بكل صراحة.. كلام في الدين والوطن والحرية

د. خضر محجز | فلسطين

اللوحة للفنان: هنري هنترميستر (1897-1972) تاكا تاكاتا

أحب أن أقول عن نفسي أشياء، تعبر عن نفسي أكثر مما تعبر عن الرأي السائد، لدى الكثيرين من المتكلمين في الثقافة والسياسة والديموقراطية. فلقد رأيت الكثيرين يقولون الشيء، ثم يتعاملون في الحياة بما يخالفه.

أولاً: عن الدين:

أعتقد أن الدين شيء جوهري للإنسان، لا يستطيع أن يشعر بالراحة دونه. فهو الذي يجيب على أسئلة كبرى تؤرقه. صحيح أن بعضاً من هذه الإجابات غير مقنع أحياناً، لكن مجملها يُريح أكثر مما يُتعب، خصوصاً إذا فهم الإنسان أن ما تعلمه في الحياة، من ضرورة أن يكون كل شيء منطقياً؛ هو مفهوم لا منطقي في ذاته. فليس من المنطقي أن يحكم المصنوع على الصانع. فالمنطق بحد ذاته مجموعة مفهومات استنتجها العقل، وظنها حقائق (قَبْلِيّة) متعالية على الفحص، فيما هي ليست كذلك بالتأكيد. فنحن نتعلم، من مشاهدتنا لتكرار طلوع الشمس، أنها ستطلع غداً، مع أن هذه النتيجة ليست مؤكدة تماماً، إذ من يضمن أن ما حدث بالأمس سوف يحدث اليوم ضرورة؟

لقد آمنتُ بالدين مفهوماً منطقياً، فيما يمكن أن يستطيع المنطق تعليله، ثم قبلتُ منه أموراً نادرة عجز العقل البشري عن تعليلها، لأن عدم قبولي لها يعني تعباً أكثر.

إذن فالدين لديّ شريعةٌ منطقية مقبولة غالباً. أما العقيدة فمفاهيم غيبية أقبلُ بحكم المنطق، في كونه أوصلها إليّ، عن طريق من أثبت فعلُ التكرار الطويل صدقَ ما يقول، حتى لو كانت تفاصيل ما يقول مستحيل عرضها على التجربة، لإثبات صحتها. بمعن أنني أقبل بصحتها وثوقاً بمن نقلها عن السماء، لأن لا طريق إلى ذلك، غير ذلك.

ثانياً: عن القومية:

أؤمن بأن لكل جماعة من الجماعات، تعيش في مكان واحد، وتتكلم لغة واحدة، وطناً يُعتبر هو الناظم لوجودها الاجتماعي. فالوطن أصلُهُ المكان واللغة والوحدة. ثم يأتي الدين ليقوّي من وحدة هذا التجمع، فإن كان واحداً غير متعدد بين الأفراد، فهذه أفضل طرق الوحدة، أما إن كان المجتمع مكوناً من عدة أديان، فعلى الأفراد أن يتعلموا التعايش، بما أسميه مفهوم (التَساكُت) ولا أقول التفاهم.

والتَساكُت يعني لديّ أن أسكت عن مناقشتك، فيما ترى أن الخوض فيه سوف يهدد وحدة الجماعة. وبديهي من هذا أن الوحدة الدينيةّ لدي خير من التساكت:

1ــ فالوحدة الدينية لا تنشأ عن إجبار، بل عن قناعة مشتركة في حدها الأدنى،

2ــ أما التساكت فيحمل معنى الإجبار: إجباري على السكوت على ما أراه خطأ في عقيدتك، وإجباري على السكوت على رفضك المضمر لكثير مما أؤمن به، وأراه جوهرياً في عقيدتي. وإجبارك على سكوتٍ مقابلٍ يشبه سكوتي.

ففي الأولى أنا وأنت أكثر توافقاً، أما في الثانية فنحن متعارضان، مجبران على القبول بالصمت.

ثالثاً: عن حرية الفكر والكلام:

لا أعتقد أبداً بوجود حرية مطلقة، للأفراد أو الجماعات، في قول أو فعل كل ما يروق لهم. وذلك لأن نشوء مبدأ الحرية في المجتمعات، ظل دوماً متواكباً مع ظهور مفهوم القانون. فحيث لا يوجد قانون، لا توجد حرية، بل توجد فوضى. إن جوهر الحرية أن أحترم القانون، لأنه هو حَدّ الحرية وضامنُها.

والقانون يعني توافق المجتمع على ضبط سلوك الفرد في الحد الأدنى، وسلب حريته حين تتعارض مع حرية الآخرين. وفيما عدا ذلك يبقى الفرد حراً.

ضمن هذا المفهوم (المعلوم لكل من هو في عداد المتحضرين) تنشأ حرية الفكر وحرية التعبير عنه بالكلام، وتكون مضمونة في الدولة الحديثة.

لكن تذكروا بأنني قلت: “في الدولة الحديثة”، أي في الدولة الحرة المستقلة الموحدة. فمنذ متى كانت لنا دولة حديثة؟ إننا نحاول أن ننشئ هذه الدولة الحديثة بشق الأنفس. وإن ذلك لا يمكن أن يتهيأ لنا دون وحدة. فأيهما مقدم على الآخر، عند التعارض: حرية التعبير، أم الوحدة؟

أنا مع التفصيل:

1ــ فالوحدة مقدمةُ، حين يهدد المجتمعَ خطرٌ يهدد كينونته أو نسيجه أو سلمه الداخلي.

2ــ وحرية التعبير مقدمة ــ بل هي الأصل ــ في كل الأحوال، باستثناء ما يهدد الكينونة والنسيج والسلم الداخلي.

3ـ والذي يقرر الفرق بين الحالتين هو القانون.

ونتيجة ذلك أن نتوحد، أحراراً غير مرغمين على التشابه.

فإذا فشلنا في أن نتوحد أحراراً، فيجب البحث عن وسيلة للوحدة، توقع أقل ضرر بحرية التعبير، لدى أقل فئة في المجتمع، خصوصاً إذا كانت هذه الفئة ذات علاقة مشبوهة بجهات خارجية، تهدف إلى زعزعة الجماعة. فهنا نحن نتوحد أحراراً في غالبيتنا الكبرى، عبيداً بالنسبة لفئة قليلة، ستضطر إلى قبول القهر منا ــ وسنضطر إلى فرض القهر عليها ــ بديلاً عن سقوط الوطن والوحدة، خصوصاً وأنها فقدت حريتها باختراقها لضامن الحرية القانون.

والنتيجة أنني أرى السماح بحرية الأفكار والتعبير عنها، بل وبحرية الإيمان والكفر، لكن مع عدم السماح بالدعوة إلى التعدد المذهبي، في مجتمع هو في طور التكون، ولا يعاني من التعدد المذهبي أصلاً. لأن هذا من شأنه أن يمنع التكون منذ البداية. فقد علمت التجربةُ البشرَ بأن الأديان، التي يجب أن تكون لله، قد أصبحت الآن للدول والمجتمعات والمنظمات العابرة للجنسيات.

رابعاً: عن الديموقراطية:

ليست الديموقراطية ديناً منزلاً من الإله يجب الاعتقاد بضرورته، لكنها كذلك ليست رجساً من عمل الشيطان يجب رفضه. بل إنها لأفضل الطرق التي اخترعها البشر، لتحكم حياة المجتمعات، وتنظم علاقات الأفراد فيها، وعلاقتهم بالدولة.

إنها أقل طرق الحياة البشرية خطأ. إذ لم توجد بعد الآلية التي تنتج علاقة أفضل بين الناس، في المجتمع الواحد.

لا شك بأنه سوف ينشأ، في المجتمع، من يستغل الديموقراطية من الأشرار؛ ولكن لا شك كذلك بأنه سوف ينشأ تبعاً لذلك، وبالتضاد معه، عدد من الأخيار يستخرجون من الديموقراطية وسائل كفيلة بإصلاح ما يفسده الأشرار. وسيبقى الأمر على هذا المنوال، طوال الحياة، حتى نكتشف طريقة أقل ضرراً من الديموقراطية.

وعلى الديموقراطية أن تراعي دين الشعب، أو أديان الشعب، وعاداته الراسخة، وهويته التي تميزه عن باقي التجمعات على ظهر هذا الكوكب. كيف ذلك؟ لا توجد وصفة سحرية لهذا، ولكن علينا أن نكتشفها تباعاً، يوماً بيوم، ونطبقها تباعاً وفق القانون القادر على التطور، لأن هذا جزء من تحدي الكائن البشري المتحضر لنزعات الطبيعة الجامحة.

خامساً: عن التغيير:

التغيير سمة أساسية من سمات الحياة، بل هو جوهر البقاء أصلاً. لأن من طبيعة الناس أن يبغي بعضهم على بعض، وأن يستعبد بعضهم بعضاً. فحين يصل المجتمع إلى درجة من التكلس تنذر بالموت. وحين تفشل كل أدوات التغيير السلمية؛ فإن الثورة العنيفة تكون عندئذ هي الوسيلة الوحيدة للحياة. إنها عملية ولادة بكر جديدة، وكل ولادة بكر هي عنيفة بالضرورة. وقد حدثنا التاريخ مراراً عن تغييرات ضرورية، لم يكن لها أن تحدث، دون ثورات عنيفة. هذا هو الواقع للأسف، فليت أصنام الماضي تقبل المغادرة طوعاً.

حين يقترب المجتمع من الموت، لا نتوقع من شاربي دمه أن يروا موته. لقد تعودوا طويلاً على امتصاص الدم النازف من شرايينه، حتى غطت الدماء أعينهم، وقد استمر ذلك زمناً طويلاً حتى ظن شاربوا الدماء أن فعلهم قدر أبدي من طبائع الأمور.

لكن الأذكياء من المخلصين وحدهم، هم من يرون هذا النزيف القاتل، ويقدرون وجود أمرين متعارضين: اقتراب لحظة الموت، واقتراب لحظة الثورة. فيبادرون الموت بفعل الحياة.

سادساً: عن الفساد والاحتلال:

في البدء كان الفلسطينيون يسعون إلى التحرر، لاعتقادهم أن تحررهم الوطني سيأتيهم بحرية حقيقية. ورغم أهمية التحرر الوطني، وإزالة الاحتلال، إلا أنني صرت أشك في أننا قادرون على صناعة الحرية، بمجرد زوال الاحتلال.

لقد تم ــ طوال مرحلة طويلة ــ نشوء فئات مجتمعية كاملة، تتعيش على بقاء الاحتلال. ربما كانت غير واعية بذلك في البداية، لكنها وقد اكتشفت وعيها فيما بعد، فقد اختارت أن تنحاز إلى مصلحتها، ضد مصلحة المجتمع والوطن وشعارات الماضي، الذي صار في نظرها حمقاً مغلفاً بقشرة جمالية خادعة، تحمد الله على أنه قد (هداها) إلى فضها أخيراً.

دعونا نتصور أن الاحتلال قد زال، فهل تعتقدون أنكم ستنشئون مجتمعاً أفضل مما لديكم الآن تحت الاحتلال؟

دعونا نتصور المستوطنات وقد أصبحت في أيدينا. فماذا سيكون؟ هل سيتم استغلالها لصالح الفقراء؟

لا أرى ذلك، وأنا أتأمل ما يحدث في غزة. ولا أرى ذلك وأنا أرى سلطة رام الله، تمارس فساداً يضاهي فساد حكام غزة ويسابقه.

ولا أرى ذلك، وأنا أتأمل سلطة منظمة التحرير، فلا أراها خيراً من السلطتين المذكورتين، خصوصاً مع هذه الأسماء لفصائل غير موجودة على الأرض، وتعج بها المنظمة، التي أصبحت كياناً كاملاً من الفساد وغياب الديموقراطية.

يبدو أننا في حاجة لمكافحة الفساد، مع مكافحة الاحتلال.

وأقول بكل صراحة: لن يكون مستقبلنا بعد زوال الاحتلال أفضل، دون أن نقضي على الفساد. سنخرج من احتلال صهيوني يطعمنا، إلى فساد وطني يقهرنا ويقتلنا جوعاً وجهلاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى