الشادوف

د. محمود رمضان | أكاديمي مصري

شيخ بلغ الثمانين عاماً، يقف صلباً كنخلة تؤتي ثمرها، فارع الطول، مهاب المنظر، يداه خشنتان من أثر الزراعة التي احترفها طوال عمره ولا يزال، نظر إليّ بعمق عقود مضت بحلوها ومرها كانت قد تشبعت خلاياها بكفاح شريف للإنسان مع الطبيعة وترويض طمي النيل ومياهه، جاءت نبرات صوته قوية تنساب موسيقاها في لحن بمقام حجاز على أوتار الشادوف العتيق، قال:  

يا ولدي، كنا نزرع أراضينا ونرويها بالأدوات البدائية، فكنا نبذل الجهد والعرق في الأرض، وكما ترى، فلازلت عفياً رغم أعوامي الثمانين، أما الآن، فماكينات الري والزراعة الحديثة التي تعمل بالوقود أو الكهرباء لا تتطلب جهداً، أرهقت الفلاحين، وقد تجد فلاحاً أربعيني العمر وليس في صحتي وعافيتي الآن.

كنا عشرة أخوة، ولدينا خمسة عشر فداناً، ننزل الأرض نعزقها بالفؤوس، ونستخدم النورج والطمبورة والشادوف ونديرها بقوتنا البدنية، وليس بين أرضنا حدود، هي ملكناً جميعاً، من مات منا فنصيبه من الأرض لأولاده وبناته، والجميع يزرع، ولنا قانوننا غير المكتوب، الأرض عرض، لا نبيع سهماً ولا قيراطاً ولو بمال الدنيا.

والشادوف، يا ولدي، وجدناه منذ أجدادنا، آلة بدائية لرفع الماء من الترعة للأرض، عبارة عن رافعة طويلة بها جرة واسعة، نشد الحبل فنرفع الجرة من الترعة ثم نرخيه فينقلب ماء الجرة على الأرض، ليسير الماء في قنايات تتخلل الأسهم والقراريط، ونروي أرضنا بمجهودنا العضلي، كنا نستغرق شهراً كاملاً لري الخمسة عشر فداناً بالشادوف، ولم يسقط منا حجر رافعة الشادوف في أثناء الري، فبعد نهاية اليوم قرب مغرب الشمس، كنا نتمم على ربط حجر الرافعة ونتأكد من قوة الحبال وسلامة الجرة المعلقة بالرافعة التي تجلب الماء من الترعة.

يحكي لي حفيدي المهندس الزراعي تاريخ الشادوف، وأخبرني أنه كان آلة الري في عهد الفراعنة ويعود تاريخه إلى خمسة آلاف عام، وقد صدقته، فعندما زرت الأماكن الأثرية رأيت أدوات الزراعة البدائية محفورة بنقوش ملونة على جدران المعابد الأثرية، وكانت أجساد الفلاحين رشيقة، لأنهم كانوا يعملون بهذه الأدوات البسيطة ويبذلون مجهوداً بدنياً، وبالتأكيد كانوا بصحة وعافية مهما تقدم بهم العمر، مثلي تماماً.

ياولدي، لقد أحببت الشاعر أحمد فؤاد نجم، عندما ألقى قصيدة (آدي مصر)، الذي يفتخر بمصريته ونحن جميعاً نفتخر بأننا أبناء أم الدنيا مصر، تقول القصيدة:

آدي مصر أم الولاد أم البنات أمات مرايل

أم العرق يسقي في جفافه في المسا كل الخمايل

آدي مصر الشابة هابة

أدي مصر اللي نسيتوها

يا ما قلتوا عنها العجوزة لما كانت لسة شابة

حسبنا نسينا الحقيقة هي كانت بالحقيقة

هي اللي مهما الموج هيعلى عمرها ما تكون غريقة

أصلها مصر الأيادي المنزلة

مصر القدوم والمنجلة

مصر الشادوف والمنقلة

أصلها يا اخوانا تبقى مصرنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى