ما زلت بخير

خالد رمضان | تربوي مصري

تزينت الدنيا بزينتها، وتعطرت بأرائجها، وشقت سفن العلم مياهها، وجابت فنون المعرفة جبالها وقفارها، فباتت طوع بنان الإنسان، يمنح ويسلب، يرغّبُ ويُرهّب، يبني ويهدم، يضن ويُكرم، فامتلك زمام أمورها، وٱلت إليه مقاليدها، وتاه الناس في عرصاتها، وانفرطوا في وديانها، فشغلتهم بسرعتها، وأحكمتهم بقبضتها، فوقعوا بين براثنها، ونهشتهم بأنيابها، وطحنتهم بكلاكلها، فتفرقوا في شعابها، وذاقوا من ويلاتها.
هنا اختلط الحابل بالنابل، والغذراء بالقابل، فبتنا تحت سفح الجبل كأنه ظلّة نظن أنه واقع بنا .
حينما تدلهم الخطوب، وتزيد على عاتقيك الكروب، وتحوطك الشبهات من كل ناحية، وكأنك وعلٌ تطارده الوحوش الضارية، فارفع يديك إلى الرحمن مبتهلاً مناجيا، ربّ لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين.
وقتها فلتعلم أنك مازلت بخير.
حين تحوطك الحرمات، ويتلقفك أهل البغي والضلالات، فتستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، زاهدا في إغوائهم، فارا من سفههم، وإسفافهم ، فاعلم أنك مازلت بخير .
أزف الرحيل إلى ديار الٱخرة
فاجعل إلهي خير عمري ٱخره
عندما تصرخ بداخلك شهواتك، وتجنح بك رغباتك، حتى تكون أضعف من فرخ حمام بين يديها، أو كالمكتوف بين ذراعيها، فتهب من سباتك، وتنتفض من غفواتك وسكراتك، ٱيبا إلى من عنده الريُّ الكامل، فاعلم أنك مازلت بخير.
لو أظلمت الدنيا في عينيك، وتعثرت كل الطرق تحت قدميك، فامدد يديك إلى الرحمن ملتجئا؛ فإنه الركن إن خانتك أركان، وقتها تعلم أنك مازلت بخير.
إنه زمن الشبهات والمتشابهات، وكما وصفه نبي الرحمة قائلا :
إن أمتكم هذه جُعلت عافيتها في أولها، وإن ٱخرها سيصيبهم بلاء، وأمور ينكرونها تجئ فتنٌ يرقق بعضها بعضا، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، ثم تجئ فيقول : هذه مهلكتي، ثم تنكشف، فمن أحب منكم أن يُزحزحَ عن النار، ويدخل الجنة فلتدركه موتته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر”
ستدركك الشبهة لا محالة، وقد تأخذك بلا لين ولا هوادة، فإذا أفلتَ من عقالها، ونجوت من أقطابها ، فاعلم أنك مازلت بخير.
هؤلاء الأصفياء الأنقياء الذين أحبهم الله تعالى لاعترافهم بذنوبهم، وكثرة أوبتهم وابتهالهم ، فهم يربؤون بأنفسهم عن الحرام، وإن كانوا يعيشون ويعملون وسط العصاة اللئام، لا ينافقون، ولا يتملقون، يخطئون ويصيبون، وإذا ما غضبوا هم يتراجعون .
إذا كنت كذلك فاعلم أنك مازلت بخير.
فقد مددت يدي بالذل معترفا
إليك يا خير من مُدت إليه يدُ
فلا تردنها يارب خائبة
فبحرُ جودك يروي كل من يردُ
لو أحاطوك وأرهبوك، وضغطوا عليك، وأتعبوك، فلم ينالوا منك منالا، ولا أخذوا منك نوالا ، فاعلم أنك مازلت بخير.
ولتعلم أن الخير ليس محضا، وكذلك الشر ليس محضا، إنما من رحم المعصية تولد الطاعة، ومن نيران الخطئية تخرج التوبة .
حفظنا الله وإياكم، ووقانا شرور أنفسنا، وتقلبات الزمن .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى