شعرية المكان في ديوان ( شط العرب ) للشاعر منذر عبد الحر

أ. د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

يلعبُ المكان دوراً مهِمَّاً في تكوين حياة البشر، وتثبيت هويتهم وتأطير طبائعهم؛  لكونهِ أشد التصاقاً بحياتهم وأكثر تغلغلاً بكيانهم، فهو أعمق جدلاً مع الذَّات، فإذا كان الزمن يُدرَك إدراكاً غيرَ مباشر من خلال فعلِهِ في الأشياء فإنَّ المكان يُدرَك إدراكاً حِسيَّاً فهو ما يُجسِّد ثنائيَّةَ الجسد والمكان، وهو بعبارةٍ أخرى مَكمَن القوى النفسيَّة والعقليَّة والباطنيَّة للكائن الحي، ليتعدَّاهُ بعدها إلى أقرب حيِّز يشغلُهُ جسمُ الإنسان كالثياب ثمَّ الحيز الأكبر كالغرفة إلى غير ذلك من الأمكنة([1]) , ويحتلُّ المكان دوراً مهِمَّاً في حياة الإنسان، وتظهر أهميتُهُ منذ اللحظة الأولى لتلقيح البويضة فيكونُ المكان الرحم الأول الذي يمارس به الإنسان تكوينَهُ البايولوجي، ثم يزداد المكان من حيث الأهميَّة للتمييز بين الأشياء التي تحتلُّ أهميتَها في حياة الإنسان ، فيرتبط الإنسان ارتباطاً ماديَّاً في تعامُلِهِ مع المكان ومحتوياتِهِ، وارتباطاً معنوياً يظهر في الارتباط مع المكان وما يشتمل عليه من معاني الفقد والزوال والذِّكريات([2]) , أمَّا المكان في العمل الأدبي فهو الذي يُحدِّد فهمَنا للعلاقة بين الواقع والنَّص الحديث من خلال جمالية الشكل المكاني لهما ، فالقدرة المكانية لجمالية المكان في القصيدة الحديثة تتأتَّى من قدرتِها على تقديم الصُّورة بطريقةٍ تختلف عن قدرتِها وطريقة تقديمِها عن أيَّة جماليَّة أخرى ، وبناءً على ذلك ينماز المكانُ بأنَّه أكثر الأحداث الفكرية تعقيداً في بناء الشِّعر الحديث، والتي يبرز فيها الشَّاعر كأنَّهُ النَّموذج الخلَّاق الذي لم يدِّخر جُهداً من شأنِهِ السيطرةُ على مفردات الحياة وإخضاعها لسيطرة الفرد([3]) ,وبناءً على ذلك تتنوَّع أشعار الشاعر الكبير منذر عبد الحر  المكانيَّة بين البصرة , والديوانية وبغداد، وهو ما يهمُّ ذاتَ الشَّاعر بوصفهِ عاش شطراً من حياتِهِ في بيئة البصرة الجنوبية، في حين تبنَّت مدينةُ البصرة احتضان إبداعِهِ الأدبي بما امتلكتهُ من طبيعةٍ خلَّابةٍ ونقاءٍ وصفاءٍ، ساعدت على نبوغِهِ الشِّعري ونظرتِهِ للنموذج المكاني فنراه يقول:

ما زال دم الفجيعة يسيل منها

الأمواج هاربة نحو الجنوب

وهي تحمل شهقات أغنية:

على شط العرب تحله

أغانينا وعلى البصرة

كمر ونجوم يا محله

ليالينا وعلى السهرة[4]

إذ يعمد الشَّاعر منذر عبد الحر إلى استحضار مجموعةٍ من العلاقات العاطفيَّة التي تُجسِّد علاقتَهُ بالآخَر المكاني المؤنسَن من خلال حضور عنصرَي القُرب والبُعد عَبر استعمال الدوالِّ التَّالية (الأمواج هاربة  ، كمر ونجوم)، فمدينةُ البصرة تعيش معهُ مع بُعدها عنهُ في المسافة، وقد نجحَ في إقامة علاقاتٍ إنسانية أزالت الحدودَ بين الذات والأشياء بعد أن شخَّصها وحاورَها وخلَعَ عليها حالاتٍ إنسانيةٍ جعلَها تقبل الحوارَ والمنادَمة والخجل, فالشاعر يُقيم علاقاتٍ مع الأشياء التي تُمكِّنهُ من تجسيد انفعالاتهِ، وهذه الأشياء الجامدة استطاعت هي الأخرى أن تكتسب صفاتاً جديدةً من خلال عملية إسقاط الانفعال الإنساني على الأشياء الجامدة ([5]),ويستمر في توحُّدِهِ مع ما في البصرة من سماءٍ, وأرضٍ ,فنراهُ يقول :

بدا الكورنيش صحراء

حين استبدل عشاقه الحالمين

بقطط ضالة

وكلاب سائبة

وجمع من المشردين

وتمثال شاعر

هجمت عليه الشايا

فثقبت قلبه وجيبه

وأبيات قصيدته [6]

إذ إنَّ الذات تتمسك بانتقاء ذلك المكان ومخاطبتهِ على الرَّغم من كثرة الوعود الزائفة التي تقاذفتهُ على امتداد الطَّريق الوعرة ، فالانتقاء مرهونٌ به والوعود مرهونة بالمكان وماتأتي به يد القدر على ذلك الطَّريق غير الواضح([7])، فالعلاقة بين الذات والمكان إذن علاقةُ حبٍّ ونقاءٍ تصدحُ بها تلك الغنائيةُ العاليةُ التي تُؤطِّر النَّص وذلك على النحو الذي يُصبِح فيه المكان وطناً للجسد ,والجسد يُلغي خارجَهُ أي إحساسٍ بثراء المكان وغناه وحساسيتهِ ([8])، فالذاتُ والمكان قد انصهرا في كلِّ شيء ليتبادلا المشاعرَ ومشقَّةَ الذات المستشعِرةِ لحُبَّ المكانِ الذي تبحث عنهُ ، وهو ما ألقى بظلاله على طبيعة الأنسنة المتاحة للذات ورغبتها في الإتِّحاد مع الآخَر المكاني المُستحضر، حتى في الصفات التي هي صفات مثل السَّماحة والنَّدى، والتي لا تكون إلَّا للكائن الحي لا للجماد ,ويَلِجُ أغلبُ الشعراء عالمَ المدينة المتداخِل والمتشابِك في مجمل تفاعلاتِهِ وإسقاطاته ، ويأخذ بعضَها لديه اتِّجاهاً مباشراً غير مرموزٍ إليه ، ويأتي الآخَر متخفِّياً خلفَ مسمَّياتٍ عدَّةٍ مثل المدينة في صورة أُنثى؛ ذلك أنَّ تصوُّرَ الشاعر الحديث للمدينة في صورة امرأةٍ ليس جديداً، بل يكاد يكون قصداً مشتركاً بين عددٍ كبيرٍ من الشُّعراء، فقد توافرت وظهرت في الأدب القديم والوسيط، ولا فرق عند الشَّاعر الحديث أن تكون المدينة تنتسب إلى العصر الحديث أو تضرب بجذورها إلى الحضارة القديمة، ويختلف الشُّعراء في طريقة تقديمهم للمدن فمنهم من يجدها وهي في حالةٍ نادرةٍ، ومنهم من يتحدَّث عنها بإطلاق مثل بغداد أو البصرة، ومن ثَمَّ فالشَّاعر ليس بصدد الثورة على الحضارة في ذكرِهِ المدينةَ وحبِّهِ إيَّاها أو كرهِها، وإنَّما هي صدمة علاقة بين ذاتَين يلجأُ إليهما الشَّاعر؛ لوجود الكثير من الإحباطات حولَهُ والتي قد تكون من وجهة نظر علماء الاجتماع نتيجةَ صراع أساس بين القيم ، أو بين الذات والمجموع أو بين الحرَّية والسُّلطة [9], يُقدِّم الشَّاعرُ منذر عبد الحر  مدينةَ بغداد/ الحبيبة  في صورة امرأةٍ جميلةٍ تُعذِّب الشاعرَ، وتُذكِي فيه ملامحَ الأسى واللوعة والحرمان فنراه يقول :

كفك

وهو يرقد في كفي

يشتعل راسي شغفا

وأنا أرى عربات

كأنها لحظات هاربة

أو

طيور مهاجرة

تحلق معها عيوننا

كفك يهمس

وكفي مصغ

تزهر منه وردة

تتسلق غصنك

حتى شفتيك[10]

وهذه الذات معذَّبةٌ هائمة أرَّقها البعدُ، وأذكى عليها ملامحَ التَّعب والذُّهول الذي وأن كان مريراً إلَّا أنَّها تؤمِّل نفسَها الحالمة بلُقيا من كان سببَ ضناها وشوقها ليكون هو المحبوب الأزلي، الذي يُمنِّي الشاعرُ نفسهُ في لقياهُ ليفيض عليه بإجلال الروح العاشقة حُبَّاً وحياةً, ولمَّا كان المكان في الدرس النَّفساني يستحيل إلى لونٍ من التمثيل والتَّصوُّر الذي يحدث على مستوى نفسيِّ ، ويتحدَّد بإطار الجسد، إذ يجعلها تتجسَّد بفعل المكان إلى جملةٍ من الأحاسيس والمشاعر التي ربما يكون المكان قد أثارها بفعل محمولاتِهِ التذكُّرية التي تتصل بالذات في لحظةٍ من لحظاتها السالفة([11])، وهذا التَّمثيل يُمكِّن الذاتَ من التقاط المشاعر، والأحاسيس المتخيَّلة عن المكان والمنبثقة عنه لتأخذ علاقة الذات بالمكان علاقة الانتماء والحلول، إذ يتمُّ التداخُل بينهما بالشِّكل الذي تتمظهر فيه علاقة الحب والأُلفة([12])، فنراهُ يقول:

كفي

حنجرة تطلق أغنية

وأنا انسج من الشجن

حكاية قمر سقط في بركة دمع

وكفين

جناحين من حلم

واسى [13]

إذ تبحث الذات عن حالةٍ من التَّوازُن في داخلها ؛ لأنَّها تُواجِه حالةً من الصِّراع الذي خَلَقَه التَّضادُّ اللغوي بين الأغنية والشجن، فعلى الرغم من التَّعب الجسدي للذات إلَّا أنها تُمنِّي النفسَ في نيل الرَّاحة النفسيَّة بما يخلق للحدث نوعاً من الواقعية اللغويَّة بين فعل الحكاية وحاجة الذات إلى ترجمة الألم،  ليتغير ذلك إلى شعور أرهقَ شاعرهُ وهو ما يفعله التَّضادُّ؛ لأنَّ المرهق أو المتعَب لا تتمثَّل لديه الرغبة في الكتابة الشعرية،  وإنَّما الغرض من ذلك كلِّهِ هو الفكرةُ التي ألحَّ عليها الشَّاعرُ منذر عبد الحر, والتي تجلَّت في النص الشعري، فالذاتُ القارئةُ لا يتراءى لها النوم ، فلا تدَعُ لها سبيلاً لنيل قسطٍ من الرَّاحة والاسترخاء وهو ما تحقَّقَ بفعل فكرة النَّص,فعالم الأفكار – وهو بطبيعته غير واقعي – يحاول أن يصبح واقعياً بمعانقتِهِ الأشياءَ والبروز من خلالها ([14]) ,ويستمر في شخصنة مدينتِهِ البصرة  على هيأة كائن حِسِّي فنراه يقول:

كلهم يخرجون عند الفجر

يطوفون شوارع المدينة

كل واحد يحمل ازميلا

وباقة ورد

وكتابا

ويشعلون شموعا

للمفقودين في تلافيف المحن

والغرقى

الذين نزلوا للقاع بحثا عن صدى الحكاية [15]

إذ تستفهم الذاتُ في بادئ الأمر عن الرؤية المستقبليَّة لا الرؤية البصريَّة ، فهذه الرؤية تريد جمعَ شتات البلاد واحتضانها من قبل الحبيبة البصرة ، التي تُجيب عن سؤاله ورغبتِهِ في لملمة مُدن الجِرَاح العربي تحت مظلَّة البصرة الدَّافئة، وهي محاولةٌ من الذات في سبيل الحفاظ على الهويَّة العراقية، وعدم تمزيقِها تحت مسمَّياتٍ متعدِّدةٍ لتندرج تحت علاقة الذات المتأصِّلة بالآخَر العراقي ، ومن دافع حبه لمدينته ومنشئه الأول , والمُدن سواء كانت وطناً ومسقط رأسٍ، أو مكان إقامة، أو غربة أو سياحة تلعب دوراً في هذا الفرد والشَّاعر بشكلٍ خاص، وتكون له تجارب عادة ما تُؤثِّر في حياتِهِ كلِّها ، وفي النَّتيجة كثيراً ما يبدو الحنين حين يتأرجح في ظروف معينة وكأنَّهُ حنين واستذكار للمدينة أو المكان عموماً[16],إذن فدلالةُ المكان في النَّص الشعري تأخذُ أبعاداً كثيرةً، وهذا يتأتَّى من أهمية حضورهِ لدى الشَّاعر، فتارةً يخلع عليه حالاتٍ إنسانية فيحاورُهُ وينادمُهُ ؛ ليكتسبَ صفاتٍ جديدة غير الصِّفة المكانيّة، وتارةً يُقدِّمهُ في صورة امرأةٍ أرَّقت عواطفَهُ لتجعلهُ متوحِّداً معهُ في المشاعر والأحاسيس، وتتأتَّى أهمية المكان أحياناً بما يحتلُّه من قدسيةٍ وطهارةٍ كانت سبباً في تَجلِّي حضورِها لدى الذات ووصف مظاهرها، وأحياناً يعمد إلى وصف ما تنماز به مدينتُهُ الأم البصرة من طبيعةٍ خلَّابةٍ ومشاهدَ جميلة ارتقت إلى مصافِّ الجِنان، فلا يستطيع الشاعرُ منذر عبد الحر معها الابتعاد أو المفارقة، وأحياناً أُخَر يأمل الشَّاعرُ من محبوبِهِ المكاني أنْ يُسهِمَ في جمع شتات مُدن الجِراح العراقية، وحلحلة الموقف المتأزِّم .

المراجع:

([1]) ينظر : دلالة المدينة في الخطاب الشعري العربي المعاصر: 267 .

([2]) ينظر : النور والظلام في شعر البحتري : 125 .

([3]) ينظر : إشكالية المكان في النّص الأدبي :: 393-394 .

[4] ديوان شط العرب : منذر عبد الحر : 65 0

([5]) جماليات الأسلوب والتلقي ، دراسات تطبيقية: 78 .

[6] ديوان شط العرب :65 0

([7]) ينظر : النَّص الأدبي من التكوين الشِّعري إلى أنماط الصُّورة البيانيَّة وهيمنة التَّلوين الشعوري ، دراسات أدبيَّة وتطبيقيَّة 64 .

([8]) تأويل النّص الشعري : 217 .

([9]) ينظر : اتجاهات الشعر العربي المعاصر : 91 .

[10] ديوان شط العرب : 6 0

([11]) ينظر : فلسفة المكان في الشعر العربي: 131 .

([12]) ينظر : تمثيلات الذات المروية على لسان الأنا : 219 .

[13] ديوان شط العرب : 7 0

([14]) التفسير النفسي للأدب : 57 .

[15] ديوان شط العرب : 68 0

[16] الذات والآخر في شعر جميل حيدر : علي حسن عبيد : 109 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى