الاحتفال بالمولد النّبوي الشّريف احتفاء بالأخلاق

محمد بن قاسم ناصر بوحجام | الجزائر

    قال الله تبارك وتعالى:«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِـمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا» (الأحزاب/21)

أرسل الله الرّحيم لنا رسوله الكريم رحمة للعالمين، وشاهدا وبشيرًا ونذيرًا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.. معنى ذلك أنّ نبيَّنا عليه الصّلاة والسّلام جاءنا مبعوثا من الله العليّ القدير ليعلّمنا ما ينفعنا في دنيانا وأخرانا، ويبيّن لنا ما يصلح بنا ويهيّء لنا الحياة الكريمة في الدّنيا والحياة الهنيئة في الأخرى.
هو القائل: إنّما بعثت معلّمًا، إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق.. فكلّ ما دعا إليه النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام هو في صميم الأخلاق التي تبني النّفوس، وتؤسّس المجتمعات على ركائز متينة صحيحة.. فكلّ التّشريعات الإلهيّة التي بلّغها لنا رسولنا عليه أفضل الصّلاة والتّسليم؛ عباداتٍ ومعاولاتٍ.. تهدف إلى تمكين النّفوس من الأخلاق الحسنة.. بدأ بنفسه فكان أخلاقًا تمشي على رحلين، استقاها من القرآن الذي بلّغه للنّاس كافّة، فكان خلقه القرآن كما قالت أمّ المؤمنين عائشة بنت الصّدّيق رضي الله عنها. وقد كرّمه القرآن بشهادة امتياز وتقدير، فقال عنه ربّه العظيم:  وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم (القلم/4).
العلاقات التي تحكم مسيرة المؤمن في الحياة هي ثلاث: علاقته بربّه: (اتّقِ الله حيثما كنت)، علاقته بنفسه: (وأتبع الحسنةَ السَّيِّئَةَ تَـمْحُها)، علاقته بالآخر: (وخالق النّاس بخلق حسن). هذه العلاقات الثّلاث، إذا أحسن المؤمنون التّعامل معها جيّدًا ظفروا بمجتمع فاضلٍ وخيِّرٍ.. العلاقتان الأولى والثّانيّة هما مطيّة إلى العلاقة الثّالثة، وهي بيت القصيد من الالتزام بشرع الله.. والإتيان بما أمر الله والكفّ عمّا نهى عنه.. وهي الهدف من العبادة الخالصة، الذي هو زرع الأخلاق الحسنة في النّفوس، وجعلها الـمرتكز في السّير في الحياة.
لذا فإنّ احتفالنا بمولد خير البريّة يجب أن يكون احتفاءً بالأخلاق، تثمين ما تحقّق منها في حياة النّاس، وتعلّم ما جُهِل منها، وتصحيح ما انحرف فيها، وما أكثر هذا الانحراف في حياة النّاس.. هذا هو الاحتفال الحقيقي بمولد باعث النّور في الوجود، وناشر الخير بين النّاس، ومتمّم الأخلاق في سلوك البشر. بهذا الاحتفال نكون صادقين في حبّ رسولنا الكريم، وبالتّبع حبّ ربّنا العظيم: «قُلِ إنْ كُنْتُمْ تُـحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُـحْبِبْكُمُ اللهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَحيمٌ» (آل عمران/ 31). فقد قيل: بالعلم ترقى الأمم وبالأخلاق تسود. وقال سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: ليست كلُّ البيوت تُبْنَى على الـمَحبّة، وإنّما يتعاشر النّاس بالأخلاق. وقال أمير الشّعراء أحمد شوقي:
وَإِنـَّمَا الأُمَمُ الأَخْلَاقُ مَـــا بَقِيَتْ

وَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلَاقُهُمْ ذَهَبُوا

من دون الأخلاق تذهب عن المسلم صفة الإيمان، وتذهب عن الإنسان صفة الإنسانيّة، وتذهب قيمة المرء في الوجود، وتذهب عن الفرد معنى بقائه يتحرّك على أديم الأرض؛ لأنّه بدل أن يعمرها بأخلاقه، يخرّبها بانعدامها فيه.. وهذا هو ذهاب الأمم وسقوط القيم..
قال شاعر النّيل:
وَالعِلْمُ إِنْ لَـمْ تَكْتَنِفْهُ شَـمَائِـــلُ

تُعْلِيهِ كَــانَ مَطِيَّةَ الإِخْفَـــــاقِ

قد يعلو الإنسان بعلمه ويتقدّم بمعارفه، ويحقّق بها أهدافًا كثيرة؛ حسب تقديره، لكنّه يصاب بالفشل والانزلاق والإخفاق في التّقدير والاحترام وفي توظيف علمه في نشر الفضيلة والسّعادة والهناء والطّمأنينة والسّلام بين النّاس، ويخسر راحة باله وسعادة نفسه هو بالذّات؛ لأنّه يعيش اضطرابات نفسيّة وتوتّرات عصبيّة وغيرها من الـمُنغصّات، وقد يعود عليه علمه الفاقد لسياج الأخلاق ووقاية الأخلاق ومفعول الأخلاق.. يعود عليه بالهلاك والخسران وكراهيّة النّاس له.. لأنّه ابتعد عن الأخلاق.. فمن رزقه الله، ربُّ الخلائق كلّها الأخلاق الحسنة فقد اصطفاه.. قال شاعر النّيل أيضًا:
فَالنَّاسُ، هَذَا حَظُّهُ مَالٌ وَذَا

عِلْمٌ، وَذَاكَ مَكَارمُ الأَخْـــــــلَاقِ
فَإِذَا رُزِقْتَ خَلِيقَةً مَـْحمُــودَةً

فَقَدِ اصْطَفاَكَ مقُسِّمُ الأَرْزَاقِ

إنّ ما نعيشه اليوم من إفلاسات وانحرافات سلوكيّة وفكريّة واجتماعيّة… هو نتيجة حتميّة ومباشرة لنقص الأخلاق في مجتمعاتنا،، في مختلف الأصعدة، وفي مختلف الـمـستويات الاجتماعيّة والعلميّة والفكريّة والمهنيّة، وما نسجّله من ضعف في العلاقات فينا بيننا، وما نراه من التّعدّيات على بعضنا وغيرها من الـمظاهر السّلبيّة، بل الخطيرة على حياتنا بعامّة.. ليس سوى نتيجة لنقص في الأخلاق.
إنّ احتفالنا بمولد سيّد الأنام وناشر الأخلاق سيّنا محمّد عليه الصّلاة والسّلام.. يكون بتحمّل المسؤوليّة في مراجعة علاقتنا بالأخلاق التي يجب أن تسود في أوساطنا: في منظوماتنا التّربويّة، في حياتنا الـمنزليّة، في برامجنا الإعلاميّة، في مناهجنا التّكوينيّة والتّثقيفيّة، في علاقاتنا مع كلّ من نتعامل معه.
احتفالنا بمولد سيّد الأنام يكون بفحص تصرّفاتنا، وتقويم مسيراتنا ونقد تحرّكاتنا، والنّظر في واجباتنا، ماذا أتينا منها، وفيما نهينا عن اقترافه ماذا فعلنا فيه.. حسن الأخلاق هو الكفيل بإرشادنا إلى كلّ ذلك.
خلاصة القول: نحن نعاني من أزمة الأخلاق السّيّئة، ونشكو من نقص في ترسيخها في النّفوس، ونتحسّر من تقاعس الأسر في الـمجال، وعدم اهتمام المنظومة التّربويّة في كل مستوياتها في هذا الجانب.
احتفل أخي المسلم بما يجعلك أشدّ حبًّا بربّك العظيم، وأكثر تعلّقًا برسولك الكريم ، وأحسن مستفيد من هديه، وأقرب منزلا منه يوم القيامة.. اجعل احتفالك بمولد رسول البشريّة مناسبة للاتّعاظ والتّأسّي بسيرته، وتجديد العهد بالالتزام بشرع الله، ومطيّة إلى التّحلّي بالأخلاق الحسنة.. ففي هذا كلّ الخير لك، نسأل الله الهداية والرّشاد والسّداد وحسن القول وحسن الفعل وحسن الخاتمة…
الجزائر يوم الإثنين: 11 من ربيع الأوّل 1443ه
18 من أكتوبر 2021م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى