وأكلت (عَلقة) لم يأكلها حمار في مطلع !

صبري الموجي | مصر

لم يكن خوفُ أخواتي عليَّ مُصطنعا، وحرصُهم عليّ مُتكلفا، بل كان خوفَ طبع، وحرصَ فِطرة وجِبلة معا.

كنتُ الولدَ الوحيد الذي عاش لأبوين كادحين لم ينالا أيَّ قدر من التعليم في المدارس النظامية، بل تعلما في مدرسة الحياة كثيرا من المُثل والمبادئ، وربوا أبناءهم علي تلك المبادئ التي كان من أهمها القناعة والرضا بالمقسوم، فكانت أمي كثيرا ما تُردد علي أسماعنا : الرضا بالمقسوم عبادة !

عشتُ – عن غير شطارة مني – لأبويّ بعد موت عدة ذكور في الشهور الأولي لوضع أمي، بل منهم من نزل سَقطا، دون أن تكتمل به فرحتُها، فكنتُ – بفضل دعاء والديّ – الناجيّ الوحيد من براثن ذلك الشبح المخيف (الموت)، الذي ما انفك يسرقُ إخوتي الذكور، تاركا أمي لا يرقأ لها دمع، بعدما عجزت عن أن تأتي لأبي بولد ذكر، يكون عونا له وسندا في تلك الحياة الصعبة، التي كان العيالُ فيها عزوة بحق.
ظل ظهر أبي مُنكسرا – هكذا قالوا لي – حتي جئتُ للحياة فكستْ الابتسامةُ وجهه، ومن قبله وجه أمي المسكينة .

في بيتنا الريفي، والذي كان عبارة عن دور أرضي مبنيٍ من الطوب الأحمر، خلافا لمُعظم بيوت القرية المبنية من الطوب اللبن، تعلوها أطواف من روث المواشي الجاف، والذي يستخدم كوقيد لأفران المنازل، عشتُ كما يعيش الملوك والأمراء وسط الخدم والحشم، إذ كانت كلُ طلباتي من أخواتي البنات مُجابة، ولا تجرؤ إحداهن (أن تدوس لي علي طرف)؛ لأنني كنتُ ديك البرابر، راسمَ الفرحة علي وجه والديّه بعد طول انتظار وشوق!

إذا شعرتُ بالعطش جاءت إحداهن إليّ بالماء قبل أن أطلب، وإذا اشتهيت الطعام تسابقن جميعا في (تجهيز المحمر والمشمر)؛ مخافة أن أخبر والديّ – خاصة أمي رحمها الله – بأنهن تأخرن في خدمتي، فيكون عقابُهن وخيما !

كانت حياتي في أسرتي حياةَ ترف ونعيم، أأمر فأُطاع، وأطلب فأُجاب، وأتكلم فيسمعون، وأغني رغم أن صوتي نشازٌ فيطربون !

رغم هذا النعيم، الذي كان يحسدوني عليه الكثيرون، لم أكن أشعر بالسعادة الحقيقية، إذا كنت محروما من اللهو واللعب مع أقراني؛ مخافة أن يصيبني أثناء اللعب ضررٌ، أو يلحق بي مكروه.

كان خوف أسرتي علي زائدا عن الحد، فكان أشبه بقيدٍ من حديد يعوق حركتي ويقتل فرحتي، التي ما كانت تكتملُ إلا مراتٍ قليلة ولفترات محدودة، حينما أُغافل أخواتي، وأنطلق إلي الشارع أثناء وجود والديّ بالحقل .

كان الشارعُ عالمي المنشود، أتطلعُ إليه من شُرفة منزلنا، كما يتطلع السجين إلي عالم البشر، يعُد الأيام والساعات انتظارا للحظة الإفراج عنه !

في ظهيرة أحد الأيام غافلتُ أختي الكبري التي خلدت إلي النوم بعد يوم عمل شاق بدأ مُنذ الصباح، حيث قامت بتنظيف البيت وتنظيمه، وتحضير طعام الغداء، وملء طست الماء من إحدي الطلمبات الحبشية المجاورة بساقية (جبر)، ثم قامت بتفريغ بعض الماء بالقلال المصنوعة من الفخار قبل رجوع أبويّ من الحقل؛ لنستمتع بشربه باردا بعد الغداء في أيام الحر القائظ !

أقول – في ظهيرة ذلك اليوم – غافلتُ أختي، وانطلقت إلي الشارع ككتكوت كسر جدار البيضة وخرج يرفرف بجناحيه فرحا بذلك العالم حيث اللهو واللعب.

قطعتُ شوطا من اللعب مع أصدقائي، وجلستُ أستريح بعض الوقت في ظل جدار، فمر عليّ شابٌ يمسك بين سبابته والوسطي سيجارة يرفعها إلي فمه ويأخذ نفسا عميقا، فيخرج من فمه دخانٌ أبيض يتطاير .

أعجبني هذا المنظر، وعزمت علي أن أعرف هذا المذاق، الذي جعل الشاب يتراقص مع كلِ نفس، فشرعتُ أقتفي أثره وأتتبع خطاه، كنت مثل ظله، أقف حينما يقف، وأسير حينما يسير، بل وأغذ في السير كلما أسرع ذلك الشابُ خطاه.

كنت أنتظر تلك اللحظة الحاسمة، حينما يرمي الشاب(عُقب) أو قمع السيجارة إلي الأرض فأستله وأضعه في فمي لأذوق ذلك الطعم، وأُخرج من خياشيمي ذلك الدخان الأبيض، الذي سرعان ما يختفي بعدما يرسم شبكة عنكبوتية !

مشي الشابُ مسافاتٍ طويلة، جعلتني علي يقين بأنني توهت عن البيت، ولكن (ولو)، المُهم أن أفوز بعقب السيجارة، والذي بمجرد أن رماه التقطته يدي، وقبل أن أضعه في فمي وجدت أبي واقفا أمامي أثناء عودته من الحقل، إذا كان الطريق الذي سلكه الشاب هو نفس طريق عودته، وبدلا من الفوز بنفس أو نفسين من قمع السيجارة أكلتُ(علقة) لم يأكلها حمار في مطلع !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى