في العلاقة بين الثقافة والاستبداد

د. خضر محجز | فلسطين

يقول ابن كثير: “ويُذكر أن حجراً [بن عدي] لما أرادوا قتله قال: دعوني حتى أتوضأ. فقالوا: توضأ. فقال: دعوني حتى أصلي ركعتين. فصلاهما وخفّف فيهما. ثم قال: لولا أن يقولوا ما بي جزع من الموت، لطوّلتهما. ثم قال: قد تقدم لهما صلوات كثيرة. ثم قدموه للقتل، وقد حُفرت قبورهم، ونُشرت أكفانهم. فلما تقدم إليه السياف، ارتعدت فرائصه. فقيل له: إنك قلتَ: لستُ بجازع!. فقال: وما لي لا أجزع، وأنا أرى قبراً محفوراً وكفناً منشوراً وسيفاً مشهوراً!. فأرسلها مثلاً. ثم تقدم إليه السياف… فقال له: أمدد عنقك. فقال: لا أعين على قتل نفسي. فضربه فقتله. وكان قد أوصى أن يُدفن في قيوده. ففُعل به ذلك. وقيل: بل صلوا عليه وغسّلوه. ورُوي أن الحسن بن علي ـ عليه السلام ـ قال: أصلوا عليه ودفنوه في قيوده؟. قالوا: نعم. قال: حجّهم والله”(1).

العداء الجوهري الوحيد القائم، في منظور المستبد، هو بينه وبين الرعية: إذ يرى المستبد في كل من هو واقع تحت سيطرته، خطراً ماثلاً أو خطراً متوقعاً؛ لذا تراه دائم الانشغال بالبحث عن الأعداء في الداخل، تاركاً كل الجبهات مفتوحة أمام أعداء الخارج.

المستبد ممتلئٌ بنفسه، مكتفٍ بمواهبه، غنيٌ عن غيره، ودائم الشعور بحاجة الآخرين إليه؛ لذا فإنه لا يسمع في آهات الجائعين ولهاث المقرورين وآلام المعذبين، إلا محاولات ماكرة، من المحكومين، للفوز ببعض العطف من الحاكم، ونوال بعض مما “لديه”. فلا جرم أن عميت بصيرته عن ترجمة ما التقطته حواسه، وبدا مستغرباً صدور أي صرخة احتجاج، ولسان حاله يقول: لم يحتجون! وماذا يريدون؟!. ألست أنا الذي يمنح ويمنع؟! مستذكراً المقولة السلطانية العابرة للزمن، التي قالها يوماً مستبد لازمني بليغ، وظلت أقواله كتاباً مقدساً للمستبدين وخادميهم.

قال أبو جعفر المنصور: “أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله؛ أقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلاً، فإن شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإن شاء أن يقفلني عليه قفلني. فارغبوا إلى الله أيها الناس أن يوفقني للصواب، ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم”(2).

يزدهر الاستبداد بكتبة الأوراق، وحاملي العلوم الشرعية، ويزدهرون به: يزدهر بهم؛ لأنهم الموكلون بتطويع النصوص لرغبات المستبد، وإقناع البسطاء بحقيقة الحاكم، وحاكم الحقيقة.

ويزدهرون به؛ حين تُفتح لهم كل الأبواب، وتُنعم عليهم كل الألقاب، وتُتخم بطونهم وجيوبهم. وكلما أمعنوا في الفتوى، أمعن في التقتيل.

هؤلاء هم المثقفون الذين يرغب بهم المستبد، ويكل إليهم صياغة وعي الناس.

مع (طول العشرة) يكتشف المستبد أن لدى هؤلاء المفتين حلولاً سحرية، لكل المسائل العويصة، ولكل مشاكله مع الرعية؛ ويكتشفون لديه حلولاً وإشباعات مقنعة، لكل ما يتوقون إليه من أمن فردي، منتزع من أتون الظلم العام: يجد فيهم مرجعيته الفلسفية، ويجدون فيه انبعاث قيمة هذه المرجعية، القادمة من بطون كتب الماضي: فهو “ولي الأمر” الذي أُمرت الأمة بطاعته ولو ظلم، لأن في الخروج عليه (فتنة) لم يحبذها العلماء، طوال عهود الماضي (المشرق).

لا شيء أكثر خطراً على المفتين من الديموقراطية؛ فحكم الشعب، ومساءلة الحاكم، أمور ليست مصادمة لمبدأ ولاية الأمر فحسب، بل كذلك لمرجعية المفتين، ومعاودةٌ جادة لاكتشاف الطرائق والآليات، التي وصلوا من خلالها إلى كل هذه المكتسبات.

الديموقراطية آلية حية، تصادم نهائية فتاواهم، بمراجعات الأفراد، وتعارض تفسيراتهم المتكلسة، بقيامة العقل.

إن مراجعة الديموقراطية لمنظومة المؤسسة الدينية، سوف تلقي الضوء على تلك الطريقة السخيفة، التي طالما أتاحت لكل متخلف عقلي ـ أو ناجح بدرجة مقبول ـ الالتحاق بمؤسسات الدراسات الشرعية، تمهيداً للتخرج بلقب عالم أو دكتور، ثم الوصول إلى مرتبة المفتي، الذي يجد ـ بالضرورة ـ طريقه إلى المستبد، ويجد المستبد بحكم الواقع طريقه إليه. فالمفتون يعلمون أن الديموقراطية سوف تكتشف طرائقها الخاصة، لمعالجة مثل هذا المرض (المفيد).

ينشأ المستبد المثالي، في هذا الشرق، بفعل عدة عوامل. ويستمر هذا القهر في التوالد والنمو بفعل نفس العوامل، لكن الثقافة السائدة ليست بعيدة عن فرض هذه العوامل والترويج لها، حيث تتحول كتب التاريخ إلى مستودع أمثلة، يعيد إنتاج الاستلاب: ولا جرم أن ربطت بين كل من المستبد والمفتي علاقةٌ مرجعيةٌ واحدةٌ هي الماضي، الذي يحصر مهمة المفتي في امتشاق النصوص، تأكيداً لأحقية السلطان في التفرد بالحكم والثروة. في مثل هذه الحالة تتحول الكتب إلى مصدر قهر، بدلاً من أن تكون انبعاثاً حراً لإرادة الإنسان.

ولننظر كيف قرأ المفتون حادثة تاريخية حدثت في العصر العباسي، ليستنتجوا منها عكس ما يمكن لأي عقل حرٍّ أن يستنتجه: في الصفحات الأولى لمقدمة كتاب الأم، الذي كتبه الإمام الشافعي في القرن الهجري الثالث، ينقل لنا محقق الكتاب ـ الذي لا شك أنه من مفتي اليوم ـ قصة حدثت في العصر العباسي الأول، تروي كيفية اعتقال الشافعي في اليمن، ونقله مهاناً إلى بلاط هارون الرشيد في بغداد.

وبعد أن أعدم الرشيد أمام عينيه كل مرافقيه، سمح له بالكلام. فكان ما يلي: “فقال الشافعي: أما وقد استنطقتني يا أمير المؤمنين، فسأتكلم بالعدل والإنصاف. ولكن الكلام مع ثقل الحديد صعب. فإن جُدتَ عليّ بفكه عن قدميّ، جثيتُ على ركبتيّ، كسيرة آبائي عند آبائك، وأفصحتُ عن نفسي، وإن كانت الأخرى فيدك العليا ويدي السفلى والله غني حميد. فالتفت الرشيد إلى غلامه سراج، وقال له: حُلَّ عنه. فأخذ سراج ما في قدميه من الحديد. فجثا الشافعي على ركبتيه وقال: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا”. حاشا لله أن أكون ذلك الرجل. لقد أفك المبلّغ فيما بلّغك به. إن لي حرمة الإسلام، وذمّة النسب، وكفى بها وسيلة. أنت أحق من أخذ بأدب كتاب الله: أنت ابن عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذابّ عن دينه، المحامي عن ملته. فتهلل وجه الرشيد، ثم قال: ليُفرخْ روعك؛ فإنّا نراعي حق قرابتك وعلمك. ثم أمره بالقعود، فقعد”(3).

ليس مهماً أن يكون قد حدث هذا فعلاً، أو أن الحادثة مصنوعة، فكلا الأمرين سيان: لأنها رواية يعتز بها الشافعيون وينقلونها في كتبهم، ويستظهرونها لدى كل حادثة جديدة.

قد لا يكون الشافعي قد قال هذا أصلاً، لكن مذهبه ـ الذي تم الترويج له ـ يقول هذا، بدليل هذا النقل العابر للزمن، في كتابٍ مؤسس للمذهب.

إن الخطير في نقل هذا النص، من رواية الماضي إلى كتاب اليوم، ليس هو هذه الصورة المستكينة، التي بدا عليها رجل تأخذ الأمة عنه دينها فحسب، بل وجود مثل هذه العقلية، التي استمرأت نقل هذا النص إلى طلاب العلم الشرعي، بعد أكثر من اثني عشر قرناً من حدوثه، أو تأليفه!.

يظهر الشافعي ـ في هذا النص المستدعىٰ أبداً ـ رجلاً ذليلاً؛ يتوسل حياته بتزوير النصوص الدينية، وتطويعها لخدمة المستبد. ويظهر المستبد فيه شخصاً يستحق التقدير؛ لعفوه عن إمام الأمة، بغض النظر عن حجم هذا القتل الذريع، الذي مارسه قبل لحظات!.

لكن الأخطر من كل شيء في هذا النص أمران، كلاهما يشي بنص مضمر، يختفي تحت قشرة هذا المعلن المكتوب، هما:

1ـ إعجاب غير محدود ببلاغة توسلت بالكذب والقرابة، للفرار من الموت.

2ـ إعجاب متجاوز للزمن بالحاكم، الذي يسمح له (عدله) بالعفو عن (أئمة الدين)، حتى لو قتل المئات من أبناء الشعب.

وهكذا ينهض من هذا النص المتجاوز للزمن وعي ماضوي لا يعترف بالمستقبل، ولا ينظر إلى الحاضر إلا بمنظار المصلحة الذاتية!. ومن المعلوم أن من كان هذا وعيه، فسوف لا يجد مصلحته الحقيقية إلا في الترويج للاستبداد!..

هكذا تستكين الأمة المقهورة بالنصوص، وتقبل بـ(أمر الله)؛ ويستكين العلماء لرغبة الحاكم، في البحث عن نصوص (أكثر وضوحاً)؛ ويستكين (ظل الله) لأمر هذه النصوص، فيزداد استبداداً، طاعة لـ(أمر الله)، في هذه الأمة المأمورة بالاستكانة، اقتداءً بالأئمة.

يشهر المفتي نصوصاً مجردة عن التاريخ، متعالية على مناسباتها، فتتبدى حقائقَ كليةً قادرةً على الحضور في كل الأوقات.

ويشهر المستبد سيفاً، ويفرش نطعاً، ويأمر السياف بعرض المتسائلين عليهما(4). ولسوف تكون النتيجة بعد ذلك معروفة سلفاً: انكسار السؤال، وانتصار السيف، كما رأينا في حادثة الشافعي.

يقتنص المستبد ألقاب العزة والجبروت، موحداً ذاته العلية مع الله. وينزوي المواطن متلفعاً بألقاب أعدها له العلماء المتمكنون: (الغوغاء، العامة، السابلة، الرعية، الدهماء، الرعاع، السوقة…) مكتفيا بها عن الموت، غير مدرك أن (ظل الله) هذا يخشى الغوغاء، ولا يرى له من وسيلة معهم سوى المزيد من الاستبداد.

في وعي هؤلاء المفتين لا وجود لصفات خارج مستودعهم الماضوي، ولا وجود لوعي بعيداً عن مصادرهم المتقادمة. وعندما يتحول الماضي إلى وثن، يتحول خدامه إلى سدنة.

وحتى عندما يتوسل، في هذا الشرق، حكمٌ ببعض أدوات الديموقراطية، فإنه لا يستغني عن هؤلاء المفتين، ليبرروا له الفساد والقهر، وليغروه بالانقلاب على الديموقراطية، كما رأينا في الجزائر وفلسطين، حيث بادر المفتون في الحالة الأولى إلى الإعلان عن نهاية عصر الديموقراطية، فور ظهور النتائج الأولية للانتخابات، وبادر زملاؤهم هنا إلى تجاوز كل السلطات، واستغلال المنابر لوصف رئيس الوزراء بـ(أمير البلاد)، متناسين وجود مؤسسات حديثة تلغي هذا اللقب القديم، ووجود رئيس أعلى ـ انتُخب على أساس ديموقراطي ـ رأساً لهذه السلطة، التي وصلوا إليها. فالمفتون لا يكتفون بوأد المؤسسة الديموقراطية، بل يحرصون على وأد رموزها، كذلك، لصالح رموز ماضوية، تتيح لهم التنعم على حساب “العامة” و”الدهماء” و”الغوغاء” و”السوقة”.

ـــــــــــــــــ

الإحالات:

1ـ البداية والنهاية. م4. ج8. بيروت. دار الفكر. 1978. ص52 ــ 53

2ـ ابن قتيبة الدينوري. عيون الأخبار. القاهرة. دار الكتب المصرية. ج2. 1996. ص251 ــ 252

3ـ الأم. المجلد الأول. أشرف على طبعه وباشر تصحيحه: محمد زهدي النجار من علماء الأزهر. دار المعرفة. بيروت. صفحات مرقومة بالحروف الهجائية: الصفحة: هـ

4ـ في العصرين الأموي والعباسي، كان العرض على السيف يتم بالطريقة التالية: يتم تقييد يدي الضحية، ثم يفرش بساط جلدي تحت قدميه (النطع) ليتلقى الدم، فلا يسقط على رخام السلطان. ثم يهوي السياف بالضربة على عنق الضحية، متوقفاً عند السنتمتر الأخير. ثم يعيد السلطان على الضحية السؤال، مستفسراً إن كانت ستقبل بما يملى عليها، أم تعود إلى تجربة (قطع العنق) التي قد تكون حقيقية هذه المرة؛ إذ لا أحد يعلم، سوى السلطان، لحظة التنفيذ الحقيقي. وبهذه الطريقة أعدم الأمويون والعباسيون كل المعارضين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى