوم لمواصلة الحياة كما تريد …

قليل من الابتسام رغم الوجع، كثير من الذاكرة والحياة رغم الطقس الضبابي حول الجسد …

كأنها تواصل قهر المسافة بالصوت المشبع بالأمل …

وهي تواصل إرسال القبلات عبر الهواء والدعوات وأحاديث لا تنقطع عن حياة المدينة …

أمي التي شهدت كل الحروب على غزة وشهدتُ معها عبر الهاتف كل الحكايات التي صنعت هذا الوقت الممعن في المحو والإبادة …

القصف، الدوي، تهشم الزجاج، ارتجاج جدران البيت، انهيار الساعة البيولوجية بين نوم مضطرب وأرق، غياب أحبة الأنقاض، نهوض مبكر في الصباحات الناجية من الموت لتفقد جريات الحياة في أصص الورد …

قبل سنوات قرأت لها فصلاً عبر الهاتف من كتاب فيلتسيا لانغر ” مسيرة الغضب والأمل” والصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، كانت فيليتسا لانغر قد ذكرت فصلاً كاملاً عن خالي الشهيد أبو علي، مهدي بسيسو أحد قادة إضراب الأسرى عن الطعام في السبعينيات، وكيف كانت هي وأمي في ذلك الزمن البعيد تركضان بين المعتقلات كي تحظيان برؤيته ولو لدقائق بين سجن عسقلان ومجدو وشطة …

خرج مهدي بسيسو مع وليام نصار من المعتقل بعد سنوات في عام ١٩٨١ في صفقة التبادل الشهيرة التي قامت خلالها المقاومة الفلسطينية في بيروت بمبادلة الجاسوسة أمينة المفتي بمهدي ووليام وتم التبادل ذلك العام في قبرص …

بعد أسابيع قليلة من عملية التبادل وفي مثل هذا اليوم التاسع من تشرين أول عام ١٩٨١ يُدوي انفجار في العاصمة الايطالية روما معلناً استشهاد القائد الكبير ماجد أبو شرار …

بعد ذلك بسنوات قليلة يطلق مهدي بسيسو المحرر من المعتقل اسم ماجد على طفله الأول ليصبح أبو ماجد حباً تقديراً وتيمناً باسم صديقه الشهيد …

اليوم تتذكر أمي، رجاء بسيسو بصوت واهن تلك التفاصيل وهي تقاوم ضراوة فيروس كورونا الثقيل …

تتذكر أخاها الشهيد مهدي بسيسو والشهيد ماجد أبو شرار كما في كل عام في مثل هذا اليوم …

وأسمع – كما في كل مرة كل عام  – هذا السرد المألوف المشحون بالعاطفة والذكريات …

كأن في هذه الحكاية التي لا تفنى بُعداً جديداً كل يوم، كأن هذه السيدة الثمانينية – أمي – لا تريد لفيروس كورونا أن يصيب ذاكرتها بالنسيان فيأتي صوتها مثقلاً بالتعب واضطراب منسوب الأكسجين في الدم:

اليوم ذكرى استشهاد ماجد أبو شرار …

– نعم يا أمي، اليوم …

أعلم ما وراء العبارة فذكرى استشهاد ماجد أبو شرار مناسبة كي تعيد تذكر كل شيء، مناسبة لحديث لا ينقطع عن تلك السنوات البعيدة …

– اكتب شيئاً

– حاضر يا أمي …

أنهي المكالمة الهاتفية وفي داخلي حيرة توازي هذا القلق في صدري، أمي تقاوم فيروس كورونا على بعد ساعة في سيارة أو حافلة دون حواجز …

وأنا في انتظار تصريح مرور يرتق هذه المسافة الممزقة بين غزة ورام الله …

أكتب لها اليوم كي تقرأ في لحظات الصحو صورة الذاكرة الشخصية في النص المشبع بالحكايات البعيدة …

أكتب كي أواصل تعلم حرفتها المُلهِمة في التغلب على المشقة بالتذكر …

أكتب لأنها في عبارتها اليوم – اكتب شيئاً – أبلغ دروس الذاكرة والتذكر رغم المرض والتعب وقسوة الوقت …

اليوم وفي ذكرى استشهاد القائد والمفكر والأديب ماجد أبو شرار أستعيد الحكاية مجدداً ببُعدها الشخصي والوطني مع الكثير من سنوات طفولة لم تغادر الذاكرة …

أمي المتماسكة الصابرة هي تلك الانسانة التي دونت بعضاً من ملامحها فيليستيا لانغر في كتابها المترجم للعربية …

تصر على أن فيلتسيا لانغر كانت أكثر من مجرد محامية متفانية في الدفاع عن الأسيرات والأسرى …

كانت بمثابة أخت للجميع وصديقة …

ربما لهذا كبرت وفي داخلي ذلك الانحياز العاطفي لصورة فيلتسيا لانغر في الذاكرة الشخصية والعامة …

شعرتُ اليوم وبعد إنهاء المكالمة مع أمي في غزة بضرورة الكتابة من أجلها ومن أجل رغبتها الدائمة في الحث على التذكر …

اليوم يا أمي أكتب من أجل شفائك، ومن أجل أن تستمر الذاكرة – كما تحبين – متدفقة في عروقنا دون اضطراب في منسوب الهواء النقي رئاتنا المتعبة …

أكتب وأنا أنتظر استصدار تصريح للمرور من أجل أن نلتقي قريباً رغم كل الحواجز التي تفصلنا والمسافة الطاعنة في الألم …

بالمناسبة اليوم يا أمي – التاسع من تشرين أول – يتزامن أيضاً مع ذكرى اغتيال تشي غيفارا في أحراش بوليفيا. تاريخ إضافي أدونه في النص بكل ما يحمل من دلالة في كتاب التاريخ والحاضر …

اليوم أشعر كأننا نقاوم ثقل فيروس كورونا على أجسادنا بالتذكر والكتابة علنا نطرد هذا القلق المزمن وحزناً عميقاً من وقتنا المشبع بالأمل …

لك الشفاء العاجل يا أمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى